المجتمع المدني العالمي محمد السيد سعيد

المجتمع المدني العالمي

إذا ما انتعش المجتمع المدني وتقوى فلن يستطيع مغامرٌ أو حتى بطل أن يسيطر على جهاز الدولة أو أن يستخدم هذا الجهاز لتحطيم هذا المجتمع. وسوف يتعين على كل من يتولى السلطة العامة أن يتحدث باسم المجتمع لا باسم جهاز يعلو عليه. فماذا يعني مصطلح المجتمع المدني الذي نراهن عليه كل هذه المراهنات؟

لا بد أن عددًا كبيرًا من القراء قد سمع أو قرأ تعبير المجتمع المدني، فقد صار هذا المصطلح الرنان أحد أهم المصطلحات المتكررة في الخطاب السياسي الحديث. ولا بأس إذا ما شعر القارئ بأنه لا يستوعب دلالات تعبير المجتمع المدني - فهو بالفعل ما زال ملفوفًا في الغموض، حتى لو كان غموضًا آسرًا. لماذا هو آسرٌ؟ أكاد أسمع هذا السؤال يتردد في عقل القارئ. أظن أن السبب هو أن القارئ لابد أن يكون قد قرن تعبير المجتمع المدني - على نحو ما - بمسألة الديمقراطية والحرية. وقد كان هذا هو القصد بالضبط من إحياء مصطلح المجتمع المدني الذي صكه الفيلسوف الألماني الأشهر هيجل في الربع الأول من القرن التاسع عشر. لقد بعث هذا المصطلح بعد هجر طويل للإيحاء بأن مشكلة الديمقراطية الأولى، ربما، هي في إمكان تخلق مجتمع قادر على الدفاع عن نفسه عندما تشاء الدولة تحطيمه بإلغاء أو حجز أو تكميش الحريات الفردية: المدنية والسياسية، أو بالأفضل مجتمع قادر على السيطرة على دولته وأقلمتها لمصلحته وحاجاته بدلًا من أن يحدث العكس. إن هذا المنحى للتفكير في الشأن الديمقراطي يكتسب قيمته من الخبرات المريرة للقرن العشرين: أي الخبرات التي تبلورت حول نشوء أيديولوجيات ونظم حكم شمولية كان همها الأول هو إعادة تشكيل المجتمع وفقًا لصورة أحادية عنه، بما يشتمل عليه ذلك من عنف واستئصال للتنوع والتعدد الفكري والسياسي، وحتى التعدد الاجتماعي والسكاني، وذلك من خلال توظيف دولاب الدولة، وخاصة دولاب العنف من أجل تحطيم المجتمع القائم وإعادة تشكيله وفقًا لصورة أحادية وجامدة عما يجب أن يكون عليه من منظور ساسة ودعاة معينين. ومما لا شك فيه أن عجز المجتمع في الدفاع عن نفسه ضد هذه الدولة - الغول قد أثار انتباه المفكرين وتساؤل بعضهم عما إذا كان من الممكن تقوية بنيان المجتمع بحيث لا يسهل على الدولة - مهما تغولت - أن تحطمه.

لقد كانت المناسبة التي تم فيها إحياء مصطلح المجتمع المدني هي الأصداء القوية لنداء الديمقراطية والدعوة للتحول الديمقراطي بعد عقود من الحكم التسلطي والشمولي في أكثرية من دول العالم الثالث. يعتقد كثيرٌ من المفكرين أن مجرد تغيير الهيكل الدستوري والقانوني للدولة من الطابع التسلطي إلى الطابع الديمقراطي والمدني لا يكفي بحد ذاته لصيانة وتوطيد التحول الديمقراطي أو لإحداثه أصلًا. وأنه لا بد من تقوية وتمكين المجتمع نفسه من الدفاع عن نفسه في وجه أي محاولة للانحراف بالسلطة العامة أو استخدام وظائفها وأجهزتها العسكرية والبوليسية للقضاء على الحريات الأساسية. ومن هنا ظهرت أهمية فكرة المجتمع المدني. فعملية التمكين والتقوية اللازمة للمجتمع الذي يرغب في صيانة حرياته وحقوقه في مواجهة دولة قد تنحرف بسلطاتها لا بد أن تستند على قاعدة مدنية. فالثقافة المدنية القائمة على الاحترام والطاعة التلقائيين للقانون لا بد أن تنتشر وتتعمق. وكذلك لا بد أن يتكون للمجتمع ذاته منظومة من المؤسسات، وبالتالي عادة ومناهج العمل الاجتماعي المنظم. وفوق ذلك، بل ربما قبل ذلك كله يجب أن يكون للمجتمع قاعدة اقتصادية مستقلة عن الدولة وقادرة على الحياة والازدهار دون تبعية للجهاز الحكومي. فهذه القاعدة الاقتصادية هي التي تضمن في نهاية المطاف نشوء نظام مدني وتمدد الأنشطة والفعاليات المدنية في دروب ومسالك الحياة الاجتماعية كافة.

