الإنسانية في طور البناء روجر بول درويت

الإنسانية في طور البناء

يمثل سن الستين بالنسبة للأفراد سن النضج, ونعرف أن علينا ألا نتغير كثيرا, إنه أوان تسوية الدفاتر, أو على الأقل القيام بجرد تمهيدي. نظل فعالين, وأحيانا بحيوية, لكننا لا نستطيع تجاهل أن الكهولة تقترب.

الأمر نفسه لا ينطبق على المؤسسات التعاونية. فدورة حياتها تقاس بتصانيف تختلف عن أعضاء الجسد الحيوية. وتعود بعض المؤسسات إلى قرون عدة مضت ولا تزال تعمل. لن يكون هناك الكثير من المنطق هنا عندما نتحدث عن الذكرى الستين لليونسكو فيما يتعلق بنضج المنظمة. كما لن تكون هناك أيضا جدوى للتساؤل عما إذا كانت (شابة) أم (عجوزًا).

وما يجب أن يشغلنا بدلا من ذلك هو جوهر تاريخها. وخلال ستة عقود خلفت منظمات عدة بعضها بعضا, وزاد عدد البرامج زيادة جذرية, وجرى تجاوز أزمات. وفوق كل شيء تطورت أفكار وتغيرت اليونسكو نفسها مع العالم أجمع. وأخيرا لا يوجد سوى القليل من المشتركات بين الكوكب كما كان عليه حاله في 1945, وذلك الموجود في 2005. ولم تقف الوقائع الاقتصادية والسياسية والجيوسياسية والدبلوماسية والعسكرية والتقنية والثقافية, جامدة. وتحولت الأفكار بدورها بصورة جذرية.

وبلا شك ستتم المجادلة بأن قيما أساسية ظلت بلا تغيير وأن مثلا عظيمة - السلام والتعليم للجميع والتفاهم المتبادل بين الشعوب- قد استمرت. وهذا صحيح.

لكن ربما يكون هذا صحيحًا جزئيا, فلم يتم التحقق بصورة وافية إلى أي مدى يمكن للمعاني أن تتغير فيما تظل الألفاظ هي نفسها. وكمثال, هل ما ندعوه ب (الشعب) في 2005 هو نفسه حقا كذاك الذي كنا نعنيه من اللفظ في 1945?. وليس بالضرورة أن يشير سؤال مشابه بالإمكان طرحه حول المصطلحات الرئيسية كافة: (السلام), (التعليم), (العلم) و(الثقافة).. إلى دلالات غير قابلة للتغيير.

غالبا ما اتخذت المصطلحات, فيما نواصل استخدامها, دلالات جديدة, تختلف بدرجات متفاوتة عن المعاني القديمة. وهذا واحد من أوائل المشاهدات التي ستتم بعد استكشاف التاريخ الفكري لليونسكو, لكنها ليست الوحيدة.

تحاملات متناقضة

تفرض ملاحظة أكثر آنية نفسها عليك عندما تشرع بالتبحر في ذلك التاريخ. إليكم نقطة غاية في البساطة لكنها أيضا نقطة نادرا ما تم إبرازها: فاليونسكو مشهورة وأيضا مفهومة قليلا معا. فاسمها الذي تمتع لعقود بمكانة رائجة حول العالم, مألوف لدى مئات الملايين من شعوب القارات كافة. غير أن غالبية الناس ليس لديهم بشكل عام سوى فكرة ضبابية عما يكمن خلف الاسم, وهم كثيرا ما يكونون غير واعين بالطبيعة الحقيقية للمنظمة.

وغالبا ما تبقى المعرفة قليلة بالأفكار التي تؤسس وجود اليونسكو واللحظات المهمة في تاريخها وانجازاتها الكبرى, حتى بين جمهور مطّلع.

وبدلا من المعرفة السليمة ولا نقول الأساسية, فإن ما نجده بين الجمهور بصورة عامة هو أحكام متناقضة وفوق كل شيء متعارضة, وكأن اليونسكو كانت ذات مرة أفضل وأسوأ المؤسسات., فهي تثير الحماسة وتثير اليأس بصورة متساوية, ويعلو بها المديح إلى عنان السماء وتوبخ في الوقت نفسه.

تتعايش معا صورتان ذهنيتان متناقضتان لليونسكو في العقل الجمعي. الصورة الايجابية التي تعلي من شأن حماسة معابد أبو سمبل, واحياء بوروبودور, والعمل الدولي لإنقاذ البندقية والبارثينون والحفاظ على التراث, والحملة ضد الفصل العنصري والتمييز, وترويج المساواة والتسامح وحرية التعبير. أما الصورة السلبية فتركز على بيروقراطية متصلبة مفترضة, موظفو خدمة دولية اعتبروا غير أكفاء, والفهم بأن اليونسكو تفتقد إلى مصنع للورق لإنتاج خطابات دبلوماسية وتقارير غير ذات جدوى.

هاتان الصورتان تتعايشان سويا دون أن تتماسا, وإذا ما جرت محاولة لتصحيحهما, فسيكون من الواضح فورا أن موظفين غير أكفاء ليس بمقدورهم الإتيان بمثل هذه الأعاجيب. لكن هذا ليس مقترحا رشيدا, فالأحكام الطائشة وحدها هي التي تكيل المديح أو الذم. ولا تكمن الحقيقة في إحدى هاتين الصورتين ولا الأخرى, فكلتاهما زائفتان. والهدف الأساسي من الكتاب الذي يبدأ هنا هو تقديم اليونسكو من زاوية أخرى - زاوية الأفكار والجدالات الفكرية والتحليلات المتعمقة. نحتاج إلى النأي عن الصور الجاهزة والأحكام مسبقة الفبركة, للتوصل إلى تفهم للقضايا الحقيقية, ومعرفة كيفية تبني توجه موضوعي حيال هذه المؤسسة الشهيرة والمُساء فهمها. وبكلمات الفيلسوف سبينوزا, علينا محاولة (ألا نضحك من الأعمال البشرية, ولا التأسي عليها, ولا شجبها لكن أن نفهمها). ونيتنا أن نحاول وأن نظهر أن مثل هذا التوجه ملائم لليونسكو. فمن غير المجدي التهكم عليها كما أنه من غير المفيد إغداق الثناء عليها. فالأفضل هو أن نحاول الإمساك بمنطقها الداخلي واستمراريتها التاريخية.

هذا التوجه الفلسفي حيال اليونسكو يجب أن يُستهل بالإعراب عن الاندهاش من وجود المنظمة? (الفلسفة ليس لها أصل آخر غير الاندهاش). هكذا قال بلاو. ومن غير اللائق القيام بإعادة اكتشاف نوع من السذاجة فيما يتعلق بوجود هذه المؤسسة, وهو أمر غريب للغاية في التحليل النهائي. فبأي شكل إذن أصبحت فريدة ومدهشة?

منظمة مدهشة وفريدة

المنظمات الدولية كافة تخضع لهموم المادة (التجارة, العمل, التمويل), حل تضارب المصالح أو الاستجابة للاحتياجات البشرية. واليونسكو بمفردها مسئولة عن (تشييد الدفاعات عن السلام في عقل الإنسان). وتروج بمفردها قيما أخلاقية ومبادئ مجردة. وظيفة غريبة حقا!

دعونا نحاول رؤية الموقف كما لو كنا نواجهه للمرة الأولى. ليست من الحقائق المدهشة أن جميع بلدان العالم يجب أن تمنح أموالا وتدفع للموظفين المدنيين, وتنظم اجتماعات, وتتبنى حلولا وأعمالا لتطبقها بهدف رئيسي واحد هو تحسين التفاهم, والعمل من أجل الثقافة, وضمان أن المعرفة تسهم في السلام ودراسة أفضل سبل تعليم النساء والرجال بروح التسامح والمساواة. والتفكير أنه منذ 60 عاما فقط لم يكن شيئا من كل هذا موجودا مطلقا خلال التاريخ الإنساني!

حقا إن فكرة أن جميع البشر متساوون في الكرامة, ويتشاركون ظرفا مشتركا وينتمون إلى النوع نفسه والكوكب نفسه تعود إلى زمن بعيد مضى أقدم من اليونسكو. فهي مصوغة بالفعل في العصور القديمة, يمكن العثور على هذه الفكرة لدى مختلف الحضارات تحديدا, وفي مختلف العصور وضمن سياقات بالغة التنوع. لكن مثل هذه الفكرة ليست متساوية مع تجسيدها الفعلي في منظمة. وقبل اليونسكو, لم تكن هناك مطلقا مؤسسة تجمع مختلف البلدان معا بطريقة مستمرة وانتظامية ومنظمة بهدف وحيد هو إرساء تفاهم مشترك بين الثقافات ولمصلحة السلم العالمي. وخلق مثل هذه المنظمة يعد تفردا نادرا. هذه الحاجة توجب التأكيد عليها بمثابرة وتكرار حتى إلى درجة الملل, وهذه ما يجب أن تكون نقطة المفارقة الجديدة إذا ما رغبنا في فهم شيء عن موضوعنا.

دعونا ننغمس في بعض المبالغة المتعمدة. إذا ما أردنا فهم اليونسكو, علينا أن ننحي جانبا أنشطتها المتعددة, ونقاشاتها, مكاتبها ومواثيقها وطقوسها, منشوراتها الضخمة وموقعها الالكتروني والتركيز فقط على فكرتها الأساسية. وفي الضلع المفرط نفسه, بإمكاننا القول, اليونسكو أساسا منظمة غير ملموسة. وتأسست ببطء على القيم الأخلاقية. والمثل هي أهدافها الوحيدة وهذا هو أول شيء يتوجب أخذه بالحسبان إذا ما رغبنا في الشروع بالتقاط صفتها المميزة.

وبلا شك ستتم الإشارة إلى أن اليونسكو لديها بوضوح عامل مادي وملموس فيما يتعلق بحواسيبها ومكاتبها, وأجهزة النسخ والهواتف, وقاعات اجتماعاتها, وخدماتها المساندة وموازنتها. هذا صحيح. لكن المنظمة لم تتأسس من أجل وضع هكذا نظام. فكل هذه المسندات المادية مجرد وسيلة. أما الغاية فمختلفة وفريدة: حماية السلم عبر التفهم المشترك.

في المظهر: التنوع في حدوده القصوى

إذن نحن نتعامل مع مؤسسة غريبة مبنية فقط على الأفكار والعمل معها وحدها في الرأي. وتحتاج هذه النقطة إلى التشديد عليها قبل أن نواصل لأبعد من هنا, وإذا ما تم تجاوزها فلن نكون غالبا في موقف يسمح لنا بالإمساك بمقومات وحدة اليونسكو.

وخلال مسح برامجها وخدماتها, سنتحمل مخاطرة فقدان مسارنا وعدم فهم أي شيء من القاسم المشترك لهذه التعددية.

الاطلاع على كل ما قامت به اليونسكو, وكل ما تقوم به حاليا وجميع ما تخطط للقيام به يمنح أسبابا للانبهار. فما المكان الآخر, الحقيقي أو الرمزي, الذي يمكنه أن يضم بين المساهمين في نقاشاته ألبرت أينشتاين ويوحنا بولس الثاني وفرويد ووالت ديزني ودوق الينجتون وتشارلز دو جاجولي ونلسون مانديلا ويهودي مناحم وبابلو نيرودا وجابرييل جارسيا ماركيز وجان بول سارتر وجاك دريدا وشمعون بيريز وياسر عرفات?

بالإمكان إضافة العديد من الأسماء الأخرى للقائمة الباهرة والمزخرفة لقادة دول ومفكرين وفنانين ممن شاركوا في عمل اليونسكو سواء على أسس دائمة أو عارضة. إن التعددية المفتوحة النهايات التي مثلتها هكذا غزارة للأصوات المميزة, تجاريها تعددية فذة, ومربكة كذلك من النظرة الأولى, للبرامج. فأين يوجد مكان آخر في العالم, حقيقي أو رمزي, يُشغل باله بلغات منقرضة إلى جانب المحيط الحيوي مع المساواة بين الجنسين فضلا عن طرق الحرير, والسجلات المعرضة للخطر والتعليم الخاص للمعاقين والتسامح والجينوم البشري والهوة الرقمية, فضلاً عن الرقصات الشعبية وأخلاقيات العلوم الحيوية والفلسفة?

المنطق الداخلي

فوق ما سبق هناك بالضرورة منطق داخلي, مبدأ مرشد, يقود أداء هذا العمل الهائل بصورة يمكن فهمها. نحتاج إلى التمسك بقوة بهذه الفكرة من البداية إذا كان لنا أن نتجنب الشعور الكريه وفوق كل شيء المثبط, بأن هذا التكاثر مقدر له البقاء غامضا. لاكتشاف هذا المبدأ الحاكم, ليس على المرء سوى أن يقرأ دستور اليونسكو, الذي صيغ بوضوح خلال مؤتمر لندن في 16 نوفمبر 1945.

إحدى الفقرات تحديدا تقول:

(البلدان الأعضاء في هذا الدستور, إيمانا منها بالفرص الكاملة والمتساوية للتعليم للجميع, في المسعى غير المقيد للحقيقة الموضوعية, وبالتبادل الحر للأفكار والمعارف, يوافقون على ويعتزمون تطوير وزيادة وسائل الاتصالات بين شعوبهم وتطبيق تلك الوسائل لأهداف التفاهم المشترك ومعرفة أكثر حقيقية ومثالية لحياة بعضهم البعض).

هذه الفقرة, وصياغات أخرى معروفة جيدا في الأبواب التمهيدية للدستور إلى جانب عبارات مشابهة, مبنية على قناعات فريدة وقديمة للغاية, مرتبطة أساسا بميلاد الفلسفة والتفكير في نظام مشابه: المعرفة عامل للتقدم الأخلاقي, وتعزيز السلام في العلاقات بين البشر.

يتخذ دستور اليونسكو الموقف المعاكس فيما يتعلق ببنيته الجوهرية, بما أنه مبني على إعادة تفعيل هذه الفكرة العتيقة للغاية عن الاتحاد بين المعارف والأخلاقيات. ففي الثقافة اليونانية خلال العصور الغوابر كما في ثقافات أخرى, وخاصة تلك التي في الهند والصين, لم يكن (التعلم) و (الحكمة) ظرفين معاديين للمجتمع. وأي تقدم في المعرفة يضمن تقدما في حقل الأخلاقيات ومن ثم في السلوك الاجتماعي. وما يتبع أن الشر الحقيقي الوحيد, المصدر الفريد لجميع الحظوظ البائسة, المادية والمعنوية, هو الجهل.

منذ استهلالها, اعتبرت اليونسكو على نحو جلي إن الجهل هو مصدر العلل الإنسانية. فلأنهم كانوا يجهلون أحدهم الآخر, ويجهلون واقع ثقافاتهم وحضاراتهم, ازدرى بنو البشر بعضهم البعض, وبدأوا بعدها في كره بعضهم البعض, وأخيرا شنوا حروبا على بعضهم البعض.

وهذه أساسا هي رسالة الاستهلال. وعلى العكس من ذلك أصبح الجنس البشري في موقف يسمح له بفهم الآخرين بصورة أفضل وعدم ازدراء بعضهم البعض, فور أن حازوا المعارف الكافية حول أنفسهم, وحول ما حققه بنو جنسهم في شتى الحضارات المجاورة. وفي النهاية أوقفوا ميلهم نحو شن الحرب على الآخرين.

وعلى الرغم من التخطيط المفرط فيما أسلفنا, تمثل هذه المتتالية من الأفكار الأساس المتين الذي يقوم عليه الصرح الكبير والمتشعب لليونسكو وتاريخها. هذا الأساس يكرر بطريقته الخاصة ما قاله سقراط في أثينا العتيقة, (لا أحد شرير طواعية). وهي مقولة يجب بالتأكيد ترجمتها لكن بتحريف بسيط على شكل (لا أحد ميال للقتال طوعا).

تظل الفكرة المركزية هي نفسها: الجهل وحده هو العدو, و (الشرير) أو(المتقاتل) هم ضحايا جهلهم الخاص نفسه. فهم مخطئون في موضوع الصلاح, ويخلطون بين الحاجة إلى التضامن الإنساني, وحب الحقيقة والصلاح, مع مصالحهم الخاصة أو حساباتهم قصيرة النظر الهادفة إلى المحافظة على السلطة.

هذا التقارب مع اليونان العتيقة (المنعكس على واجهة وأعمدة شعار المعبد لليونسكو) لا يستبعد بأي حال, كما يجب التشديد هنا, الصلات الأخرى الممكنة. وحقيقة إعادة جميع العلل إلى الجهل تعتبر كذلك جذرا رئيسيا للفكر الآسيوي. ودعونا لا ننس, على سبيل المثال, إن الجهل عند بوذا ليس فقط مصدر ارتباطنا الوهمي بالأشياء, بل أيضا العنصر الرئيس الذي تنبع منه مختلف العلل التي تؤثر في الكائنات البشرية.

يمكننا جميعا الإضافة إلى القائمة على أساس نوعياتنا الخاصة من المرجعيات. إن روابط (الجهل-المرض-العدوان) و (المعارف-الفوائد-السلام) حاضرة, بهيئات محددة, في جميع أنماط الفكر. في التعاليم اليونانية, كما في الصين والهند وإفريقيا ومناطق أخرى, نجد هذه الفكرة نفسها بأن المعرفة, سواء تقليدية أم منطقية, تشتمل على عامل التحسن الذاتي الفردي والجمعي, ينطبق بصورة أكثر عمومية على الإنسانية جمعاء.

وإذا كان هذا صحيحا, فان اليونسكو مؤسسة دولية مذهلة حقا. أرست لنفسها بوضوح جلي هدف إنشاء مجتمع إنساني في سلام مع نفسه على أسس من المعارف, عبر وكالة التربية والعلوم والثقافة, لتطبيق, كما يمكن أن يقال, أكثر النوايا قدما وتجذرا للثقافات الإنسانية المتعددة.

من الفكرة إلى التطبيق

غير أنه طريق طويل على أي حال من هذه الفكرة المبدئية - رفع المعرفة إلى مكانة القيمة المؤسسة وما يستتبع ذلك من إقصاء للجهل - إلى التعقيد الفائق لليونسكو اليوم, ونطاقاتها الواسعة من الأنشطة وبرامجها كثيرة العدد.

ولفهم الانتقال من هذه الفكرة الجوهرية المبدئية إلى تطبيقها العملي, ولاحقا إلى تاريخ مختلف وجهات النظر التي صاغت أفكار اليونسكو, من الواضح أن هناك ضرورة للقيام ببحث متعمق.

ويجب على هذا البحث محاولة مجابهة الأسئلة التالية: كيف بالضبط تم رسم المشروع الأصلي لليونسكو? كيف تشكلت الأفكار الرئيسية التي تُعرف المنظمة? كيف تطورت هذه الأفكار? ماذا كانت نقاط التحول الرئيسية, لحظات الأزمات وتغيير الاتجاه أو إعادة التكييف التي كانت من معالم هذا التاريخ الفكري?

من المأمول أن يساعد هذا الإصدار على إطلاق هكذا بحث. وهذا لا يقال انطلاقا من أي شعور زائف بالتواضع: فمن الواضح أنه, بالنظر إلى نطاق المهمة, لا يمكن القيام بها من قبل شخص واحد أو عبر فترة زمنية قصيرة. فالتاريخ الحقيقي لليونسكو لم يدون بعد. وهناك دراسات موجودة بالفعل, لكن عملا حقيقيا كبيرا لا يزال بانتظار الإتمام. وسيعود الأمر إلى مجموعة من المؤرخين, للقيام بهذه المهمة, في المستقبل القريب.

لا تقوم المطبوعة الحالية في مجملها بأي ادعاء بإعادة تركيب هذا التاريخ, ولا تحليل تعقيدات ذلك التاريخ بالتفصيل. ويجب اعتبارها كمقال, ومحاولة لتحليل عدد من تيمات العناوين الرئيسية, نوع من الرحلة في عباب محيط سجلات المنظمة.

سيحقق هذا العمل مبتغاه, إذا خرج القراء بانطباع باكتشاف مدى أهمية الجدالات التي تجري عبر تاريخ اليونسكو, وإذا ما اندهشوا لقراءة وثيقة كانت غير معروفة لديهم في السابق, وإذا ما جرت توعيتهم, خلف الواجهات الرسمية والمؤتمرات الدبلوماسية لمنظمة دولية كبرى, بأهمية الوجود الفكري, الذي اتسم طبيعيا بالتوتر أحيانا.

يمكن للمرء في الواقع أن يخطئ في التفكير بأن هذا التاريخ لطيف وسلمي ويخلو من الأزمات والمواجهات. فالدبلوماسية تلطف من اختلافات معينة, ويمكن للمسئولين إخفاء النزاعات, لكن تلك الاستيعابات لها محدوديتها. وشهدت اليونسكو تصادم الكتل خلال الحرب الباردة, كما شهدت مغادرة الولايات المتحدة قبل عودتها إلى المنظمة في السنوات الأخيرة. وقعت نزاعات محتدمة حول إسرائيل. وتتضمن المسائل الجديدة اليوم مسألة حقوق المرأة, التطبيق الصارم لحقوق الإنسان وحماية البيئة. وفي هذه المواضيع, كما في أخرى, هناك خلافات.

في الواقع لا توجد هوة أيديولوجية أو جيوسياسية لا تجري كذلك عبر تاريخ اليونسكو والجدال الذي يحدث داخل المؤسسة. وهذه الظاهرة تأكدت أكثر بالتأثير المتزايد الذي تمارسه الدول على المنظمة. أحد المظاهر المهمة في التاريخ المؤسسي لليونسكو, والذي كان له تأثير قوي على الجدالات الفكرية داخلها, كان الانتقال من مجموعة من الشخصيات المفكرة التي تتحدث بأسمائها الخاصة إلى جمعية من الدبلوماسيين الذين يدلون بتصريحات نيابة عن حكوماتهم.

ويجد المرء آثارا لهذه التوترات والصراعات في الوثائق المجمعة في فقرات تالية. اختلافات حقيقية, جرى الإعراب عنها في صورة مناقشات منطقية, كانت مواتية لإجماع عمومي وضبابي. ومع ذلك, وكما سنرى, فإن لحظات الأزمات هذه هي أقل أهمية بكثير من إلحاحية المُثل المؤسسة. ولهذا تم إيلاء التشديد أساسا على هذه الأفكار المهمة وعلى الطرق التي تتطور بمقتضاها, والتي تمثل الأقنية الرئيسية في التاريخ الفكري لليونسكو.

ينصب التركيز في هذه المطبوعة على هذا التاريخ وحده. وما يتبع ذلك إنها لا تغطي مختلف أنشطة اليونسكو. وقد لا يتم التطرق في الصفحات التالية إلى برامج رئيسية, تتضمن موارد بشرية هائلة وموازنات, إذا كان لها تأثير قليل على التغييرات في الأفكار. ولهذا فإن هذا العمل ليس بكاتالوج (مسرد) للمنجزات, ولا سجل تفصيلي لعمل وجهود عالمية النطاق دامت ستين عاما. بل يوفر مراجعة, انتقائية بالضرورة, لستة عقود من التاريخ الفكري.

تصدير الشعلة الخفية

عبر سنوات نشاطها الستين, أصبحت اليونسكو بلا جدال معترفًا بها على نطاق أكثر توسعا فيما يتعلق بمهامها الرئيسية, وأكثر انفتاحا على العالم وأكثر تناغما مع المتطلبات العصرية. وبالرغم من ذلك, ومثل الأمم المتحدة, فإنها منظمة يجب أن تواصل التعلم وإصلاح نفسها بغية الاستجابة بصورة أكثر فاعلية لتحديات الألفية الجديدة. وهذه الذكرى الستون توفر لنا فرصة قيّمة للنظر إلى الخلف وبحث الأسباب الجوهرية التي تسوغ وتشكل أنشطتنا في الوقت الراهن.

في عالم أكثر تعقيدًا وتنوعًا, ينظر الناس إلى المؤسسات لتوفير مدخلات وإرشادات في السعي خلف الصالح العام. ولا يمنعنا إدراك أكثر وضوحا لصعوبة هذه المهمة عن مواصلة العمل من أجل عالم أكثر سلاما وتسامحا وإنسانية. هذه هي الشعلة الخفية التي تغذي اليونسكو والهدف الأساسي لمختلف جهودها.

نحتاج اليوم لإلقاء نظرة جديدة على المتطلب الأخلاقي. إن القيام بمراجعة من منظور حساس للأفكار العقائدية والروحية والفلسفية التي صاغت اليونسكو, يعد حماية من النسيان, ولبناء ذاكرة مؤسسية وصقل وعي بالتاريخ الثري للمنظمة لبناء أفضل للمستقبل.

لذا من الضروري تركيز انتباهنا على الإلهام الأخلاقي لليونسكو, واهتمامها بالحوار والتعاون, ووظيفتها العمومية لإرساء المعايير, وإتقان ارتقائها. نحتاج إلى إبعاد أنفسنا, في الأوقات الفاصلة الاعتيادية, من أجل إعادة استكشاف الشعلة الخفية التي تمنح معنى للوحدة الكلية.

لهذا يذهب شكري إلى الفيلسوف روجر بول درويت على مساعدتنا, في التحضير لهذا العمل, والسعي خلف مهمة التأمل الذاتي هذه, وهي المتطلب الدائم في منظمة ذات كيان مثل كياننا.

عبر شرح المعنى الذي أصبحت بموجبه اليونسكو (مؤسسة فلسفية), وعبر إعادة كشف سلسلة مجموعات نفيسة من المعلومات ومن خلال تذكيرنا أن الإنسانية (في طور البناء) إلى الأبد وأن دور اليونسكو هو الإسهام في المهمة الهائلة لتركيبها, سيساعدنا هذا الكتاب على الاقتراب أكثر من المثل التي تلهمنا.

كويشيرو ماتسورا
مدير عام اليونسكو

لَيسَ فِي الغَابَاتِ رَاعٍ لا وَلا فِيهَا القَطيع
فَالشّتا يَمشِي وَلَكِن لا يُجاريهِ الرَّبيع
خُلِقَ النَّاسُ عَبيداً لِلَّذِي يَأبَى الخُضوع
فَإِذا ما هَبَّ يَوماً سائِراً سارَ الجَميع


(جبران خليل جبران)

 

روجر بول درويت