إلى أن نلتقي

إلى أن نلتقي

هل من السهل استئصالها؟

غريب أمر هذه المجلة، على مدى نصف قرن وهي تشرق كل شهر، لم تمل من معاودة الشروق، ولم تفقد قدرتها على الإبلاغ والإقناع والإمتاع والإدهاش والإبهار، ولم تنطفئ ملامح الجاذبية والإغراء والإثارة، التي تعلو سحنتها، ومازالت تصر بكل عناد على لم الشمل العربي المتشظي، وعلى استثارة قريحة الكتاب والمبدعين والمفكرين، لرص جيد الكلام ولآلئه، في عيدها الذهبي.

تحتفل مجلة «العربي» بذكراها الخمسين، لا لكي تذكرنا بحضورها، فنحن أسرى شباكها المحكومة السبك منذ سنوات خلت، ولا لكي تبكي الشيب الذي غزا مفرقيها، فهي لم تفقد من ألق الشباب وبهجته شيئا، بل فقط، وبكل بساطة، لكي تحتفل بديمومتها، وبنفسها العتيد والعنيد، وبأفقها الرحب، الذي كان دائمًا يبصر أبعد من عتبة داره الضيقة.

ونحن نحتفي معها بيوبيلها الذهبي، تشعل مجلة «العربي» في ذاكرتنا قناديل البهجة والحنين. التقت عيناي مصادفة بها في صغري، وهي تملأ البيت بشغبها وحيويتها، أينما حللت أجدها، في مكتبة البيت، في المطبخ، في غرفة الجلوس، فوق المنضدة.. تنافسني في حب والدتي، أمزقها بدافع الغيرة، تعاند وتصر على البقاء، وعلى الظفر بحرص والدتي الشديد، أتلقى تأنيبًا صارم اللهجة. مع مرور الزمن، استوعبت الدرس جيدا، ومارست عشقي السري تجاهها، وتحولت غيرتي الطفولية إلى فروسية، لقطع دابر كل من مسها بسوء أو حاول إبعادها عني.

من منا لم ترتبط مجلة «العربي» بطفولته، من منا لم يطفُ على سطح ذاكرته الآن، لقاء الحب الصاعق الذي جمعه بها؟ لكن الجميل فيها أنها لم تبق أسيرة صبانا، بل رافقتنا في مشوارنا الحياتي والمعرفي، لتنحت كينونتنا المعرفية والاجتماعية، رافقتنا ونحن ننحت كياننا وذاتنا، لتمنحنا قوة الأصالة ودهشة المعاصرة.

لا أعرف لماذا تبدو لي مجلة «العربي» في مسارها الطويل والمضني، المؤرق بهاجس التجديد والإصلاح والتنوير، أشبه بتلك المرأة الحكيمة الذكية، تلك التي تقاوم وتجاهد، كي تمضي بسفينة حياتها الزوجية إلى بر الأمان، فلا يكفي أن تكون المرأة جميلة ومثيرة، كي تضمن لحياتها الزوجية أمانًا واستقرارًا. ومجلة «العربي» جمعت بين جمال الشكل والجرأة والجسارة الفكرية والحكمة والهدوء، بهرتنا بخوضها الجريء في المناطق الوعرة للمعرفة واللغة والحياة، ولزومها الحياد في مواضيع أخرى خلافية وحساسة، خوفا من انبهاق أعداء هلاميين، وهي في غنى عن كل تلك الحروب الواهية.

يخطئ من يظن أن مجلة «العربي» استمرت بمنطق المال والصورة، لا ننكر أنها بهرتنا بألوانها القشيبة، تلك التي أقامت في أبصارنا وقلوبنا في كل مراحل حياتنا، ولا ننكر أن العكاز المادي ضروري كي تستند إليه كل مجلة، سواء في شبابها أو في شيخوختها، لكن جمال مجلة «العربي» وقوتها، لم يقفا عند هذه الحدود، وليس هو الجمال الفلكلوري المبهرج الذي يشوش على أبصارنا، من دون أن يحقق لنا أي متعة عميقة، بل هو ذلك الجمال الذي يقول عنه نيتشه إنه: «لا يفتننا على الفور، بل يتسلل إلينا ببطء، نحمله معنا ونحن لا نكاد نشعر به».

هذه هي مجلة «العربي»، نبتة عنيدة وراسخة في تربة الثقافة والفكر العربيين، تقاوم، تهادن، تحاور، تشاكس، تستكشف، تغامر، تنبش، تثير، تغري.. لا تهدأ ولا تستكين للجاهزية والنمطية، تراهن على أسئلة جديدة، وعلى التجدد والانفتاح والحوار مع تأصيل الكيان العربي، فهل من السهل استئصالها؟.

 

 

إكرام عبدي