الوعاء الوطني

هذا كله بالنسبة لتعبير المجتمع المدني على المستوى الوطني ! ولكن هل يعني تعبير المجتمع المدني العالمي شيئًا محددًا لك؟

المجتمع هو كيانٌ تنشد أواصره ومكوناته بعضها لبعض بفعل الثقافة المشتركة، وتتعمق وحدته الداخلية والحدود الفاصلة بينه وبين الكيانات الأخرى بتأثير التشريع الخاص به والذي تنفرد الدولة بوضعه وتطبيقه، وبدعم من جانب الحياة الاقتصادية المترابطة في إقليم معين.

ومعنى ذلك أن المجتمع يتكون في وعاء الوطنية أو الوطن من حيث هو عاطفة انتماء وهوية تتوج روابط معينةً على درجة عالية من القوة والصمود في وجه متغيرات الزمان والمكان.

أي أننا اعتدنا التفكير في تعبير المجتمع بالارتباط مع تعبير الوطن، ولم نكن نتصور - حتى وقت قريب - أن ينشأ مجتمع خارج إطار الوطنية، فهناك شكل رئيسي واحد للمجتمع وهو المجتمع الوطني.

وما يقوله لنا تعبير المجتمع المدني العالمي هو شيءٌ خارج عن المألوف أي أن هناك مساحةً معينةً قد ينشأ فيها مجتمع لا يرتبط فيه الناس معًا بمشاعر الوطنية وعاطفة الهوية المتقدة الواحدة، وإنما خارج هذا الوعاء الوطني، مجتمع يكون وعاؤه الذي يتمدد فيه وينمو هو العالم كله. وفوق ذلك، فإن السمة المحددة التي تميز هذا التعبير أو هذا المجتمع هو كونه مدنيًا: والمعنى المقصود بهذه السمة هو أنه مجتمعٌ لا يقوم على السياسة ولا يتحد بفعل عوامل الأيديولوجيا ولا بفعل الارتباط بمنظمة عالمية محددة ووحيدة يكون لها غرضٌ سياسي أو توظف قوة سياسية، أي مجتمع يرتبط فيه الناس بعوامل وأواصر المدنية، على ما في لفظة المدنية من غموض وتعدد المعاني والمقاصد.

القرية العالمية!

هذا التعبير إذن غريب على علم الاجتماع الذي يتقوم موضوعه الأساسي في لفظة المجتمع، وهو غريبٌ أيضًا على علم السياسة الذي يتقوم موضوعه الأساسي في لفظة السلطة. فحتى علم العلاقات الدولية يعنى فوق وقبل كل شيء بالعلاقات بين دول أو بين مجتمعات مستقلة لكل منها سلطة خاصة وهو كذلك لا يعد مألوفًا في علم التاريخ الذي كان حتى وقت قريب يتعامل مع الحضارات. فحتى لو كان التاريخ قد شهد حضارات عالميةً وتعامل علم التاريخ مع إمبراطوريات ودول عالمية، فقد كان من المسلم به أن هذه الكيانات هي أنماطٌ مختلفةٌ من الإمبريالية التي وثبت من موطن معينٌ لتسيطر على جانب كبير من الكرة الأرضية. وحتى علم الاتصال لم يدركه الطموح الكافي لصك مصطلح مثل المجتمع المدني العالمي الذي يفترض أنه كيان اتصالي، أو متصل اجتماعي قد تفصل الجغرافيا بين عناصره المستقرة، ولكنه قادرٌ على التفاهم عبر وبالرغم من تعقد الحدود الجغرافية والثقافية والحضارية بين الأمم والشعوب. ومع ذلك، فلا شك أن بعض التعبيرات الأخرى قد مهدت لظهور مصطلح المجتمع المدني العالمي. خذ مثلًا تعبير "القرية العالمية" أو"القرية الإلكترونية العالمية". فالمقصود بهذا التعبير هو أن العالم لم يعد مسكنا لكيانات مجتمعية مفصولة ومعزولة عن بعضها البعض. إذ أفضت التطورات الثورية المذهلة في تكنولوجيا الاتصال إلى حقيقة أن المجتمعات قد صارت تتصل ببعضها البعض بدرجة مدهشة ومتعاظمة من الكثافة، بحيث حلت تكنولوجيا الاتصال الحديث بالوسائل الإلكترونية محل تكنولوجيا النقل والمواصلات الميكانيكية التي كانت تستغرق شهورًا ثم أسابيع ثم أيامًا أو ساعات لتنقل الناس أو أفكارهم من بقعة معينة إلى بقعة أخرى في الكرة الأرضية. لقد صار من الممكن أن ينتقل الناس وأفكارهم والمعلومات الصادرة منهم أو عنهم في نفس اللحظة التي يفكرون فيها أو يمارسون عملية الإنتاج الفكري إلى أي مكان وكل مكان في وجه البسيطة. وحتى أصغر القرى في أقل المجتمعات تطورًا لم تعد مناطق مهجورة أو مستحيلًا الوصول إليها بالنسبة لتكنولوجيا الاتصال.

وهناك معنى آخر لتعبير"القرية العالمية": هو أن العالم صار مترابطًا بصورة عضوية بحيث إن ما يحدث في أي بقعة فيه يؤثر في جميع بقاعه الأخرى مهما تباعدت المسافات أو تنافرت الثقافات أو اتسعت فجوة التطور والرفاهية والنمو. فكأن الشئون العالمية قد أخذت تقترب من المعنى الاجتماعي لتعبير القرية الدال على عمق الروابط وشدة الاعتماد المتبادل ومدى الحاجة إلى التضامن والتضامم بين سكان كل بلاد العالم لدفع الكوارث عنه وتقريب الآمال الكبيرة إليه. وكأن وحدة المصير العالمي قد صارت حقيقةٌ، بالقوة نفسها التي نتحدث بها عن الوحدة العضوية لقرية صغيرة. وفي مجالات كثيرة انتشر استخدام تعبير عالمي للدلالة على التحولات العميقة التي تحدثها الثورات التكنولوجية المتلاحقة والتطورات الاقتصادية والاجتماعية العميقة في البيئة العالمية. ففي مجال الأعمال، ثمة ادعاء بأن صعود الشركات متعددة الجنسية أو عابرة القومية يؤدي إلى نشأة نخبة أعمال عالمية أو ذات توجه عالمي. وبالنظر إلى انتشار السينما ومحطات التلفاز الكوكبية والصحافة الإلكترونية وسوق الكتاب والحركة الدائبة على مدار الساعة ودوران الأرض للمعارض الفنية وغيرها يدعي كثيرون الآن بأن ثمة نزعة لعولمة الثقافة. وفي مجال السياسة ثمة ظاهرة تعود بجذورها إلى ماض بعيد وهي تكوين حركات سياسية تعمل على مستوى عالمي. ويعود الفضل للماركسية في القول بأن على شعوب العالم الاتحاد معًا للتخلص من ضيم نظام رأسمالي يعمل على مستوى عالمي، ولم يعد حتى سور الصين العظيم يمنعه من الامتداد حتى نهاية العالم. وتكونت "أممية اشتراكية" أعقبتها أممية شيوعية، وربما كانت ثمة في الأصل مكونات أساسية لأممية ليبرالية حتى لو لم تتخذ شكلًا تنظيميا محددًا، والآن تعمل الحركات الإسلامية وكثير من الكنائس المسيحية على مستوى العالم كله، جنبًا إلى جنب مع حركات سياسية ومنظمات أعمال ومنظمات إنسانية عالمية. وبطبيعة الحال، فإن الدبلوماسية الدولية كانت تبحث عن أشكال أولية لحكومة عالمية. وهو ما انتهى إلى تكوين شكل كاريكاتوري لها ممثلًا في عصبة الأمم، ثم في الأمم المتحدة. ومع ذلك، فقد كانت ثمة تكوينات سياسية واجتماعية لا شك في عالميتها بمعنى شمولها لا فقط لممثلين سياسيين لحكومات بعينها، بل وأيضًا لرجال أعمال ونقابيين مثل مكتب العمل الدولي الذي صار منظمة العمل الدولية.

هذا كله له صلة بمفهوم "المجتمع المدني العالمي"، ولكنه يختلف عنه في نفس الوقت.

ولا بد أن نتفهم بعمق دلالة المعارضة القوية للتوسع في استخدام تعبيرات "عالمية" و"عولمة" لكي ندرك المغزى الحقيقي لتعبير المجتمع المدني العالمي.

ثورة الاتصال.. تباعد الفهم

لقد اقترب العالم من بعضه البعض بالفعل بتأثير الثورات المتتالية في تكنولوجيا المواصلات والاتصالات، واندمجت حتى أكثر الدول والمجتمعات تخلفًا في شبكة المبادلات الدولية وتوسعت التفاعلات في المجالات المختلفة بين أجزاء العالم. ولكن هذا كله يعني مجرد الاقتراب والتداخل وليس التقارب بين شعوب العالم. من حيث الشكل والآليات صار العالم بالفعل قرية. ولكن من حيث الفحوى والمضمون هناك عمليات مضاده لتكون حس الانتماء والتعاطف والفهم والتقدير المتبادل وبالتالي التضامن. وقد تعرفت الشعوب على بعضها البعض وصارت تدرك أنها متجاورةٌ بمعاني الجغرافيا أو متفاعلة بمعاني الاقتصاد ومترابطة بمعاني الاتصال والبيئة. ولكن ذلك كله لم ينتج بعد القبول المتبادل الضروري للتعايش في سلام، ولا الالتزام المشترك بأغراض موحدة وهو أمرٌ ضروري لتحرير قطاع كبير من الإنسانية من غوائل الجوع والفقر، ولا الألفة وحس الانتساب الحقيقي لكيان موحد هو الإنسانية وهو الأمر الضروري للشعور النبيل بالحرية. وعلى العكس من ذلك كله، لم يكن العالم مكانًا أكثر خطرًا وتهديدًا وعصفًا بالأمن مما كان عليه في القرن العشرين. ولم تكن فجوات التطور والفوارق في مستويات الرفاه والرخاء في أي فترة من فترات التاريخ العالمي بأوسع مما هي عليه الآن. كما أن المبادلات التجارية والتدفقات الاتصالية لا تتم بصورة متجانسة أو متساوية إطلاقًا. لقد تقاربت الدول والمجتمعات النامية والمتطورة أصلًا بدرجة كبيرة، ولكنها كمجموعة تباعدت أكثر عن مجموع شعوب ومناطق الأجزاء غير المتطورة من العالم. ولم تعد هذه الأخيرة تشارك في الاقتصاد والنمو العالمي ولا في حركة المواصلات وتدفق الاتصالات والفعاليات الثقافية والجمالية العالمية بدرجة مؤثرة مثلما كان عليه الحال في العصور الوسطى والقديمة أو حتى قبل انفجار الثورة التكنولوجية الراهنة في مجال المعلومات والاتصالات. وفوق ذلك، فإنه لا مجال لإنكار أن ثمة هياكل معقدةً للسيطرة تحكم مجرى المبادلات والتفاعلات العالمية، وأن مفهوم المشاركة المتساوية في تقرير الشئون العالمية لم يكن غائبًا بالقدر نفسه الذي صار إليه الحال ونحن نقترب من نهاية القرن العشرين. وفي السياق نفسه، فمما لا شك فيه أن تبلور ما يسمى بالقرية الإلكترونية العالمية لا يكاد يخفي كوارث هائلة نتجت عن أ نماط السيطرة التي تمارسها الدول الغنية والقوية مثل إغراق العالم بالسلاح وبالتالي حفز وتشجيع الحروب التدميرية، وتخريب البيئة العالمية وما يرتبط بذلك من اضطراب إيكولوجي وبيئي تعاني منه أساسا المجتمعات والشعوب الفقيرة بالرغم من أنها لم تكن هي السبب في تعاظم هذا الاضطراب بالأصل، هذا إلى جانب التدخل بأشكال سياسية واقتصادية، وأحيانًا عسكرية في الشئون الداخلية أو الإقليمية لشعوب الجزء الفقير وغير المتطور من العالم، وما يؤدي إليه ذلك في معظم الأحوال من تعقيدات وتشوهات في العلاقات الأفقية بين هذه الشعوب.

