جيش المهمات القذرة شوقي رافع

جيش المهمات القذرة

"جيش المهمات القذرة" عنوان يلخص المواجهة بين المؤسسة العسكرية والمؤسسات الديمقراطية في الغرب، وفي الولايات المتحدة تحديدًا. ومع أن الحرب الباردة انتهت، فإن شعار"حرب إلى الأبد" نجح في أن يحفظ للمؤسسة العسكرية دورها، وأن يجعل لها شبحًا دائمًا حتى داخل البيت الأبيض.

"جيش المهمات القذرة " هو العنوان الذي طرحه الضابط في جهاز استخبارات وزارة الدفاع الأمريكية رالف بيترز لدراسة نشرتها فصلية "كلية الجيش الحربية" أخيرًا واقترح فيها أن يتولى الجيش الأمريكي "مواجهة أزمات لا يمكن تجنبها" وهذه الأزمات تبدأ بالمخدرات مرورًا بمنع التسلل والهجرة غير الشرعية، وصولًا إلى مقاومة الإرهاب، أي ألا يقتصر عمل الجيش الأمريكي على الخارج بل ينتقل إلى الداخل.

"حرب إلى الأبد" هو عنوانٌ آخر طرحه الكاتب المحافظ " جورج ويل وأكد فيه أن الحروب هي القاعدة التي تحكم العلاقات الدولية، أما السلام فهو استثناءٌ. واستشهد بدراسة تؤكد أنه من أصل 3421 سنة من تاريخ البشرية المعروف فإن 268 سنة فقط سادها السلام أما الباقية فقد كانت مسرحًا للحروب. واستنتج ويل أن السلام عاجز عن أن يحمي نفسه، وبالتالي لا بد من وجود جيش يحميه. وعنوان ثالث يطرحه مساعد وزير الدفاع السابق في عهد الرئيس رونالد ريجان الباحث لورنس كورب وهو"سلامٌ من دون ربح" يؤكد فيه أن أمريكا "القوة العظمى العسكرية والوحيدة في العالم، تنفق برغم نهاية الحرب الباردة، خمسة أضعاف ما ينفقه أقرب منافسيها على الصناعة العسكرية وضعف ما ينفقه العالم كله على هذه الصناعة، بينما هي تقوم في الوقت نفسه باقتطاع مبالغ هائلة من المساعدات المخصصة للرعاية الصحية والاجتماعية، وأبرز الأسباب لهذا الإنفاق هو عجز إدارة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون عن مواجهة (المؤسسة العسكرية)".

"العسكر يحكمون و... الشيزوفرانيا هي السياسة السائدة هنا" هذا ما يستنتجه الكاتب لاريك نلسون وهو استنتاجٌ صحيحٌ، ولا تنقصه التفاصيل في الحياة السياسية اليومية في أمريكا.. بل ربما في العالم كله.

في عام 1972م اقترح المرشح الديمقراطي للرئاسة الأمريكية " جورج ماكجفرن اقتطاع 30 في المائة من ميزانية وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون" لتمويل برامج الرعاية الصحية الاجتماعية، ورد وزير الدفاع حينئذ ميلفين ليرد بالقول: "إن هذا الاقتراح ممكن في حالة واحدة هي أن تنتهي الحرب الباردة مع المعسكر السوفييتي" وكانت ميزانية وزارة الدفاع في تلك السنة تبلغ 166 مليار دولار.

وبعد 23 عامًا، خرج الرئيس بيل كلينتون وهو واحدٌ من قادة حملة ماكجفرن، ليوقع على ميزانية دفاعية تصل إلى 243 مليار دولار، أي بزيادة 77 مليار دولار، برغم أن الشرط الذي اقترحه الوزير" ليرد " لخفض الميزانية - وهو انتهاء الحرب الباردة - قد تحقق، وباتت الولايات المتحدة هي القوة العسكرية العظمى الوحيدة في العالم.

لماذا زيادة النفقات العسكرية بدلًا من تقليصها، ولماذا لا يحقق السلام الأرباح المنتظرة ؟

لورنس كورب عضو السياسة الخارجية في "معهد بروكينغز" يطرح عدة أسباب، من بينها:

أن الماضي العسكري للرئيس كلينتون -هربه إلى بريطانيا لتجنب حرب فيتنام- لا يساعده على مواجهة الجيش، الذي يؤكد قادة البنتاجون أنه لا بد أن يكون جاهزًا لخوض حربين في وقت واحد -كوريا والخليج على سبيل المثال-.

"الجيش الأجوف" هو شعارٌ رفعه الجمهوريون في مواجهة الرئيس جيمي كارتر، ونجحوا في إسقاطه، مع أن نقطة الضعف الرئيسية في الجيش أيام كارتر هي أنه كان يعتمد على عناصر شبه أمية وغير متفوقة، بينما هو اليوم لا يجند في صفوفه إلا من أنهى دروسه الثانوية بتفوق، إلا أن الرئيس كلينتون ما زال يخشى هذا الشعار , وهو ما دفعه إلى زيادة النفقات العسكرية بنسبة 10 في المائة على ما كانت عليه أيام إدارة الرئيس رونالد ريجان الذي قرر أن مواجهة إمبراطورية الشر السوفييتية تحتل الأولوية في سلم النفقات.

إن رجال السياسة في الحزبين الرئيسيين الجمهوري والديمقراطي ينظرون إلى النفقات العسكرية باعتبار أنها "برامج توظيف"، وبالتالي فإن النقاش داخل الكونجرس لم يعد يدور بين ما يسمى "صقور" و"حمائم" بل بين ولايات تستفيد من الصناعات العسكرية بتوظيف أبنائها وولايات أخرى لا تحقق مثل هذه الفائدة وقد كان الرئيس كلينتون في طليعة من طالب في عام 1992م - عندما كان مرشحًا للرئاسة - بإنفاق مبلغ 13 مليار دولار لإنتاج الغواصات النووية من نوع "سي وولف - ذئب البحر"، بينما كان الرئيس جورج بوش يحاول إلغاءها. وفي السياق نفسه فإن عضوة مجلس الشيوخ عن ولاية كاليفورنيا " ديانًا فينشتين لم تجد غضاضةً في أن تطلب من الكونجرس تخصيص مبلغٌ هائلٌ لإنتاج 20 طائرة من نوع (B.2) - الشبح- برغم أن البنتاجون قال إنه لا يحتاج إلى هذه الطائرات.

صدام... مجددًا

ويضيف كورب: إن الجيش نجح في تضخيم تهديدات الأعداء، بينما قلص إلى حد كبير من المساهمات التي يمكن أن يقدمها الحلفاء، واستنادًا إلى رؤساء هيئة الأركان فإن البنتاجون يحتاج إلى إرسال 400 ألف جندي إلى كوريا الجنوبية في حال وقوع أزمة، لأن كل جندي كوري يعادل 70 في المائة فقط من إمكانات الجندي الأمريكي، بينما الجندي الكوري الشمالي يساوي تمامًا الجندي الأمريكي، وبافتراض أن الجندي الشمالي لا يعادل أكثر من نصف جندي أمريكي فإن عدد الجنود المطلوبين سوف يتقلص إلى 200 ألف جندي.. وبالمقابل، فإن حسابات البنتاجون تقول إنه في حال مواجهة جديدة مع جيش صدام حسين "الضعيف" فإنه يحتاج إلى 400 ألف جندي لإخراج هذا الجيش من الكويت، بينما لو افترض أننا سوف نتصرف قبل أن يدخل جيش صدام الكويت، كما حدث في الشتاء الماضي ولو حسب أن الحلفاء سوف يقدمون خمس فرق عسكرية ومثلها من سلاح الجو، عندئذ فإنه يصبح من السهولة أن نكتفي بنصف العدد المفترض إرساله من الجنود.

وينتهي لورنس كورب إلى تأكيد أن النفقات العسكرية قد انخفضت لدى دول حلف الأطلسي، بحيث وصل مجموعها إلى 145 مليون دولار، بينما ما زالت أمريكا تصرف ضعف هذا المبلغ وتعيش حالة من السلام.. غير المربح في مواجهة رأي عام يؤكد 56 في المائة منه أنه ضد زيادة النفقات العسكرية.

الحروب هي القاعدة

الكاتب والمعلق الأمريكي "جورج ويل" يقف في صف الجنرالات ويخوض حربًا كاسحةً ضد الليبرالية التي ترى "أن السلام هو القاعدة" والإنسان مسالم بطبعه وأن الحروب هي استثناء ويمكن توقعها وبالتالي إلغاء أسبابها، وهي تنتج عن ظهور قادة سيئين يبنون مؤسسات سيئةً، وبالتالي فإن انتشار الديمقراطية واحترام حقوق الأقليات وتحييد قوى الاقتصاد مع دعم ثورة الاتصالات كلها كفيل بنزع فتيل هذه الحروب...

ويقول ويل: "ولكن كما يلاحظ المؤرخ دونالد كاغان فإنه خلال القرنين الماضيين ما كان أكثر شيوعًا من توقعات الحروب هي الحروب ذاتها" وفي كتابه عن جذور الحروب، يلاحظ كاغان (إحصائيا) "أن الحرب هي القاعدة وليس السلام، وفترات السلام كانت دائمًا نادرةٌ في عالم ينقسم إلى دول متعددة".

ويقول ويل: في عام 1968م أحصى كل من ويل، وارييل ديورانت أن 268 سنة فقط - من أصل 3421 سنة من تاريخ البشرية المعروف - كانت خالية من الحروب، فمنذ 1968م لم يمر عام واحد دون حروب... إن "تأبيد الحرب" يجعل من واجب القيادة السياسية أن تتصرف على أساس أن السلام لا يحفظ نفسه، وعلى هذه القيادة أن تفهم أن الحروب أحيانًا تكون مفاجئةٌ وغير متوقعة... من بيرل هاربور إلى غزو العراق للكويت عام 1990م. وبين هاتين المفاجأتين، وقعت أزمات كثيرة : " حصار برلين، غزو كوريا الجنوبية، التدخل الصيني، غزو السوفييت لهنغاريا عام 56، أزمة قناة السويس، أزمة الصواريخ الكوبية عام 62، حرب 67 بين إسرائيل والعرب، غزو تشيكوسلوفاكيا ;عام 68، وحرب عام 73، حرب 1980 م بين العراق وإيران...".

ويعلق ويل ساخرًا : "لقد كان قرنًا من المفاجآت المرة للمتفائلين، ومن بينهم مؤلف الطبعة 11 من دائرة المعارف البريطانية الذي كتب 1910م في تعريف كلمة "تعذيب": إن الموضوع كله لم يعد يعني أكثر من قيمة تاريخية فيما يتعلق بأوربا، إنه من الماضي..".

وينتهي ويل إلى القول: "إن المؤرخ العسكري البريطاني مايكل هوارد يكشف أن للقوة العسكرية ثلاثة أبعاد: الردع، والإرغام، والضمان، والأخير هو الأهم في حفظ الاستقرار لأنه يحدد المناخ الذي تقوم فيه العلاقات الدولية.. إن الضمان يزودنا بشعور عام بالأمن، وأفضل نموذج له هو الدور الذي لعبته البحرية البريطانية في القرن التاسع عشر"..

"إن المال للعسكر هو البديل عن.. الموت".

جيش.. لمواجهة الداخل

ضابط الاستخبارات في "البنتاجون" رالف بيترز يطرح علنًا ما يتم تداوله سرا ويدعو الجيش إلى توسيع قواعد نشاطاته."فالثورة في المسائل العسكرية التي أكدتها الحرب ضد العراق يمكن أن تتحول إلى مصدر إلهام لإنتاج أغلى "فيل أبيض" على مر التاريخ.

إننا نجهز الجيش من أجل الحرب التي سنخوضها ذات يوم وليس لمواجهة الأزمات التي لا يمكن تجنبها". وهذه الأزمات كما يراها تنبع من ظواهر تشمل العالم كله، وأبرزها: ضعف الدولة المركزية " فمن كولومبيا وحتى روسيا، فإن البنى التقليدية للحكومات تتعايش بعصبية وتوتر، مع مناطق تحوي الثروات الطبيعية والتنظيمات البشرية المختلفة، ومن شبكات الجريمة ذات التقنية العالية إلى عصابات وقبائل لوردات الحروب، وأيضًا من الفوضى الرأسمالية في روسيا عبر الهجرة الاقتصادية إلى انبعاث المدنية - الدولة - مجددًا في كالي مرورًا بسراييفو وحتى كابول".

ويرى بيترز: "أن المجرمين الأجانب. ومنظمات الإرهاب ومهربي المخدرات تركوا في بلادنا أثارا أكثر وحشية بما لا يقاس بالذي فعله صدام حسين، وبالتالي فإن أهداف الجيش لا بد أن تكون قتلهم وليس إحالتهم إلى محكمة قانونية، حتى يقرر من ينجو منهم إخلاء ساحة المعركة والانسحاب".

ويعرف بيترز أن مهمةً من هذا النوع ليست شعبيةٌ ولم تنل الإجماع حتى الآن، باستثناء استخدام الجيش على الحدود لمنع التسلل والهجرة غير الشرعية، وكذلك في بعض المناطق المدنية المقفلة في وجه قوى الأمن التقليدية، ولكن مع ذلك يؤكد: "إن مبرر وجود الجيش اليوم هو أن يقوم بالأعمال القذرة للأمة".

يقول: "أي بؤس أن يفرض على ضابط أن يواجه الحاجة لتفضيل المهمات القذرة التي لا يمكن أن تنجح تمامًا؟ وهي في الوقت نفسه سوف تمنح الذخيرة الدائمة لهؤلاء الذين سوف يتابعون هجومهم على المؤسسة الوحيدة التي منحت القيمة لحياتي. كنت أتمنى أن تكون الأمور بشكل مغاير".

وربما من حق الضابط الأمريكي بجهاز الاستخبارات أن يشعر بالبؤس، لأن توجيه الجيش للقيام بمهمات في الداخل كانت دائمًا إحدى أبرز السمات في دول العالم الثالث!.

"الشبح"... وظيفة

المعلق لارك إيريك نلسون، يكاد يخرج من جلده، وهو يكتب في صحيفة" واشنطن بوست" الأمريكية: "الشيزوفرانيا -أي انفصام الشخصية- هي السائدة هنا في أمريكا، فالكونجرس يوافق مثلًا على إنتاج 20 طائرة من نوع (B.2-) الشبح - ومهمة هذه الطائرة الشبح أن تتجول في أثناء الحرب النووية حول الاتحاد السوفييتي، وأن تجد أهدافًا تقصفها... ولكن أين هو الاتحاد السوفييتي اليوم..؟"

وبعد أن يستشهد نلسون برئيس لجنة الميزانية في مجلس النواب"جون كاسيتش "- وهو جمهوري - الذي يقول: "لا أتصور أن هذه المهمة مازالت قائمة"، يكشف أن كلفة هذه الطائرات تصل إلى 8 مليارات دولار، وأن وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون" لا تريد هذه الطائرات، ولكن الكونجرس الأمريكي "هو الذي يريدها" !.

كيف ؟

شركة "نورثورب - غرومان" - وهي صانعة الطائرة - وزعت العقود، وبعناية فائقة، على جميع الولايات، ولم تعد الشبح طائرة بل برنامج توظيف، إن 38 مليارًا سوف توظف أكثر العمال الأمريكيين مهارة وخبرة. فهل يجرؤ عضوٌ في الكونجرس على أن يمنع هذه الوظائف عن أبناء ولايته وأن يتصدى لهذا الشبح الذي يتسلل فوق حواجز العقل والمنطق ؟.

ويضيف نلسون : "إن المؤيدين يقولون إن الشبح سوف يحفظ لأمريكا دورها باعتبارها "شرطي العالم" وأقوى دولةً تقنية على وجه الأرض. ولكن النائب يارني فرانك يعلق بمرارة : "ابنوا المزيد من الغواصات النووية وعندئذ سوف تقتطعون الكلفة من برامج الرعاية الاجتماعية، وابنوا المزيد من الطائرات وعندئذ سوف تسحبون النفقات من المساعدات الحكومية للطلاب... أي مؤسسة عسكرية يمكن أن يبنيها شعبٌ يفتقد التعليم والرعاية الاجتماعية ؟".

وليست برامج التوظيف وحدها هي ما يحول معظم أعضاء الكونجرس إلى قطيع في مزرعة البنتاجون، إذ إن وزارة الدفاع - وبالاتفاق مع أعضاء في مجلس النواب والشيوخ - تضيف إلى ميزانيتها برامج لا علاقةً لها على الإطلاق بالدفاع، من نوع تخصيص مبلغ 15 مليون دولار لتطوير سيارة كهربائية و3.5 مليون دولار لمخيمات الشباب المدنيين و1.5 مليون دولار لنقل الخيول البرية من المناطق العسكرية. ويحصي الشيخ الجمهوري مبلغ 6 مليارات دولار في ميزانية البنتاجون لا علاقة لها بالإنفاق العسكري، ويضيف قائلًا : "صار تسريب هذه البرامج في ميزانية الدفاع فنا قائمًا بذاته".

ويلخص النائب الديمقراطي بات شرودر الموقف كالتالي: "إن شركات تصنيع السلاح تقوم بتقديم مبالغ هائلة لرجال السياسة وبالمقابل فإن هؤلاء يردون لها الجميل، والنتيجة أن الآلة العسكرية تحكم المجتمع المدني".

وليس مصادفة أن الرئيس الأمريكي الأسبق الجنرال دوايت ايزنهاور كان أول من حذر في مطلع الخمسينيات من أن الآلة العسكرية هي أبرز ما يهدد الديمقراطية الأمريكية... وقد صحت توقعاته إلى حد مطالبة هذا الجيش بأن يتولى المهمات القذرة، وفي الداخل أسوة بما يجري في معظم دول العالم الثالث و... جمهوريات الموز. وحسنًا فعل الجنرال كولن باول عندما عزف عن ترشيح نفسه للرئاسة الأمريكية برغم شعبيته، فالمؤسسة العسكرية مع وجود الشبح لا تحتاج إلى جنرال آخر في البيت الأبيض.

 

شوقي رافع

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات