التعريف بابن خلدون ورحلته شرقاً وغرباً عبد الرحمن بن خلدون عرض: بهاء الدين محمد علوان

التعريف بابن خلدون ورحلته شرقاً وغرباً

هذه طبعة جديدة من كتاب (التعريف بابن خلدون ورحلته غرباً وشرقاً) تأليف عبد الرحمن بن خلدون, تحقيق محمد بن تاويت الطنجي, وتقديم الدكتور عبادة كحيلة أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية آداب القاهرة.

عبد الرحمن بن خلدون (732 - 808 هـ) شعلة أدبية بارزة, أثرى الأدب العربي بكتاباته في مختلف فنون المعرفة, ويعد من واضعي أسس علم الاجتماع. وقد أثارت سيرة حياته جدلاً كثيراً.. وطال بقاؤه في مصر حتى اختاره الله ودفن بالقاهرة.

ويشير الطنجي محقق الكتاب,إلى أنه بعد أن اختار موضوع (مقدمة ابن خلدون) في كلية آداب القاهرة, اتجه لقراءة سيرة حياة ابن خلدون, وطالع ما كتب عنه فوجد اختلافاً بين الكتابتين فاتجه إلى القراءة المقارنة للسيرة, وتحقيقها مع اختيار منهج جديد (أن يخرج النص كما أراده مؤلفه أن يكون, كلمات خفيفة الوقع على الألسن, ولكنها عند وزنها في ثقل الجبال).

واعتمد المحقق على نسختي المؤلف الكاملتين بعد أن درس في مكتبات القاهرة واستنبول والمكتبات الخاصة على أربع عشرة نسخة وما بينها من اختلافات. وقد اجتهد في إثبات الشرح والتعليق في هوامش الكتاب, وأضاف إلى الأماكن القديمة أسماءها الحديثة.

وصاحب المقدمة ذات الإحدى عشرة صفحة الدكتور عبادة, أفاض في السيرة الدقيقة التي كتبها عن المؤلف (هذا كتاب في حاجة إلى تعريف, لكاتب ليس في حاجة إلى تعريف). وعندما ينتقل إلى ما تولاه ابن خلدون من وظائف يرمي بكلماته إلى ما

يدور في الساحة الحالية (وكان شأنه مع هذه الوظائف شأن غيره من المثقفين - الكثرة من المثقفين - في علاقتهم بالسلطة - أية سلطة - فهم مع هذه السلطة, وليسوا بالضرورة مع صاحب السلطة, ولديهم ما يبررون به دائماً مواقف تتغير لمصالح لا تتغير).

يقول أحمد أمين (عنيت أن أصف ما حولي مؤثراً في نفسي, ونفسي متأثرة بما حولي). (حياتي - ط3, ص10, 11).

الباحث عن الحقيقة

ويقول الدكتور حسين فوزي النجار (السيرة هي البحث عن الحقيقة في حياة إنسان فذ, والكشف عن مواهبه وأسرار عبقريته من ظروف حياته التي عاشها, والأحداث التي واجهها في محيطه, والأثر الذي خلفه في جيله, لذلك كانت أقرب إلى التأثير الدرامي من كل ألوان التاريخ الأخرى, وكانت أكثر إثارة للقارئ من كل كتابة تاريخية غيرها). (التاريخ والسير - ط2 - ص20, 21) فهل التزم ابن خلدون بهذه الرؤية? تحدث ابن خلدون عن نسبه وأجداده في حضرموت من عرب اليمن, جاء جده إلى الأندلس واستقر في اشبيلية, وساهم في الفتن التي دارت بين الحكام العرب هناك, وحظي بوظيفة مرموقة. ولد عبد الرحمن في تونس في غرة رمضان سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة هجرية, ولما كان أبوه قد ابتعد عن تولي الوظائف فاتجه واهتم بالعلم, شب ابنه على منواله فحفظ القرآن ودرس كتباً كثيرة وتعلم الفقه والعلوم الإسلامية وذكر أساتذته.

وفي سن العشرين اتجه إلى تولي الوظائف في المغرب لدى السلطان إبراهيم بن أبي الحسن (فلما كانت دولة السلطان أبي سالم, جعل الإنشاء والتوقيع والسر لمؤلف الكتاب عبد الرحمن بن خلدون). وفي عبارة مقتضبة من أربع كلمات حدثنا عن وفاة والديه (كان الطاعون الجارف, وذهب بالأعيان, والصدور, وجميع المشيخة, وهلك أبواي, رحمهما الله).

وانتقل للعمل في معية حاكم تونس, ثم إلى سلطان تلمسان أبي عنان سنة 756هـ, واهتم بالاطلاع والاستفادة من علم الشيوخ الوافدين من أهل المغرب ومن أهل الأندلس على بلاد تلمسان.

ويجنح ابن خلدون إلى فعل جده. فعلى الرغم من أنه في معية سلطان تلمسان فقد راسل أمير بجايه من الموحدين الذي ثار على السلطان, وعندما قبض عليه وبعد التعذيب اعترف على عبد الرحمن فأودع الأخير السجن ولم تشفع له قصيدة الاستعطاف, وأفرج عنه بعد وفاة السلطان, وعمل مع السلطان الجديد.

ولم يتوقف عن المؤامرات فعمل على عودة السلطان أبي سالم إلى تلمسان وعمل في معيته في وظيفة السر والترسيل عنه والإنشاء لمخاطباته. وبعد مقتل السلطان عمل مع عمر بن عبد الله, إلى أن ساءت أمور عبد الرحمن فرحل إلى الأندلس وبعث زوجته وولديه إلى أخوالهم بقسنطينة.

دخل غرناطة فأكرمه السلطان ابن الأحمر, واهتم به وزيره ابن الخطيب, وبعثاه إلى ملك اشبيلية لعقد الصلح حيث نجح في مهمته فأهدى إليه قرية البيرة بمرج غرناطة تقديراً لكفاءته واستقدم أسرته. وبعد أن ساءت أموره رحل إلى بجايه وعمل مع السلطان, وبعد أن نجحت الفتن لدى السلطان رحل عبد الرحمن إلى المغرب الأقصى حتى وصل إلى فاس فأكرموا وفادته واشتغل بالعلم والتدريس.

وأفاض في سرد أحداث المعارك بين أمراء المسلمين من أجل السلطة, وتعرض لدخوله السجن والإفراج عنه بعد يوم, فعزم على الرحيل إلى تلمسان في ربيع سنة 776 هـ حيث وفدت أسرته وانتقل إلى منداس واستقر في قلعة ابن سلامة - تقع في مقاطعة وهران بالجزائر - واتجه إلى التأليف (فأقمت بها أربعة أعوام, متخلياً عن الشواغل كلها, وشرعت في تأليف هذا الكتاب, وأنا مقيم بها, وأكملت المقدمة منه على ذلك النحو الغريب, الذي اهتديت إليه في تلك الخلوة, فسالت فيها شآبيب الكلام والمعاني على الفكر, حتى امتخضت زبدتها, وتألفت نتائجها).

ولما احتاج إلى مراجع جديدة عاد إلى بلده تونس في شعبان سنة 780هـ وانضم إلى معية السلطان أبي العباس الذي شجعه على استكمال الكتاب وخلص منه, وأهدى إلى السلطان نسخة قدمها مع قصيدة مادحة في مائة وستة وثلاثين بيتاً بدأها:

هل غير بابك للغريب مؤمل أو عن جنابك للأماني معدل


وعندما تأزمت الأمور, قرر ابن خلدون أن يستأذن السلطان في قضاء فريضة الحج فأذن له واستبقى أسرته حتى عودته.

ابن خلدون في مصر

وصل إلى الإسكندرية يوم الفطر سنة 784هـ, واتجه إلى القاهرة بعد شهر وأشاد بالمدينة وجمالها (فانتقلت إلى القاهرة أول ذي القعدة, فرأيت حضرة الدنيا, وبستان العالم, ومحشر الأمم, ومدرج الذر من البشر, وإيوان الإسلام, وكرسي الملك; تلوح القصور والأواوين فى جوه, وتزهر الخوانك والمدارس بآفاقه, وتضيء البدور والكواكب من علمائه; قد مثل بشاطئ بحر النيل نهر الجنة, ومدفع مياه السماء, يسقيهم النهل والعلل سيحه, ويجبي إليهم الثمرات والخيرات ثجه; ومررت في سكك المدينة تغص بزحام المارة, وأسواقها تزخر بالنعم).

ويزور السلطان الظاهر الذي أكرم وفادته, وكلفه في خامس عشر من صفر سنة 786هـ التدريس بمدرسة القمحية بعد أن كان يجلس في الجامع الأزهر, ثم أولاه القضاء المالكي - أحد القضاة الأربعة - بعد أن أبعد القاضي السابق, وعقد جلساته بالمدرسة الصالحية في (بين القصرين) بالقاهرة.

وذكر أن شدته في الأحكام عرضته إلى سخط زملائه وغيرهم. ولم تنجح دسائسهم لدى السلطان في إبعاده عن منصبه. وانبرى ابن خلدون في حديث طويل يعدد فيه مفاسد القضاء المصري وقتها. وعزل عبد الرحمن بعد عفو السلطان عن القاضي السابق, فاتجه للتدريس والتأليف.

وفي هذه الفترة تعرض لمحنة, حين قدمت زوجته وأولاده من تونس فانقلب المركب وغرقت زوجته وخمس بنات ومكتبته ونجا ولدان (فكثر الشغب علي من كل جانب, وأظلم الجو بيني وبين أهل الدولة. ووافق ذلك مصابي بالأهل والولد, وصلوا من المغرب في السفين, فأصابها قاصف من الريح فغرقت, وذهب الموجود والسكن والمولود; فعظم المصاب والجزع, ورجح الزهد).

وفي منتصف رمضان سنة 789 هـ خرج مؤلفنا مرافقاً المحمل الشريف لأداء فريضة الحج, وعقب عودته تولى التدريس بمدرسة صلغتمس في المحرم سنة 791 هـ, وألقى عند تسلمه العمل خطبة طويلة دونها - كما جرت عادة تلك الفترة - أشاد فيها بالسلطان وتحدث عن المنهج الذي سيعتمد فيه على تدريس كتاب الموطأ للإمام مالك بن انس, واستمر في التأليف. وتملك أرضاً في الفيوم, وأولاه السلطان مشيخة خانقاه بيبرس ذات العائد المالي الكبير, ثم عزل بعد عام من وظيفته.

ويصور ابن خلدون طرفاً من أحوال العالم الإسلامي, وركز اهتمامه على الدولة الأيوبية من صلاح الدين حتى الصالح نجم الدين أيوب ابن الكامل محمد بن العادل أبي بكر أخي صلاح الدين الذي أشترى ألف مملوك مدربين لحمايته من منافسيه, وأقام في دمياط. (كان أبوه - الملك الكامل - قد اتخذ لنزله هنالك قلعة سماها المنصورة, وبها توفي رحمه الله, فكان نجم الدين نازلاً بها في مدافعة ساكني دمياط من الفرنج, فأصابه هنالك حدث الموت). ويشير إلى أيبك وقطز وظهور التتار واستيلاء هولاكو على بغداد والشام فحاربه قطز, إلى أن تولى مصر الظاهر بيبرس وقلاون ثم ولداه خليل الأشرف, (ثم محمد الناصر, وطالت أيامه, وكثرت عصابته من مماليكه, حتى كمل منهم عدد لم يقع لغيره, ورتب للدولة المراتب, وقدم منهم في كل رتبة الأمراء, وأوسع لهم الإقطاع والولايات, حتى توفرت أرزاقهم واتسعت بالترف أحوالهم, ورحل أرباب البضائع من العلماء والتجار إلى مصر, فأوسعهم حباء وبراً, وتنافست أمراء دولته في اتخاذ المدارس والربط والخوانق, وأصبحت دولتهم غرة في الزمان, وواسطة في الدول).

وبالرغم من دموية المماليك لتولي السلطة, إلا أن السلطان برقوق تمكن من استمالة زملائه (ورضي به أصحابه وعصابته, فجلس على التخت في تاسع عشر رمضان من سنة أربع وثمانين, وتلقب بالظاهر, ورتب أهل عصابته في مراتب الدولة, فقام وقاموا بها أحسن قيام).

وفي منتصف شوال سنة 801هـ يتولى ابن خلدون قضاء المالكية, وسافر لزيارة بيت المقدس وزار مدفن الخليل وغزة وعاد إلى القاهرة في أواخر شهر رمضان سنة 802 هـ, وأقيل من القضاء في منتصف المحرم سنة 803 هـ لمبالغته في العقوبات, فعاد للاشتغال بالتأليف.

تحت الحصار

وعندما سافر السلطان الملك الناصر فرج في منتصف رمضان من سنة ثلاث وثمانمائة إلى الشام لمحاربة التتار, اصطحب الخليفة العباسي المتوكل على الله, والقضاة الثلاثة وابن خلدون. وبعد شهر من المعارك وقلعة دمشق محاصرة, عاد السلطان لمصر لمواجهة انقلاب وشيك ضده وترك الجميع في دمشق مع أهلها المحاصرين.

اتفق رأى القضاة والفقهاء في دمشق على الاتصال بأمير التتار تمر وطلب الأمان, فخرج بعضهم متدلين من السور, وتم الاتفاق على وضع دمشق تحت رعايته.

وعندما علم عبد الرحمن بن خلدون من العائدين بأن تمر سأل عنه, هبط من السور والتقاه وقبل يده فأجلسه, وعبر المترجم طلب منه (أحب أن تكتب لي بلاد المغرب كلها, أقاصيها, وأدانيها, وجبالها, وأنهارها, وقراها, وأمصارها, حتى كأني أشاهدها, فقلت, يحصل ذلك بسعادتك; وكتبت له بعد انصرافي من المجلس لما طلب مني ذلك, وأوعيت الغرض فيه في مختصر وجيز يكون قدر ثنتي عشرة من الكراريس المنصفة القطع).

ولازم ابن خلدون الأمير تمر في مجلسه خارج دمشق وداخلها, ورغب أن ينتقل معه حين يغادر الشام حيث يترك نائبه في دمشق, فاستطاع أن يراوغه بحجه إنهاء أعماله على أن يعود مع أسرته ليلحق به, وسافر إلى القاهرة, ولم ينفذ قوله. وتصالح سلطان مصر مع الأمير تمر, وبعث عبدالرحمن برسالة إلى صاحب المغرب يروي ما جرى بينه وبين تمر في دمشق. ويختتم مؤلفنا سيرة حياته بذكر توليه القضاء ثلاث مرات أخرى.

واللافت للنظر أن عبد الرحمن بن خلدون شخصية غريبة الأطوار, يتحدث ببساطة عن مشاركته في المؤامرات السياسية في كل مكان عمل به أسوة بجده, إضافة إلى عمله وتعاونه مع كل الحكام الذين التقى بهم لا يفرق بينهم ولا يتوانى عن سرد القصائد الطويلة المرتزقة طوال فترة عمله بالوظائف, كما أكثر من حديثه عن الشخصيات الذين درسوا له. ونتبين قسوة طبيعته الشخصية فهو لم يتأثر لوفاة والديه بالطاعون.

وكتاب ابن خلدون حظي بإعجاب وسخط الكثيرين. يغتبط الدكتور شوقي ضيف (لم يؤلف بعدها ترجمة لها قيمتها وخطرها في وصف العالم العربي وأحواله) (الترجمة الشخصية - ص104 - ط2). وعلى العكس يرى جوزيف داهموس (أما من وجهة النظر الغربية فالكتاب مخيب للآمال) (سبعة مؤرخين في العصور الوسطى - ترجمة د. محمد فتحي الشاعر - ص233 - ط1).

 

عبد الرحمن بن خلدون