فقد انتهى النظام العالمي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية إلى إنتاج موقف غاية في التعقيد والصعوبة بالنسبة للسلام والتنمية والثقافة. فقبل انتهاء القرن العشرين نشهد انفجارًا مذهلًا في حجم الصراعات العرقية في كل مكان في العالم تقريبًا، وحالة من الركود الاقتصادي والتفسخ السياسي في كثير من مناطق العالم الثالث وبصفة محددة في إفريقيا والشرق الأوسط وجنوب وشمال آسيا. كما نشهد صعودًا سريعًا لثقافات عرقية ودينية متشددة تنشر الكراهة بين الشعوب وتدعو للعنف وتعمم اليأس والشكوك وتقتل الأمل والثقة في المستقبل وتعصف بحس الانتساب إلى جماعة إنسانية واحدة.

هذا كله في جانب منه صحيح وبالغ الخطورة. غير أن الاحتجاجات والانتقادات الحادة الموجهة لأفكار مثل القرية العالمية والعولمة المطردة للاقتصاد والثقافة... إلخ لا ينبغي أن تؤخذ على إطلاقها. فهي لا تنتقص من حقيقة أن هناك كتلة إنسانية تنتمي لمختلف الشعوب والمجتمعات تشعر بالفعل بالانتساب للإنسانية وتؤمن بالمصير المشترك وتعتقد أن حريتها مستحيلة دون تحرر كل الشعوب، وترى في السلام والتنمية قضيتين مترابطتين. وهذه الكتلة تلتزم في برامجها وتوجهاتها بمناهضة السياسات التي تؤدي إلى تخريب البيئة والسلام واستمرار الفقر والاضطهاد. وتنتمي عناصر ومكونات هذه الكتلة إلى المجتمعات المدنية والسياسية في بلاد كثيرة، ولكنها يمكن أن تؤلف معًا ما يسمى بالمجتمع المدني العالمي. ومن الناحية الفلسفية والفكرية، المجتمع المدني العالمي هو ذلك المجتمع من الناس الذين يفكرون بشكل عالمي ويؤمنون بوحدة الجنس الإنساني وترابط مصيره وينشدون الضغط على صانعي السياسة لإنتاج سياسات مواتية للسلام والتحرر الاجتماعي والتنمية الاقتصادية والثقافية المتوازنة لكل الشعوب مع احترام التعددية الثقافية والحضارية في نفس الوقت. ومن الناحية المؤسسية، لا ينتمي المجتمع المدني العالمي إلى جماعة مهنية أو طبقية أو سياسية متجانسة. وإنما يشمل فئات مهنية وطبقية وسياسية متباينة تؤهلها ظروفها المادية وقناعاتها الفكرية للتفكير بشكل عالمي وللقيام بدور في تحريك جدلية التحرر والتطور المتوازن والدفاع عن السلام وعن حقوق الإنسان الأساسية. وفي القلب من هذا المجتمع العالمي نجد منظمات وطنية وإقليمية وعالميةً تعمل في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان، وعن حقوق المرأة والمعوقين وتقديم مساعدات الإغاثة الإنسانية والمعونات التنموية والنضال ضد تخريب البيئة العالمية والتسلح الذري والتجارب النووية ومناهضة جرائم إبادة الأجناس وجرائم الحرب والدفع نحو السلام بكل الوسائل المتاحة، والعمل على توسيع نطاق المبادلات والتدفقات العالمية للإبداع وخاصة في مجال الفنون والآداب... الخ.

ويمكننا أن نعد هذه الجماعات والمنظمات القلب المحرك للمجتمع المدني العالمي. غير أن من الممكن أيضًا أن نضم إلى هذا المجتمع أقسامًا معينةً من رجال العلم والتكنولوجيا والثقافة والتعليم. ورجال الأعمال الذين يفكرون بشكل عالمي ليس فقط لتحقيق مصالح مادية مباشرة وإنما أيضًا لتحقيق مصالح معنوية خاصة بهم وبالجماعة الإنسانية ككل، مادام هذا التفكير يلتقي من زاوية معينة مع معاني السلام والتنمية على صعيد عالمي. كما يمكن أن نضم إلى المجتمع المدني العالمي طائفةً كبيرةً من المشتغلين بالفكر والصحافة والاتصال، ماداموا يتمتعون بهذا المنظور العالمي أيضًا.

بل ويمكن أن نضم إلى تعريف المجتمع المدني العالمي أقسامًا من المشتغلين بالسياسة العالمية والمعنيين بشئون السلام، والتنمية، والإصلاح الاجتماعي وإنعاش البيئة والتقدم الثقافي والعلمي العالمي انطلاقًا من منظور يتجاوز مصالح ورؤى حكوماتهم ومصالحهم الوطنية الضيقة. وقد يؤمن هؤلاء الناس بهذا المنظور على نحو عقيدي مثلما تفعل المنظمات الدولية غير الحكومية المعنية بشئون السلام والبيئة وحقوق الإنسان. ولكنها قد تمارس هذا الإيمان على نحو عملي أيضًا، إذا ما كانت تعمل في إطار دولي حكومي أو شبه حكومي أو مختلط مثل منظمات العمل الدولية والصحة العالمية... الخ.

موجود؟ مؤثر؟

قضايا كثيرة يثيرها مصطلح "المجتمع المدني العالمي". ونكتفي هنا بإثارة قضيتين لا بد أنهما قد يقلقان القارئ الذكي. القضية الأولى هي ما إذا كنا نتحدث بمعنى جاد ومحدد عن "مجتمع مدني عالمي" أم أننا نتعامل مع هذا المصطلح بأسلوب الاستعارة أو الكناية لإضفاء جماليات معينة على كيان يحتمل أن يقوم في يوم من الأيام ولكنه غير موجود بالفعل. أما القضية الثانية فترتبط بمغزى هذا الكيان وهل له نفوذ أو أدوار فعالة في السياسة والثقافة العالمية ؟

جوهر القضية الأولى يتمثل في الإجابة العلمية عن السؤال التالي: هل يمكن أن ينفصل بعض الناس عن أدوارهم القومية ومصالحهم الوطنية وإطارهم الثقافي والحضاري الخاص حتى يصير من الممكن احتضان قيم عالمية والعمل على هدي منها؟. يختلف الناس في إجاباتهم عن هذا السؤال بقدر ما يختلفون في الفلسفات والتوجهات السياسية والأخلاقية. غير أننا إذا شئنا أن نقترب بقدر الإمكان من روح العلم يمكن أن نقول إن المطلوب لكي يصير الناس أعضاء نشطين في مجتمع مدني عالمي ليس الانفصال عن قوميتهم الأم أو إنكار انتسابهم لوطنيتهم، وإنما المطلوب هو أن يطوروا رؤيةً لا ترى تناقضًا مبدئيا بين انتسابهم المخلص لأمة معنية من ناحية وانتسابهم للإنسانية جمعاء من ناحية أخرى. أي المطلوب هو أن يتحرروا من معنى التعصب والتمركز حول الذات القومية والعصبية الثقافية أو اتجاه سياسي أو إطار حضاري بعينه وأن يروا وجوه الالتقاء والتناغم بين أوطانهم والعالم كله، وأن ينظروا إلى تحررهم أو خلاصهم الروحي باعتباره عملية عالمية وليس عملية فردية أو قومية ضيقة. مثل هؤلاء الناس موجودون بالفعل في كل مكان. وإن كان من المرجح أن يوجدوا بقوة أكبر وبأعداد أوفر حيثما يتحقق مستوى أعلى من التقدم الاجتماعي، وربما أيضًا الرفاه المادي والتسامح الثقافي. ومما لا شك فيه أنه قد تثور مشكلات محددة في عقول وأفئدة هؤلاء الناس إذا ما نشأ تناقض حاد بين حكوماتهم أو الرأي العام في بلادهم من ناحية والأفكار والسياسات التي يدافعون عنها في منطقة أو بلد معين من ناحية أخرى. وربما تكون تلك المواقف هي المختبر الحقيقي لإخلاص هؤلاء الناس لقضية الإنسانية ككل، أو لأفكارهم الخاصة بانتماءاتهم الإنسانية والمبدئية. وحتى إذا أخذنا بهذا المنظور، فسوف نجد مواقف كثيرة تثبت نشوء هذا المجتمع العالمي. فمثلًا هناك كثيرون في الغرب ظلوا يناضلون لعقود -وربما قرون- ضد الاستعمار الغربي. وبعضهم ذهب إلى التضحية بمصالحه بل وحياته في سياق هذا النضال ومع ذلك، فإن ضمان فك الصلة بين المصالح الوطنية والرؤى السياسية والحضارية لجماعة ما من الناس وبين مواقفهم من القضايا المدنية والسياسية العالمية هو أمرٌ يتوقف على تكون مؤسساتٌ عالميةٌ حقا. فعلى سبيل المثال، قد تستمر الشكوك حول ما إذا كانت منظمة ما للدفاع عن حقوق الإنسان مثل منظ مة العفو الدولية هي تعبيرًا، عن مصالح بريطانية أو غربية مادامت قياداتها العليا وموظفوها الكبار من البريطانيين أو الغربيين فقط. وعندما يعمل الغربيون في المراكز العليا والوسيطة لمنظمة مثل العفو الدولية باعتبارهم مجرد قطاع أو عناصر مندمجة في بيئة متعددة الجنسيات حقا، وعندما يشغل مراكزها العليا أو بعضها عناصر من جنسيات غير بريطانية أو غير غربية، وعندما تكون قواعد الحركة والممارسة عالمية بالفعل، نستطيع أن نتحدث بكل اطمئنان عن كون هذه المنظمة عالمية بمعنى الكلمة، وهو ما يحدث بالفعل في الواقع العملي بالتدريج في كثرة من منظمات حقوق الإنسان والمرأة والبيئة... الخ. ولكن ما هو النفوذ والتأثير العملي والأدوار الحقيقية التي يقوم بها المجتمع المدني العالمي؟ الأمر يتوقف إلى حد بعيد على حجم هذا المجتمع وحيويته وآفاق تطوره الفكري والتنظيمي.. الخ. وبطبيعة الحال، مازال مثل هذا المجتمع صغير الحجم بالمقارنة بحجم سكان العالم. كما أنه لا يزال ضعيف التكوين من نواح عديدة. غير أن حقيقة الأمر هو أن هناك عملية نمو مطردة لحجم ونفوذ هذا المجتمع المدني العالمي البازغ. إذ تتعدد أدواره وقنوات نفوذه وتأثيره. وبهدف الإيجاز فقط نستطيع أن نحصر دورين على درجة عالية من الأهمية لمصير الإنسانية. الدور الأول هو نشر ثقافة مدنية عالمية حديثة وعادلة ومتوازنة. أما الأمر الآخر فهو الضغط السياسي لإنتاج سياسات ومواقف عالمية مواتية لأهداف السلام والقضاء على الفقر ودفع كوارث الطبيعة والبشر وإنعاش البيئة والقضاء على الجريمة بكل أنواعها.. أما كيفية أداء هذه الأدوار فهناك قنواتٌ وآليات عمل عديدة أبدعتها المنظمات العالمية والإقليمية غير الحكومية بصفة خاصة. وما يهمنا هنا هو أن نلقي مزيدًا من الضوء على تعبير المجتمع المدني العالمي. فإذا كان المجتمع المدني على المستوى الوطني يعمل من خلال هياكل ومنظمات غير حكومية في مجالات التنمية والتقدم الثقافي والسياسي بحيث يؤثر في السياسات العامة للحكومات، فإن المجتمع المدني على المستوى العالمي يعمل من خلال هياكل مماثلة ولكن على مستوى عالمي بحيث يؤثر في السياسات العامة العالمية للمنظمات الدولية الرسمية. فعلى سبيل المثال، اكتسبت مؤتمرات الأمم المتحدة طبيعةً خاصةً بسبب أنها تعقد على مستويين متوازيين ومتداخلين: مستوى حكومي ومستوى غير حكومي. وتمثل منتديات المنظمات غير الحكومية في هذه المؤتمرات ولو بمعنى فضفاض نسبيا مفهوم المجتمع المدني العالمي. على حين أن المستوى الحكومي يمثل المجتمع السياسي العالمي. والهدف من إنشاء وصيانة وتدعيم المستوى غير الحكومي هو إجبار المجتمع السياسي الدولي على الإصغاء لصوت المجتمع المدني العالمي. فهل يضطر المجتمع السياسي الدولي إلى الإصغاء بالفعل لصوت المجتمع المدني العالمي والاستجابة لمطالبه؟ حتى الآن لم يحدث ذلك بصورة مؤثرة. ولكن من المحتم أن يحدث ذلك في المستقبل غير البعيد.

 

محمد السيد سعيد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات