الأبعاد السيكولوجية للنظرية النسبية محمد رءوف حامد

قضية..

تقليص الزمن أو تراخيه، مفهومان للزمن تطرحهما نظرية النسبية، وخياران- بين التخلف والتقدم- يطرحهما علينا الكاتب فأيهما نختار؟!

نظرية النسبية هي أجمل النظريات في العالم. كانت هذه العبارة عنوان أولى المحاضرات التذكارية التي ألقاها بروفيسور شاندراسخار Chandrasechar (الهندي الأصل الأمريكي الجنسية والحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1983)، في المعهد التكنولوجي السويسري E T H في التاسع من يناير 1984. ورغم تعدد الشارحين لنظرية النسبية حيث صدر عنها في أثناء حياة صاحبها ألبرت أينشتين (1879- 1955) أكثر من أربعة آلاف كتاب إلا أن أبسط هذه الشروح وأكثرها جاذبية حتى الآن هي الطريقة التي كان يستعملها أينشتين نفسه عند توضيح نظريته لتلاميذه حيث كان يقول: " إذا جلست مع فتاة جميلة فإن ساعتين تمران كما لو كانتا دقيقتين. وأما إذا جلست فوق موقد ساخن لدقيقتين فقط فإنهما تمران كساعتين. هذه هي النسبية ".

تعددية وجود الزمن

فالنسبية تتعامل في جوهرها مع الزمن. والمعروف أن فكرة الزمن قد شغلت الفلاسفة والعلماء منذ ما قبل الميلاد فقد وصف أرسطو (384- 322 ق. م.) الزمن بأنه تعداد الحركة. واعتقد اسحق نيوتن (1642 - 1727) أن الزمن شيء مطلق يتدفق دائما بالتتابع والاتساق نفسه بصرف النظر عن أية عوامل خارجية. وعلى العكس ارتأى كانط (1724- 1804) أن الزمن ليس شيئاً موضوعياً قائماً بذاته وأنه (أي الزمن) يعود في الأساس لأداء العقل. ويتفق جولي هنري بونكاريه (1854 - 1912) مع كانط إلى حد ما حيث يقول: "ليس هناك طريقة واحدة خاصة بقياس الزمن أكثر صدقا عن بقية الطرق". وهكذا تعددت الآراء والمفاهيم بخصوص الزمن حتى جاء ألبرت أينشتين فأعطى للزمن أهم وأكثر الأوصاف مصداقية وحسما على مدى التاريخ عندما قال: "لكل جسم مرجعي reference body زمنه الخاص به وبدون معرفة النظام (النسق) المرجعيSystem of reference للجسم وبالتالي الإطار المرجعي Frame of reference للزمن الخاص به فليس هناك أي معنى في ذكر الوقت الخاص بحدث ما an event يتعلق بالجسم المشار إليه".

هذا الوصف الأينشتيني للزمن والقائم على نظرية النسبية قاد العلماء والفلاسفة إلى التعرف على ما يمكن تسميته "تعددية وجود الزمن".

فالزمن الميقاتي التقليدي Calender time يختلف عن الزمن الخاص بحركة الأجرام السماوية أو بحركة الإلكترونات.... إلخ.

وإذا كان التناول التقليدي لنظرية النسبية قد أخذ في الاعتبار حركة الأجسام الفيزيائية وتفسير الظواهر الطبيعية في الأساس، فإن هناك تناولاً آخر جديراً بالاهتمام يمكن أن نطلق عليه التناول البيولوجي، ويأخذ في الاعتبار الأبعاد السيكولوجية والفسيولوجية للكائنات الحية وعلى رأسها الإنسان.

النسبية السيكولوجية

كشفت الهزة الأرضية المعروفة بزلزال مسينا (1908) في الولايات المتحدة عن ثلاثة أشقاء ظلوا محجوزين على قيد الحياة لمدة ثمانية عشر يوما تحت الأنقاض مرت عليهم- كما ذكروا بعد ذلك- كأربعة أيام فقط. اختلف الإطار المرجعي للزمن لديهم عن الإنسان العادي. ذلك يذكرنا باختلاف الإطار المرجعي للزمن عند أهل الكهف في القصة القرآنية المعروفة، والتي تذكرها الآيات من 10 إلى 25... في سورة الكهف كما جاء في قوله تعالى إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيىء لنا من أمرنا رشدا فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا.. إلى قوله تعالى: وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم.. وقوله تعالى ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا. وقد عبر جاي بنتريس عن اختلاف الإطار المرجعي للزمن في الأعمار المختلفة بقوله:

" في المهد عندما كنت أنام وأبكي

كان الزمن يزحف

وعندما صرت صبيا أضحك وألهو

كان الزمن يخطو

وبعدها عندما رأتني السنون رجلاً

كان الزمن يجري

والآن مع تقدم العمر

فإن الزمن يطير"

الأمثلة السابقة توضح اختلاف الإطار المرجعي للزمن نتيجة اللاوعي أو باختلاف الوعي نتيجة تباين المرحلة العمرية أو نتيجة الانفصال عن التتابع الزمني التقليدي للأحداث اليومية. هناك إذن ما يعرف بالزمن السيكولوجي (كما أشار إليه إميل توفيق اعتماداً على تجارب العلامة النفسي "جان بياجيه" والذي يعرفه بأنه الزمن كما يتم إدراكه من خلال التتابع الزمني للحادثات events كما تحس نفسياً (أي داخليا).

وإذا كان إدراك الطفل للزمن كما أشرنا من قبل يكون كما لو كان الزمن يزحف (كناية عن بطء مرور الزمن)، حيث يدرك الطفل الزمن من خلال تتابع (أو تعاقب) الحادثات أكثر من إدراك ذهنه (أي الطفل) للاستمرار أو الترتيب في الحادثات بالنسبة للزمن، فإن البالغين أيضا يعودون للاقتراب من إحساس الطفل بالزمن في حالات معينة عندما يكونون في الموقع الطفولي من ناحية الخبرة حيث يتتابع استقبال التعليمات وإدراك الأشياء أكثر من التفاعل معها وترتيبها. يحدث ذلك عند الانتقال إلى عمل جديد يتلقى المرء في فتراته الأولى تعليمات جديدة.. أو عند الانتقال للمعيشة إلى وطن جديد حيث يمر الزمن من خلال تتابع أحداث من نوع جديد أو من خلال تدفق انطباعات جديدة يكون فيها إحساس المرء بالتتابع أكثر من الاستمرارية والترتيب.

العاطفة... والزمن

ومن أهم العوامل المؤثرة على إدراك الزمن "العاطفة". يظهر ذلك في حوار نشر أخيراً في "العربي" بين الشاعر نزار القباني والشاعرة سعاد الصباح حيث نجد في كلمات نزار إشارة إلى النسبية السيكولوجية (دون قصد منه) عندما يتحدث عن المرأة- الشعر فيقول: "هي التي إذا لمست يدي يتكهرب الكون، وتزداد سرعة الكرة الأرضية، ويتحول تراب الأرض إلى ذهب. المرأة الشعر لا تأتي بسهولة، ولا تدري متى تأتي ومن أين تأتي، ولكنها إذا جاءت قلبت قوانين الطبيعة، وغيرت أسماء الأيام والشهور، وجعلت الثلج يسقط في شهر تموز، وسنابل القمح تخرج من حقيبة الشتاء، والشمس تشرق من عيني حبيبتي ". إن كلمات نزار ليست مجرد تعبير شعري أو رأي مطلق. فالإحساس بالزمن وإدراكه واستخدامه في الظروف النفسية غير العادية التي يقصدها نزار مختلف عما يحدث في غير هذه الظروف. ويعود ذلك (طبقا للفكر الأينشتيني) إلى النسبية السيكولوجية.

البيئة الاجتماعية والزمن

وبالإضافة للعوامل السابق الإشارة إليها كمؤثر في الإحساس بالزمن فإن ذلك الإحساس يتأثر أيضا بالظروف الاجتماعية. فالظروف الاجتماعية ككل تعتبر مؤثرا رئيسياً على الإحساس بالزمن، ذلك الإحساس الذي يؤثر بدوره على السلوك الاجتماعي. يظهر ذلك بوضوح في بحث مهم في مجال علم النفس الاجتماعي أجري في الولايات المتحدة بواسطة العلامة "لي شان" ونشر عام 1942. وقد وجد "لي شان" أن أعضاء الطبقات الدنيا في المجتمع يرتكزون في تصرفاتهم على الزمن الحاضر (المضارع) ويظهر ذلك- مثلاً- عند التحدث إلى الطفل هكذا: "توقف عن ذلك التصرف *الأبعاد السيكولوجية للنظرية النسبية الآن وإلا ضربتك". أما الطبقات المتوسطة فإن أعضاءها ينطلقون في سلوكهم من مفهوم أن الوضع الحالي يؤثر في الأحداث المستقبلية كأن يقال: "توقف عن ذلك وإلا فلن تحصل على وظيفة مناسبة أو لن تلتحق بكلية محترمة... إلخ". أما أعضاء الطبقات العليا في المجتمع فإنهم يبنون سلوكياتهم على أساس أن الماضي يوجه (ويهيمن على) الكيفية التي تتم بها الأمور في الحاضر والمستقبل كأن يقال للطفل: "توقف عن ذلك فجدك لم يكن ليحب أن تتصرف هكذا". وقد لاحظ الباحث أن "الطبقات الدنيا" تأكل عندما تجوع، وأن "الطبقات المتوسطة" تأكل طبقا لتوقيت زمني محدد. وأما "الطبقات العليا" فإن مواعيد تناول أفرادها لطعامهم تكون طبقا لما يتناسب مع التقاليد.

الزمن.. واللاشعور

ويهمنا في إطار النسبية السيكولوجية أن نشير إلى أنه في لحظات معينة في بعض الحالات المرضية أو نتيجة الانهماك الشديد بعمل إبداعي (فني أو علمي... إلخ) تخضع السيطرة في العلاقة بالزمن للاشعور، وللاشعور طبيعة خاصة وإدراك مختلف تماما بالنسبة للزمن، حيث يتوقف تتابعه وتدفقه بالطريقة التي يعرضها العقل الواعي، فيرى الشخص الأشياء والحادثات events في غير الترتيب الزماني التقليدي لها، ومع تلاشي الزمن التقليدي في اللاشعور ترى الأشياء بطريقة مختلفة وبترتيب مختلف عن الإدراك العادي والمنطقي، فتحدث هلوسة (في الحالة المرضية) أو ومضة إبداعية (في الانهماك الشديد في العمل).

مما سبق يتضح أن النسبية السيكولوجية تضيف أزمنة أخرى غير الزمن الميقاتي التقليدي (الزمن الكرونولوجي: الساعات والدقائق... إلخ) وغير الأزمنة الفيزيائية الأخرى (الخاصة بحركة الإلكترونات أو حركة الأجرام السماوية) فهناك على سبيل المثال زمن الأحلام (حيث قد يستغرق الحلم خمس دقائق بينما تقع أحداثه في ساعتين مثلا)- زمن الإبداع- زمن الوعي- الزمن العاطفي- الزمن الاجتماعي... إلخ. وهكذا في الأنواع المختلفة من الزمن السيكولوجي تقع الأحداث في تتابع غير خطي ويتغير إدراك تدفق الزمن من حين لآخر تبعا لمؤثرات خارجية أو داخلية، كما قد العربي- العدد 405- أغسطس 1992 م ترى الأشياء في وضع مختلف من ناحية البعد الزمني (الماضي أو المستقبل) أو من حيث العوامل المحيطة.

التقدم والتخلف... والزمن

إذا كانت النسبية السيكولوجية تعني- كما أوضحنا- اختلاف إدراك الزمن والإحساس به طبقا للحالة النفسية أو الظروف الاجتماعية فإنه يمكن الآن وبوضوح أن نستنتج أن الإحساس بالزمن يختلف بين المجتمعات المتقدمة والأخرى المتخلفة. وإذا كان الإحساس بالزمن يختلف عند العامل الياباني عنه عند العامل الأمريكي كما يستدل من حديث للسيد ميازاوا رئيس وزراء اليابان عند مقارنته الإنسان الياباني بالإنسان الأمريكي من حيث المثابرة على العمل في أثناء زيارة الرئيس الأمريكي بوش لليابان عام 1992)، فإن الاختلاف في الإحساس بالزمن يتعاظم بين الإحساس الجماعي للإنسان في دولة متقدمة (مثل اليابان أو ألمانيا أو السويد) وفي دولة من دول العالم الثالث. عند المتقدمين يتحرك الإنسان وينتج أسرع من تحرك عقارب الساعة فيشعر الإنسان هناك بتقلص الزمن Time Contraction. أما عند "المتخلفين" في العالم الثالث فإن الإنسان لا يعير المواقيت اهتماما وتكون حركته (وكذلك إنتاجه) أبطأ من حركة الزمن في ساعة يده بمعنى أنه يصل إلى غايته (أو ميعاده) بعد فوات الزمن المحدد ثم يتساءل: "لماذا يمر الزمن أسرع مما ينبغي؟ " - ذلك ما يسمى تمدد (أو تراخي) الزمن Time Dilation. عند المتقدمين يكون الزمن أداة من الأدوات أو بعدا مكملا للعقل البشري. أما عند المتخلفين فإن الإنسان نفسه يكون أداة لدى الزمن (إن صح التعبير). أو أن هناك زمنين، زمنا للإنسان المتقدم وآخر للإنسان المتخلف. وبقدر التباعد الحضاري والعلمي والتكنولوجي بين النوعين من الإنسان يكون هناك تباعد بين الزمن الخاص لكل منها. وإذا كان العصر الحالي يشهد قدراً من التداخل Overlapping بين الزمنين بمعنى إمكان تصور كل من الإنسان المتقدم والإنسان المتخلف للزمن عند بعضهما البعض فقد يأتي عصر يستحيل فيه هذا الإمكان وينفصل الزمنان عن بعضهما كليا ويُهمش الإنسان المتخلف تماماً ويتحول إلى شيء آخر (؟!).