نحن وتاريخنا صبحي جبر

تعقيب..

يجب الاعتراف بأن الأمة الإسلامية بما صارت إليه من تخلف وهزائم في شتى الميادين، يمكن أن تعتبر أنموذجا لتلك الامة التي أهملت تاريخها، ولم تحسن قراءته.. حتى كادت تفقد أو هي فقدت الاعتبار وأصيبت بعطل التبصر. ولعل من أبرز ظواهر غياب الوعي التاريخي تلك التي يلمحها الإنسان في مسيرة العمل الإسلامي ومجال العاملين: العجز المزمن أو عدم القدرة على الاستفادة من تجربة العمل الإسلامي الواحد أو من تجارب العمل الإسلامي على الساحة الإسلامية بشكل عام، لذلك فإن تكرار الأخطاء أصبح وكأنه ضربة لازب وضريبة مستمره مطلوب إلينا ان نقدمها في كل بلد إسلامي أو حتى في البلد الواحد نفسه. إن المفروض في المسلم أن يكون قادراً، على الاستبصار والاعتبار بالتاريخ العام وبعبر الحوادث من حوله، فكيف إذا كان عاجزا عن الاعتبار بتاريخه الخاص وتجنب العثرات التي سبق له السقوط فيها. إن هذه العثرات والأخطاء تتكرر دائما، والكل يشكو، والكل ينتهى عند عتبة الشكوى وكأنها العلاج، ولو طلب إلى أحدنا أن يأتي على ذكر الآيات القرآنية التي تدعو إلى النظر والاعتبار لأتى عليها بسهولة، لكننا جميعاً- إلا من رحم الله- نبقى عاجزين عن إعمالها في حياتنا ومشكلاتنا فنقع في عملية الهجر والعقوق لقراننا، التي حذر الرسول عليه الصلاة والسلام من الوقوع فيها. قال تعالى: وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا الفرقان، 30، والهجر هذا لا يعني: عدم التلاوة والقراءة فقط وإنما يعني أيضا العجز عن وضع خطاب التكليف في مكانه المطلوب من حياتنا، وحكمنا على الأشياء من خلال قيم الكتاب والسنة.. فإلى متى يتكرر اللدغ من الجحر نفسه أو من الجحور المماثلة؟ وإلى متى يظل الإنسان المسلم يفقد مقومات شخصيته.. حتى بات في حالة لا تؤهله للاستجابة الملائمة للتحدي الحضاري.

ونستطيع أن نقول: لقد مرت الدعوة الإسلامية في تاريخها الطويل بتجارب متنوعة وسلكت طرقا شتى للتغيير ومناهج متنوعة للتربية والتحصين عند العجز عن التغيير، وعلى مستوى العصر الحاضر أيضا كانت تجاربها غنية ومتنوعة على امتداد خارطة العالم الإسلامي والعالم، كانت هناك تجارب للمعارضة السياسية أخذت أكثر من شكل، وتجارب أخرى للمواجهة السياسية، وتجارب في المشاركة السياسية، كما كانت هناك تجارب في المهادنة والمسالمة. ومع ذلك تكاد تخلو المكتبة الإسلامية الحديثة من الدراسات التاريخية والنقدية التقويمية للمراحل التي مرت بها الدعوة الإسلامية والتجارب التي عانتها رغم كثرتها، التي تبصر الجيل بتاريخه وتعرفه بجوانب الإخفاق وأسبابه، وجوانب النجاح وعوامله.

والشيء المحزن حقا أن الأمة الإسلامية لم تهمل فقط تاريخها وإنما ابتليت أيضا بمن يعبث بهذا التاريخ من أبنائها، فيقرؤه بغير أبجديته- عن جهل أو تجاهل أو قصد- حتى نجد أن كثيراً من الأحداث التي قد يكون الإنسان معاصراً لها أو معايشاً إياها، دونت وتناقلها الناس على غير حقيقتها، أو غير الوجه الذي يجب أن تدون عليه، فكم من هزيمة قدمت للناس على أنها نصر مؤزر، وكم من متزعم أو متسلط رويت سيرته على أنه من أعدل العادلين وكم من مظلمة اجتماعية قدمت على أنها عدالة بين الناس ومساواة في التوزيع..

الحركة الصهيونية والدراسات التاريخية

في الوقت نفسه أدرك اليهود أهمية التاريخ ودراسته فاهتموا بقراءة التاريخ الإسلامي ومعرفته ليتمكنوا من خلاله من الإحاطة بنقاط الضعف والقوة مما يسهل لهم ما يريدون،- يقول موسى ليفى رئيس أركان جيش إسرائيل (من دراسة أعدتها أورينت بريس ونشرتها جريدة الوطن الكويتية): "حصلت على دبلوم في التاريخ الإسلامي لأعرف كيف أحارب المسلمين وأنتصر عليهم".

واستطاعوا فعلاً إقناع العالم بما يزعمون مدعين حقوقاً لهم في فلسطين بعد أن سيطروا على الدراسات التاريخية في الغرب، فكتبوا التاريخ وزوروا فيه ما اشتهوا.. فرأى الناس هناك أن التاريخ مع اليهود.

وعلى المستوى الداخلي.. عرفوا كيف يغرسون الحس التاريخي بأبجدية حددت أطرها ومعالمها رؤية دينية توراتية في النشء اليهودي، فأول ما يعلمونه لأطفالهم في دور الحضانة "أورشليم حبيبتي" ثم يتتابع توظيفهم للتاريخ في مختلف مراحل التعليم والتثقيف.

حاجتنا إلى الوعى التاريخي

إن واجب الخروج من التخلف يدعونا إلى دراسة الماضي وتحليله، على ألا تقتصر تلك الدراسة على بطولات الحكام والقادة والزعماء، بل تمتد وتشمل تحليل التحولات الاجتماعية والاقتصادية ومدى مساهمة الإنسان المسلم في تلك التحولات. والمهم هو الاستفادة من هذه الدراسات في حاضر الأمة ومستقبلها وهذا لا يتحقق إلا بالوعي التاريخي، فالوعي التاريخي يعني الاستفادة من تجارب الماضي لصالح الحاضر وليس على حساب الحاضر والمستقبل "ويمكن توافر هذا الوعي بالنقد الذي يجب أن يشمل جميع نواحي الحياة في مجتمعنا..

وسواء قلنا إن التاريخ يعاد بنفسه أو لا، فإن هناك سننا تحكم قيام الأمم وسقوطها وتتكرر النتائج كلما تحصلت الأسباب. والوعى التاريخي دليلنا لفهم اعمق لأسباب الهزائم المتكررة وأسباب الانهيار العسكرية مثل هزيمة 1967 وغيرها من الجولات العسكرية والسياسية التي خاضتها الأمة العربية مع إسرائيل.. فقد علمتنا هذه التجارب أن عجز الأمة هو عجز شامل في جميع الميادين، وهذا العجز ناتج عن فقداننا هويتنا الأصيلة واستمرار التبعية والتخلف. وأن التحالف الأوربي الأمريكي الصهيوني هو الصورة الحديثة والامتداد الطبيعي للحملات الصليبية وإلا بماذا نفسر التأييد المادي والعسكري والسياسي الأوربي الأمريكي لإسرائيل، وأن الأمة قادرة على تحقيق النصر إذا هي عادت إلى تاريخها وتزودت من معينه الخصب.