الكويت والاحتفاء بالثقافة العربية محمد الرميحي

الكويت والاحتفاء بالثقافة العربية

حديث الشهر

وأنا على قرب زمني من أحداث شهر ثقافي ثر عقد في الكويت بين العشرين من نوفمبر وحتى العشرين من ديسمبر 1995م - وهو مهرجان القرين الثقافي الثاني - أردت أن أتحدث هذه المرة في الثقافة، الثقافة العربية المعاصرة، حديثًا خاصا يقود إلى العام، وحديث وطن يقود إلى أوطان، ولكن قبل ذلك دعوني أنقل لكم بعض الشهادات، فقد كتب كاتبٌ عربي مصري كبيرٌ هو المرحوم الدكتور زكي نجيب محمود معترفًا بأنه لولا قدومه للكويت لما أتيح له من الوقت للنظر في تراث الثقافة العربية القديمة، وقد فعل وترك لنا - رحمه الله - كتابين على الأقل نتيجة هذه الخبرة، هما "هموم المثقفين" و"قشور ولباب".

وعندما كتب كتابه الأخير "غناء البجعة" أعاد ما أكده قبل ذلك. وحتى أنقل للقارئ إحساس هذا الفيلسوف العربي فإنني أنقل ما أشار إليه في "حصاد السنين" إذ يقول: "وعند تلك الغضبة وما صاحبها من صدر يضيق وقلب أثقلته الهموم تلاقى رأس السنة الهجرية مع رأس السنة الميلادية في يوم فاستبشر صاحبنا خيرًا" يشير إلى نفسه" وإذا بذلك اليوم نفسه يحمل إليه برقية من جامعة الكويت تطلب استعارته لفترة وهداه الله سبحانه إلى المسارعة بالقبول، وهناك في جامعة الكويت وجد الفرصة سانحة لأداء ما كان شديد الرغبة في أدائه وهو أن يتعقب طريق" العقل "في تراث العرب الأوائل، وذلك لأنه على يقين من رجحان العقل في كثير جدا مما شغل به السلف من مشكلات تتصل بالحياة الثقافية". هنا تنتهي شهادة المرحوم الدكتور زكي نجيب محمود.

أما الشهادة الثانية فهي قادمةٌ من مواطن سوري ومن الكاتب كريم الشيباني إذ يقول: "فالدور الثقافي للكويت في الوطن العربي كان كبيرًا. وإذا ما أردنا التوقف عند جوانب الشخصية الكويتية في نوازعها المختلفة يمكننا اختيار جانبين يشكلان عاملين شديدي التأثير، هما: الحس القومي والنزعة الديمقراطية..".

ونختم بشهادة لأحد المثقفين العرب الذي خبر الكويت من الداخل وساهم في تكوين تدفقها الثقافي العربي وهو الدكتور فؤاد زكريا، إذ يقول: "وأستطيع أن أقول إن التجربة التي أضافتها الكويت في ميدان الثقافة تعد تجربة ذات سمات فريدة تثبت بوضوح قاطع قدرة الثقافة على تجاوز الحواجز الأيديولوجية، والسير في طريقها المستقل... ارتكزت تجربة الكويت على التدخل النشط للدولة في قطاع الثقافة، وكانت ثمار هذا التدخل إيجابية إلى حد بعيد، ولم يكن ذلك من أجل فرض وجهات نظر معينة إذ تنعكس على هذا الإنتاج معظم ألوان الطيف الثقافي".

تلك شهادات متعددة المداخل، فمن وقت وفرص للدراسة تتيحها جامعة الكويت للأساتذة الجادين في تتبع دراساتهم دون تدخل أو فرض، إلى اعتراف بالعناصر الفاعلة لتهيئة جو ثقافي حر ومتشبث بالثوابت، إلى انعكاس ألوان الطيف الثقافية العربية من نقل وعقل، معاصرة وتراث، أنتجت في النهاية ما يمكن أن نصفه بالواحة الثقافية المزهرة بين واحات عربية أخرى.

الرافد النشط

الثقافة في الكويت هي جزء من تيار كامل ومتدفق هو الثقافة العربية، وهي رافد من روافدها ولكنه الرافد الأكثر جريانًا والأرحب ضفافًا، تماثله الحركة الثقافية في بيروت والقاهرة ودمشق، وهو مع العديد من روافد الثقافة العربية يصب في هذا النهر المتدفق، ولعل النشاط الثقافي في الكويت قبل الاحتلال العراقي غيره من حيث المضمون والأهداف بعد التحرير. لقد كانت الثقافة في الغالب قبل ذاك الفاصل الحزين في تاريخ أمتنا العربية منفعلة فأصبحت فاعلة، وكانت تتعامل مع شعارات جاهزة يميل قطاعٌ منها إلى اليسار الثقافي وقطاع آخر إلى اليمين الثقافي، وأصبحت بعد ذاك التاريخ - كجزء من الثقافة العربية الجديدة - تطرح الأسئلة ولا تكتفي بالمسلمات، تستخدم العقل وتتجنب العاطفة معترفة بقدرة الإنسان العربي على الإضافة واستخدام العقل للتمييز بين الخبيث والطيب.

وفي تجربة مهرجان القرين الثقافي الأولى 1994م والثانية 1995م صقل لهذا المسار الجديد، فقد التقى على أرض الكويت نخبة من المبدعين العرب في الرواية والقصة والسينما والمسرح، على خلفية معرض كتاب عربي أصبح دوليا، و على امتداد مجموعة من الندوات المتخصصة في محاولة جادة لنقل العلاقة بين قطاعات المثقفين العرب من التوتر والصراع إلى الحوار والمشاركة، وإلى صراع الأسئلة وعدم الاكتفاء بالأجوبة الجاهزة. إنه مسار مطلوب من قبل النموذج السائد في الثقافة العربية اليوم. لقد استنزفتنا الشعارات السابقة وتحيزنا إلى درجة العمى إلى هذا الطرح أو ذاك، وقد آن لنا أن نرى الواقع كما هو، وأن نستخلص منه العبر والدروس. وخلف مهرجان القرين.. وخلف العديد من إنجازات الكويت في مجال الثقافة يوجد جهازٌ لا بد من الإشارة إلى جهوده في هذا المجال وهو المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الذي يبلغ من العمر الآن 23 عامًا استطاع خلالها أن يرسي أسسًا واضحةً للثقافة والفنون والآداب وأن يصبح جزءًا أساسيا من تلك السياسة الثقافية التي تبنتها الكويت. ولقد مثل إنشاء المجلس في عام 1973م إحدى الركائز الأساسية لحلم الكويت بأن يكون لها دور ومنهجٌ في مسيرة الثقافة العربية، يعرف اسمه جيدًا من هم خارج الكويت من خلال المطبوعات التي تحمل اسمه.. أما من في داخلها فقد كان البعض يفتقد دوره الطموح في تطوير الفنون ورعايتها، حتى جاء مهرجان القرين الأول والثاني ليترجم نظرته الشاملة للعملية الثقافية بجوانبها المختلفة فقد استطاع أن يقدم الكتاب ويقيم المعارض التشكيلية ويحيي الليالي المسرحية والموسيقية بجانب الندوات الأدبية التي شارك فيها العديد من رجالات الأدب والثقافة. وبذلك فقد لعب دور وزارة الثقافة المصغرة وهو الدور الذي أنشئ من أجله منذ البداية وقد ساهم أمينه العام الدكتور سليمان العسكري في إعطاء هذا المهرجان بعده التكاملي والقومي أيضًا.

الأفكار الممتازة

تقول الحكمة: إن الأفكار الممتازة ليس لها عمرٌ، فقط لها مستقبل. وأمامنا مجموعة من الأفكار الثقافية الممتازة التي تحتضنها الكويت كإصدارات ثقافية، فبجانب مجلتك هذه التي تطالعها "العربي" وتطالع فيها ما تنتجه نخبة المثقفين في الأقطار العربية العديدة دون تمييز إلا الأفضل والأحسن والأجود، هذه المجلة التي تصل بعد أقل من سنتين من الآن للاحتفال بمرور أربعين عامًا على إصدارها، وتسعى العربي إلى استعادة الدور الذي كانت تقوم به قبل الغزو، فسوف تصدر قريبًا كتاب العربي الذي كان يعد مرجعًا لكل المقالات المهمة التي تنشر على صفحات المجلة الأم وكذلك سوف تصدر العربي الصغير التي كان المهتمون وخبراء التربية يعتبرونها واحدة من أهم مجلات الأطفال في الوطن العربي، هناك إصدارات أخرى عديدة تتوزع بين جامعة الكويت، ومؤسسة الكويت للتقدم العلمي، والمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، وللتذكير فقط فإن جامعة الكويت تصدر اليوم عشر مجلات علمية متخصصة اثنتان منها بالإنجليزية هما مجلة العلوم "ومجلة العلوم الطبية" وثماني أخريات باللغة العربية هي مجلة "العلوم الاجتماعية"، ومجلة "دراسات الخليج والجزيرة العربية"، ومجلة "الحقوق"، و"حوليات كلية الآداب"، و"المجلة العربية للعلوم الإنسانية"، ومجلة "الشريعة والدراسات الإسلامية"، و"المجلة التربوية"، و"المجلة العربية للعلوم الإدارية". ويصدر المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الكتاب الشهري المنتشر"عالم المعرفة"، والمجلة المتخصصة الفصلية "عالم الفكر"، والعدد الواحد من هذه المجلة كتاب ضخم بحد ذاته وهو مرجعٌ مهم للمتخصصين في القضايا التي طرحها ويطرحها في كل عدد. و"سلسلة المسرح العالمي "وهي أضخم مشروعً لدعم الثقافة العربية عن طريق ترجمة المسرحيات العالمية، وقد صدر عددها الأول في أكتوبر 1969م ومازالت مستمرة، ثم مجلة " الثقافة العالمية " وتصدر كل شهرين منذ نوفمبر 1981م، وهي مجلةٌ تترجم الجديد في الثقافة والعلوم وتقدم ما ينشغل به العالم ثقافيا للقارئ العربي.

أما مؤسسة الكويت للتقدم العلمي التي تأسست سنة 1976م من أجل (دعم التطور الفكري والحضاري في الكويت والأقطار العربية) فهي بجانب تشجيع ودعم مشاريع البحوث والبرامج العلمية الكويتية والعربية والدولية، فإنها تقدم جوائز سنوية تقديرية مجزية للبارزين في مجالات العلوم والثقافة، كما تقوم المؤسسة بنشر الكتب والمجلات المتخصصة مساندة لحركة التعريب والترجمة والتأصيل في البحوث العلمية والاجتماعية.

ويقدم مركز البحوث والدراسات الكويتية مساهمته في نشر الثقافة العربية من منظور مختلف، فاهتمامه الأساسي ينصب حول إبراز الدور الذي قامت به الكويت في ماضيها وحاضرها. وقد فرض العدوان العراقي الذي وقع على الكويت عام 1990م أولوياته على اهتمامات المركز فأصدر حتى الآن حوالي خمسين كتابًا تتناول الكويت وجودًا وحضارة وواقعاً وشعباً. وقد صدرت بعض هذه الكتب باللغة العربية وترجم العديد منها إلى الإنجليزية والفرنسية والروسية. وهو يتبنى ترجمة كل إصداراته إلى اللغات الحية بعد أن لمس إقبالًا متزايدًا على منشوراته.

وهناك العديد من المؤسسات غير الرسمية التي ترعى الثقافة العربية في الكويت، وتضيف إليها الجديد والمبتكر. ولأن هذه الأفكار كما قلنا هي أفكارٌ ممتازة فإن تطلعها إلى المستقبل لإثراء الثقافة العربية - مع روافد عربية أخرى - قابل للتوسع والنمو.

وتكاد تكون هذه الإصدارات نموذجًا رائعًا للعمل العربي الثقافي المشترك، فالكويت تتحمل مسئولية تمويل هذه الإصدارات والأنشطة، فيما يشارك في إنتاج هذه الخدمة الثقافية جميع المثقفين العرب من كل الأقطار العربية تقريباً، وبينهم بالطبع مثقفو الكويت والخليج العربي لتقديم هذه الإصدارات للقارئ العربي وكل قارئ للعربية، فتصل إليه في مدينته وقريته عبر شبكة توزيع حديثة وبسعر رمزي زهيد. بجانب ذلك فإن هناك حصيلةً معرفية ناتجةً عن المؤتمرات والندوات الثقافية التي تؤمها نخب من كبار المثقفين ليناقشوا أهم القضايا الفكرية والثقافية والفنية والأبحاث والدراسات. هو زادٌ وفيرٌ للثقافة العربية ولو جمعناه وصنفناه لرسم خريطة حقيقة لحركة الثقافة في العقود الثلاثة أو الأربعة المنصرمة، لكان مرشدًا لمن أراد استنباط الجوهري والعام والمشترك في الثقافة العربية حتى لا نعيد إنتاج ما سبق أن أنتجناه، بل نبدأ من حيث انتهت الجهود السابقة، ولتكون هذه الخريطة بمنزلة مرآة تعكس بصدق تطور الثقافة والفكر بلا قيود، وأساسًا لبناء نوع من التراكم الكيفي فنعرف أين نقف من الماضي ومن الحاضر ونستشرف طريق المستقبل.

ولعل السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا اختارت الكويت الاضطلاع بهذا الدور؟. هل يعود السبب إلى بنية الإنسان الكويتي نفسه، ورغبته في الانتماء وإحساسه القديم بالديمقراطية؟.

إن الكويت تلك الدولة الصغيرة في أطراف العالم العربي كانت تبحث دومًا عن شرايين متدفقة تربطها بالجسد العربي الكبير وليس أفضل من شرايين الثقافة التي تستخدم اللغة المشتركة والتوجه المشترك دون أن تقع فريسة للتناقضات السياسية والفروق الاقتصادية.

وقد ساهم في صنع هذا التوجه العديد من مثقفي الكويت ورجالاتها من ذوي التوجه القومي الذين أكملوا دراساتهم العليا في العديد من العواصم العربية الحافلة وعادوا يحملون في أعماقهم قبسًا من زخمها الثقافي. إن هذه التجربة لم تثر فقط آفاقهم الفكرية ولكنها أزالت كثيرًا من الحواجز التي تحيط بالروح. لقد أحسوا دومًا بأنهم جزء من كل شامل وأن عليهم جميعًا أن يتشاركوا في التوزيع العادل للثروة الثقافية - على حد تعبير الدكتور فؤاد زكريا - كما أن الحس الديمقراطي الأصيل في داخل نفس كل كويتي جعل من طرح هذه الثقافة وجعلها حقا للجميع أمرًا فعليا. وإذا كانت المخطوطة هي تجسيدًا لثقافة النخبة، فإن انتشار الكتاب هو أفضل دليل على ديمقراطية الثقافة.

لقد آمنوا بأن الكتاب هو وسيلتهم لتوحيد المثقفين العرب والارتفاع بمستوى اللغة العربية وأداة للتنوير الحضاري.

الوسائل الإستراتيجية للثقافة

الثقافة لها وسائلها، منها الوسائل التكتيكية، والوسائل الإستراتيجية، وفي ظني أن الوسائل التكتيكية هي التلفزيون والإذاعة والأشرطة، وهي تكتيكيةٌ لأن تأثيرها مؤقت أو قل غير دائم، إنها الثقافة العابرة أو ثقافة اللحظة، أما وسائل الثقافة الإستراتيجية فهي الكتاب والمجلة وإلى حد ما الجريدة، حيث إنها - أي الأخيرة - تقع في منزلة بين المنزلتين. الكتاب والمجلة في واقعنا العربي محدودًا الانتشار، بل إن مفاجأةً أصبت بها عندما علمت في إحدى الندوات المتخصصة التي عقدت هذا العام في إطار مهرجان القرين الثقافي وهي (ندوة حقوق النشر والتأليف في الوطن العربي) أن مجموع ما يصدر من عناوين في الوطن العربي من أقصاه إلى أقصاه لا يتجاوز العشرة آلاف عنوان في العام، وهذا عدد ضئيل جدا يشعر المهتم بالثقافة العربية بالحسرة، وإذا أضفنا إلى هذه الحسرة أن العديد من هذه الكتب لا تعبر الحدود بين بلاد المنشأ وبلاد الطلب، وإذا أضفنا كذلك أن بعضها لا يرقى إلى مستوى التأليف العلمي المطلوب أو غير مطبوع طباعة جيدة تتضاعف الحسرات مرات.

ولقد تنبهت الكويت منذ فترة طويلة لأهمية وضع خطة شاملة للثقافة فاستضافت على مدى عامين وبالتعاون مع الجامعة العربية في مطلع السبعينيات مشروعًا لدراسة وضع هذه الخطة شارك فيه نخبة كبيرة من المثقفين العرب في تخصصات كثيرة، ولعلي لا أجد عبارةً دالةً على ضخامة المشروع الحيوي والضخم إلا تلك التي نقلها الدكتور محمد حسن عبدالله عن محيي الدين صابر وكان الأخير هو الرجل الأول في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (أليكسو) إذ قال: إن هذا الجهد التاريخي الذي ظل حلمًا قوميا غاليًا فاستوى عملًا صالحًا، امتلكت به الأمة العربية - وهي تواصل مسيرة التقدم الحضاري - وثيقةٌ فكرية بينة، في هذا المستوى للثقافة العربية".

لقد صدرت هذه الخطة في ستة مجلدات، وكان خلفها ومحركها مثقف عربي كويتي بارز هو الأستاذ عبدالعزيز حسين، شفاه الله. ولقد كانت محاولةٌ جادةٌ لرصد التحولات الكبرى في العالم وتأثيرها في المجتمعات العربية، فقد كان هاجس القائمين على وضع تلك الخطة هو الفجوة التي تتسع بين الثقافة العربية والثقافة العالمية، ومع ثورة الاتصال التي ضربت الوطن العربي في التسعينيات كانت تلك الخطة الإنذار الأول الذي طالب في خمسة محاور بحفظ الهوية الثقافية، وإبداع الثقافة وقيمها وإدارتها إدارةً حديثة وربطها بالثقافة العالمية.

لقد كانت خطةً طموحًا وستبقى وثيقةٌ تاريخيةٌ لمن يتمكن من قراءتها وتحليلها.

لقد قالت تلك الخطة في معوقات الثقافة العربية وسبل تطويرها ما لا يستطيع فصيح الزيادة عليه، إلا أن المؤسف أن هذه الخطة الطموح لم تترجم إلى عمل في كثير من الدول العربية.

اكتشفت تلك الخطة في مقدمتها ومضمونها أن الفكر العربي - وقتها - لا يعبر عن الواقع الحقيقي المعيش. لقد كانت شعاراتٌ عالية الرنين دون نتيجة تذكر على الأرض، وكأن معظم المفكرين العرب يعبرون عن واقع آخر، واقع حلم وصعيد خيال، وما حدث بعد الكارثة سنة 1990م هو ما حذرت منه الخطة الشاملة، واكتشفه البعض واقعًا بعد فوات الأوان.

الحقوق الثقافية

العالم لا يتوقف، فاهتمام البشرية بالثقافة كان وسيظل متوافرًا ويكفي أن نشير إلى أن الثقافة أصبحت من الحقوق التي تحرص عليها الشعوب ولها إعلانات ودساتير، كما هي حقوق الإنسان، فهي جزء من حرياته، ولعلني أذكر أن إعلانًا عالميا للثقافة صدر في مكسيكو في أواخر سنة 1982م، حدد الثقافة في إحدى فقراته بالآتي:
(إن الثقافة هي التي تمنح الإنسان قدرته على التفكير في ذاته، وهي التي تجعل منه كائنًا يتميز بالإنسانية المتمثلة في العقلانية، والقدرة على النقد، والالتزام الأخلاقي، وعن طريقها - الثقافة - نهتدي إلى القيم ونمارس الاختيار وهي وسيلة الإنسان للتعبير عن نفسه, والتعرف على ذاته..).

وتقوم على خدمة الثقافة في مجتمعات أخرى العديد من الإصدارات الرصينة والمنشورة - وتتسابق فيما بينها - حتى في الثقافة الواحدة. وإن أخذنا على سبيل المثال الثقافة باللغة الإنجليزية فإننا نجد أن هناك مصدرين يتنافسان: الأول المصدر البريطاني والثاني المصدر الأمريكي، فإن كان الإنجليز كما هو معلومٌ - ومتفقٌ عليه - يتميزون في فكرهم بالتقريبية أو الاحتمالية التي تناسب إدراكات الحواس وهي الإدراكات التي يعولون عليها، فإن الأمريكيين قد بنوا فكرهم على قاعدة المنفعة، فالفكرة تقاس بنفعها، فهي صواب إن نفعت وهي خطأ إن لم تنفع، والكفة في هذه الثقافة المشتركة تميل إلى الإنتاج الأمريكي، فالمجلات الخمس الأكثر رواجًا في بريطانيا الثالثة والرابعة منها أمريكيتان هما: "ريدردايجست" (المختار) و"الناشيونال جيوغرافيك" (المجلة الجغرافية)، في حين أن الأولى والثانية والخامسة هي مجلات تسلية، وهي على التوالي: مجلة الراديو، ومجلة التلفزيون، ومجلة السيارات! وكان الإنجليز يتهمون الأمريكيين حتى وقت متأخر بأنه ليس لديهم تاريخٌ ولا طبقات ولا ثقافةً !، ثم جاءت موجة الأفلام الخيالية! فزاد اتهامهم اتهامًا آخر هو أنه ليس لديهم عقلٌ أيضًا!!

ولكن هذا التصور كان الخطأ الذي بني على صورة نمطية تركتها هوليوود، كما هي صورة العربي في الخليج لدى العربي الآخر هي الصورة التي غرسها خيال آبار النفط. لقد نشطت الحياة الثقافية الأمريكية ونتجت عنها مجموعةٌ من الأفكار والرؤى المهمة، لقد شغل مثلا فرانسيس فوكوياما الحياة الثقافية في العالم في بداية التسعينيات بأطروحته "نهاية التاريخ" التي ناقشتها أقلام من كل اللغات الحية تقريبًا، والتي ادعى فيها أن صراع الأفكار الذي احتدم عبر التاريخ قد انتهى وأن الديمقراطية الليبرالية لم تنتصر فقط على الشيوعية بل إنها الحقيقة المطلقة للتاريخ. لقد سيطرت التعاريف السياسية الأمريكية على الثقافة السياسية الغربية من "العزل الإيجابي" إلى "ما تحت الطبقة" إلى "الاعتماد المتبادل" و"الرعاية المتبادلة" فقط للإشارة إلى بعض التعابير الثقافية السياسية. وتعج الساحة الثقافية الأمريكية بمجموعة من المجلات الأدبية والثقافية التي أصبحت راسخة ودولية في آن، فمجلة مثل "التايم" توزع أربعة ملايين نسخة في أمريكا في الوقت الذي توزع فيه مجلة مثل "الإيكونومست" Economist البريطانية أقل من نصف مليون نسخة في بريطانيا (عدا توزيع الاثنتين خارجيا). "الأميركان سبكتاتور" American Spectator و"نيوز رببليك New Republic " توزعان على التوالي 300 و100 ألف نسخة أما مجلة مثل "ناشيونال جيوغرافيك" National Giographic فإن المشتركين المباشرين فيها في الولايات المتحدة ستة عشر مليون قارئ.

باختصار يتحول إنتاج الثقافة وتوزيعها في العالم الغربي المتحدث بالإنجليزية من بريطانيا إلى الولايات المتحدة، وفارق الإنتاج في الكم كما هو الكيف كبير.

إن ذلك لا يمثل تحديًا لقطاع من الثقافة الأنجلو سكسونية لقطاع آخر، إنما يمثل تحدي غلبة مكان ما في إنتاج الثقافة على مكان آخر.

وهنا تبرز أهمية المساحة الثقافية تأصيلًا وترجمة في الكويت وفي القطاع الأخير تتصدى مؤسسات الدولة بشكل منظم لأخطر القضايا التي تواجه الثقافة العربية ألا وهي الترجمة، فلم تحدث نهضةٌ فكريةٌ في التاريخ لأمة وثقافة ودول في مثل ظروفنا العربية لم تسبقها نهضةٌ في الترجمة.

وقدمت الكويت جهودًا متميزةً في هذا المضمار، فـ "سلسلة المسرح العالمي" هي ترجمات مباشرة واختياراتٌ من أهم ما أنتجه المسرح العالمي. كما أن بعض كتب "عالم المعرفة" هي ترجمةٌ أيضًا، كما أن مجلة "الثقافة العالمية" ترجمة للحديث مما أنتجه الفكر في العلم والإنسانيات والأدب، كما أن مؤسسة الكويت للتقدم العلمي بجانب ترجمتها لبعض أمهات الكتب بشكل غير دوري، فإنها تصدر مجلة "العلوم" المترجمة عن مجلة العلوم الأمريكية، إنها مساهمةٌ لا يدعي أحد أنها كاملة وشاملةٌ لأن هذا الجانب يحتاج إلى تضافر الجهود الرسمية والشعبية في دول عربية عديدة لعمل مشترك، حيث إن مجال الترجمة في بعض مناطقنا العربية وبعض خياراتنا هزيل بل وضار. إن العمل الثقافي المشترك والمطلوب هو في ترجمة أهم الكتب العلمية والأدبية وكتب العلوم الإنسانية ترجمة منضبطة ومحددة التعاريف لملاحقة الطفرة المعرفية في عصرنا هذا عصر المعلومات، مما يؤدي في النهاية إلى تعريب العلوم وتعريب التعليم الجامعي الذي يعاني غربةً في بعض أقطارنا.

ولا يقتصر الأمر على الجهود الحكومية في مجال الثقافة ولكنه يمتد إلى القطاعات الأهلية أيضًا ويكفي أن أشير في هذا الصدد إلى مؤسستين كويتيتين حققتا انتشارًا ملحوظًا على مستوى الوطن العربي وأعني بهما دار سعاد الصباح ومؤسسة البابطين للإبداع الشعري. والقارئ المهتم يمكنه أن يطالع بالتفصيل، في مكان آخر من هذا العدد مقالًا تفصيليا عن المعجم الشعري الذي أصدرته مؤسسة البابطين.

أما دار سعاد الصباح للنشر فقد نشرت حتى الآن سبعة وثمانين كتابًا في مختلف فنون المعرفة والإبداع وقد حظيت الترجمة منها بنصيب وافر. وهي تستعد الآن لمرحلة جديدة فيما يسمى بالنشر الثقيل وأعني به نشر الموسوعات الضخمة ومنها موسوعة الكويت الثقافية وموسوعة المسح الثقافي بالإضافة إلى دورها في إحياء نتاج الرواد من مختلف الدول العربية.

وتسعى مجموعة من دور النشر الأهلية الأخرى للاستفادة من أجواء الحريات العامة لرفد عملية النشر بمجموعة متنوعة من العناوين.

فهل يمتد الدور الثقافي الكويتي إلى عصر المعلومات والتطور التكنولوجي الذي نعيش فيه؟.

لقد تحررت الكتابة والمعلومات من سيطرة الورق وتمردت على أغلفة الكتب الضيقة. وأصبح الدور الآن للاتصال الآلي عن بعد وجلب أي معلومة مهما كانت صعبة. ولكن العديد من الدول والأفراد ما زالت تكلفة هذا الاتصال عالية بالنسبة إليهم، لذلك جاءت فكرة الكتاب الإلكتروني حتى تحل محل الكتاب الورقي. فالقرص الوحيد من أقراص الليزر يمكن أن يحتوي على ما يعادل 250 ألف صفحة مطبوعة. أي أننا يمكن أن نحصل بواسطة قرص واحد على مكتبة عامة كاملة ومفهرسة أيضًا.

وهي ليست كتبًا جامدة. ولكنها مرنةٌ تتيح للقارئ فرصة الاختيار والتدخل أحيانًا إذا كان يود ذلك. أي أنه يستطيع أن يقتطع فقرات من أي كتاب وأن يعيد جمعها في ترتيب جديد وإضافة أي تعليق عليها. وهذا الكتاب الإلكتروني الجديد يفتح أمامنا آفاقًا جديدة من آفاق ديمقراطية الثقافة. وتضاءلت عوائق الوصول إلى المعلومات إلى حد كبير. فهل يمكن أن يمتد دور الكويت للمساهمة في توفير هذا الكتاب؟ لقد زادت الهوة المعرفية وأصبحت الثقافة رغمًا عنا وقفا على أجزاء من العالم. فهل يمكن أن تساهم الكويت في كسر احتكار الكتاب الإلكتروني كما فعلت من قبل مع الكتاب العادي؟.

إن جوهر رسالة الكويت الثقافية هو الدعوة إلى تنوير العقل وهو رسالة إنسانية - بعيدة عن الهوى - منفتحة تدعو إلى مستقبل أفضل للحياة العربية، وهي أيضًا عربية إسلامية وتشهد تطورًا متسارعًا يؤكد الحرص الرسمي والشعبي على المساهمة في هذا الحقل، حيث إن نشر الثقافة جزء من رسالة الكويت وأهلها إلى إخوانهم وذويهم، فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.

 

محمد الرميحي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات