عن التعصب والعصبية

 عن التعصب والعصبية
        

متى يمكن أن نتقبل ثقافة الاختلاف, ومتى ننتهي من ثقافة الرعب التي تسيطر علينا إزاء كل فكر مخالف حتى أننا نفكر في عقابهم وعزلهم, وأحيانًا نفيهم عن وعينا?.

          ابتداء, فإن المعنى اللغوي للتعصب يلازم معنى الإجبار والإكراه والقسر, ويتضمن معنى الإجماع الذي لا يقبل الاختلاف والتعدد, وينفر من التغير والتنوع, وذلك في قولهم: عصب الشيء بمعنى شدّه, وعصب الناقة بمعنى شدّ فخذيها, وعصب القوم به. اجتمعوا وأحاطوا به والتفوا حوله, وعصب الريق بالفم, بمعنى يبس عليه, وعصب الرجل بيته أقام فيه لا يبرحه, وتعصب هو الفعل الذي لا يخلو من دلالة التسليم الذي لا يخامره شك, والتصديق الذي لا يغادره اليقين والإيمان الذي لا يتزحزح بالأصل, والاعتقاد الذي يستدعي عقاب المخالف الذي يخرج على (عصب) الجماعة أو (المُعصب) فيها. وهو ما (تُعَصّبُ) به أمور الناس التي تدار به, وترد إليه, وتلازمه ملازمة الطاعة المطلقة.

          والاختلاف عن وعي التعصب كالخلاف معه, معرفيًا في كل مجالاته, هو النقص, والخلل, والخروج على الأصل الصحيح, والانحراف عن الحق, وإثم المعصية, والخيانة للمبدأ الأسلم, ولا نهاية لصفات الإدانة, التي يسقطها الوعي المتعصب على كل وعي يختلف عنه, وذلك بوصفه الوعي الأعلى الذي لايمكن أن يتقبل الاختلاف الذي هو انتقاص لقدره من الأدنى الذي ليس أمامه سوى السمع والطاعة. وصفات الإدانة نفسها هي الدرجة الأولى من متوالية القمع, التي تتولى تأديب المخالفين وردّهم إلى حيرة التصديق والإذعان. وتتصاعد درجات القمع في هذه المتوالية, ابتداء من ممارسة العنف اللغوي الذي يوقع الرعب في أي وعي مغاير أو مخالف أو مختلف, وانتهاء بممارسة العنف المادي الذي يجاوز تعذيب المخالفين أو سجنهم, إلى القضاء عليهم بالاغتيال أو القتل الذي يغدو عظة وعبرة للآخرين الواقعين دائمًا تحت السيف المشرع من سوء الظن أو الاتهام.

          و(العُصبة) من هذا المنظور, هي الجماعة التي تتعصب بما يجمعها, أو تتعصب له, فتقمع ما خالفها أو اختلف عنها, والمسافة جد قصيرة دلاليًا بين التعصب و(العصبية), التي تعني الرجوع إلى الأصل العرقي للقبيلة, وتصوره بوصفه الأصل الأنقى. وفي الوقت نفسه عدم المهادنة في التزام العقد الاجتماعي الذي يصل بين أفراد القبيلة من ناحية, ويمايز بينهم وبين غيرهم من ناحية ثانية, كما يمايز بين بعضهم وبعض, في تراتب صارم من ناحية أخيرة. وميراث العصبية الجاهلية - قبل الإسلام - هو أصل التعصب في تكرار جوانبه, التي وصلت ما بين الأبعاد الاعتقادية والاجتماعية والثقافية, والسياسية, فيما بعد. وقد ظل الإيمان بوحدة القبيلة وتماسكها شيئًا مقدسًا من هذا المنظور, فهو الأساس الذي تقوم عليه العصبية والمقصود بها (النعرة على ذوي القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة). والنعرة وعي حدي لا يفارق التراتب البطريركي للقبيلة, ولاينفصل عن تضامن أفراد القبيلة جميعًا فيما يجنيه أحدهم, فما ينطبق على الواحد ينطبق على الكل, والعكس صحيح بالقدر نفسه, أو- كما يقول المثل العربي القديم - (في الحريرة تشترك العشيرة).

العصبية القبلية

          وقد أوضح المرحوم يوسف خليف معنى العصبية القبلية في كتابه (الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي). وتوقف طويلا عند إيمان أفراد القبيلة بوحدتها وتلاحمها وتضامنها في كل شيء ابتداء من النجدة العملية السريعة لأي فرد من أفراد القبيلة, سواء أكان جانيًا أو مجنيًا عليه, فالأصل المقترن بالعصبية: (انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا), ويعني ذلك أن جناية الفرد جناية المجموع, يعصبونها برأس سيد العشيرة, ولهم عليه أن يتحمل مع القبيلة تبعاتها, وله عليهم أن يطيعوه فيما يأمرهم به. ولذلك قال قريط بن أنيف في حماسة أبي تمام.

لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا


          وقال غيره من شعراء الحماسة نفسها:

إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم لأي حرب أم بأي مكان


          ولا ينفصل عن ذلك المعنى الذي يؤكده البيت الشهير لدريد بن الصمة:

وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد


          وهو بيت واضح الدلالة في ردّ إرادة الفرد إلى إرادة الجماعة, وإيقاع الاتحاد بينهما بما يجعل من الاثنين واحدًا في الرأي والفعل والتوجه الذي اختصره عمرو بن كلثوم في معلقته, التي يمكن أن نرى فيها نموذجًا شعريًا فاقعًا للعصبية الجاهلية, خصوصًا حين يقول:

ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
ظالمين أبدًا وما ظلمنا ولكنا سنبدأ ظالمينا
ملأنا البر حتى ضاق عنا وماء البحر نملؤه سفينا
إذا بلغ الفطام لنا صبيّ تخر له الجبابر ساجدينا


          ومعلقة عمرو بن كلثوم تجسيد خالص للعصبية الجاهلية بكل ما تنطوي عليه من تعصب, ففيها الوعي الذي ينغلق على نفسه, فلا يرى غيره, أو لا يرى لآخر قيمة مساوية أو مناظرة, وهي تنطوي على معنى التراتب الذي تتنزل به قبيلة الشاعر المنزلة الأعلى, بينما يهبط غيرها من القبائل إلى المراتب الدنيا رتبة ومكانة. ولا يخلو هذا المعنى من الإطلاق المقترن بتكرار أفعل التفضيل, ظاهرًا أو مضمرًا, ولا تفارق من الغلو والعنجهية المليئة بالمباهاة المستفزة. ولا غرابة - والأمر كذلك - أن يضيق كثيرون بولع قبيلة تغلب بمعلقة عمرو بن كلثوم والتعصب لذكرها وروايتها والاستشهاد بها والإلحاح عليها. ولذلك قال شاعر من قبيلة بكر بن وائل فيما ورد في (الأغاني):

ألهى بني تغلب عن كل مكرمة قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
يفاخرون بها مذ كان أولهم يا للرجالِ لفخرٍ غير مشئومِ


          وكان إيمان القبيلة المطلق بوحدتها وتضامن أبنائها هو الوجه الآخر من إيمانها بجنسها, ومن ثم (رابطة الدم) التي تصل بين أفرادها, وتجعل من كل واحد منهم أخا لغيره, وقريبًا له بمعنى أو غيره, وقد وصف يوسف خليف ذلك بقوله إن كل الأفراد الذين ينتمون إلى قبيلة واحدة كانوا يعدّون أنفسهم من دم واحد, وأنهم جنس واحد, متشابه العناصر والمقومات, لا يختلف أفراده إلا بمقدار ما يختلف أبناء الأسرة الواحدة, والصفة الملازمة لوحدة الدم هي (اللُّحمة) التي ليست بعيدة في معناها عن اعتقاد أبناء القبيلة بأنهم من لحم واحد ودم واحد. ولعل فيما عبّر به الجاهليون عن بعض أشكال جماعاتهم بالبطن والفخذ - فيما يقول يوسف خليف - ما يصوّر ذلك الإحساس الذي كان يحسّه الجاهلي بتلك الصفة الجسدية التي تربطه بجماعته من ناحية, وترسخ فيه الإيمان بأن هذه الجماعة أفضل من غيرها على الإطلاق من ناحية موازية. ولذلك قال قائلهم:

إني لمن قوم بنى الله مجدهم على كل بادٍ في الأنامِ وحاضرِ


          وقال غيره:

إنا بني نهشل لا ندعى لأب عنه ولاهو بالأبناء يشرينا


          وقال شاعر ثالث بالانتساب نفسه:

ونحن بنو ماء السماء فلا نرى لأنفسنا من دون مملكة قصرا


          ويعني ذلك أن كل قبيلة ترث العلا (عن كابر بعد كابر), وأنها تفضل غيرها بهذا الميراث, وتنزل غيرها منزلة أدنى منها, كما تنزل كل فرد فيها منزلة أعلى من منزلة أي فرد آخر في أي قبيلة مغايرة.

هل هي حقاً مصدر العار?

          ولا تفارق عصبية التراتب عصبية العرق أو الجنس من هذا المنظور, فهي عصبية تجعل المرأة أدنى من الرجل في كل الأحوال, ولا تنظر إليها إلا بوصفها مصدرًا محتملاً للعار, أو أصلاً من أصول الغواية والفتنة والشر المقترن بهما. ولذلك لا نراها في الشعر الجاهلي إلا من حيث هي كائن مغوٍ للغريزة, أو علامة على نعمة قومها, فهي تخلب الألباب من ناحية جمالها إذا وجد, وهي بيضاء مشربة بصفار, نؤوم الضحى, لا تنتطق عن تفضل, وهي سمينة, كثيرة اللحم, هركولة, بهكنة, تأبى الروادف والأثداء مس قميصها, وحتى في شعر الصعاليك, تظل المرأة هي الأدنى: الزوجة الخائفة على زوجها, الملهوفة عليه.

          أما تراتب العرق أو اللون, فهو ظاهر في النفور العام من ذوي الألوان المغايرة للون الأبيض, وذلك في التراتب الذي يقع أعلاه اللون الأبيض, ويسفل أدناه اللون الأسود الذي هو لون العبيد المنبوذين, أولئك الذين ينسبون لأمهاتهم تحقيرًا لشأنهم, أو يوصفون بأنهم (أغربة) تشبيها لهم بالغراب الأسود, الطائر الذي يتشاءم منه العرب في الجاهلية, ولا يحمل إليهم إلا الشر, كما حدّثنا الغراب الأسحم في إحدى قصائده. وكان ذلك في السياق الذي جعل منزلة المولى أحط من منزلة الحر وأرفع من منزلة العبد, كما جعل ابن الأمة (هجينا) لا يلقى أي نوع من الاحترام, فقد كانت كل أمة تدعى فرتني أوترني. وتتألف طبقة العاهرات من الإماء عادة, أو ممن أعتق منهن, فلم يعرف الجاهليون للإماء مساواة في الحقوق أو المعاملة. ولذلك كان أبغض ما يبغضه العربي أن تلد أمَتُه منه, وإذا فعلت, فالعبودية نصيب أولادها الذين لا يمكن الاعتراف بهم إلا في الحالات الاستثنائية مثل حال عنترة بن زبيبة الحبشية. صحيح أن الإسلام سعى إلى القضاء على مظاهر العصبية الجاهلية, وأن الأحاديث النبوية نقضتها, ابتداء من تحويل معنى (انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا), وجعل نصرة الظالم ردّه عن الظلم, مع تأكيد مبدأ المساواة التي تجعل المسلمين كأسنان المشط, ولا تمايز بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى, ولكن سرعان ما عادت العصبية إلى الظهور, وأطلت برأسها من جديد.

شعراء النقائض

          وقد ظهر ذلك واضحًا في شعر النقائض الذي كان شعر تنابز بين القبائل, وممثليها من الشعراء الذين تعصب كل واحد منهم لقبيلته التي جعلها أفضل القبائل, وذلك في مواجهة غيرها من القبائل التي أصبحت موضع الذم مع شعرائها.

          وكانت النتيجة أن تصاعد شعر النقائض في العصر الإسلامي, وأخذ شعراء النقائض يتناظرون في حقائق القبائل ومفاخرها ومثالبها. وكل منهم يدرس موضوعه دراسة دقيقة, ويبحث في أدلته ليوثقها, وفي أدلة خصمه لينقضها دليلاً دليلاً, وكأننا أصبحنا إزاء مناظرات شعرية. وهي مناظرات كانت تتخذ من سوق المربد مسرحًا لها, فيذهب الشعراء هناك, ويذهب إليهم الناس ويتحلّقون من حولهم, ليروا مَن تكون له الغلبة على زميله أو زملائه. ويمضي شوقي ضيف في الحديث عن شعراء النقائض في كتابه عن (العصر الإسلامي). ويؤكد أن أهم مَن وقفوا حياتهم على تنمية تلك النقائض القبلية, مستلهمين فيها ظروف العصر وأحداثه السياسية, جرير والفرزدق التميميان. وكان أولهما من عشيرة كليب اليربوعية, والثاني من عشيرة مجاشع الدرامية. وقد ظلا يتناظران نحو خمسة وأربعين عامًا في عشيرتيهما من جهة, وفي قيس وتميم من جهة ثانية, وأخذ جرير صفوف قيس مدافعًا عنها ضد خصومها, وذلك بسبب أن عشيرته أسرعت بالبيعة لابن الزبير, فاتفق هوى عشيرته مع هوى قيس, وتصادف أن لجأت النوار زوج الفرزدق حين غاضبته إلى ابن الزبير, فأعانها عليه, مما جعل الفرزدق يهجوه.

          والواقع أن النقائض لم تشمل جرير والفرزدق فحسب, فقد دخلها الراعي النميري الذي هجاه جرير ببيته الشهير:

فغض الطرف إنك من نمير فلا كعبا بلغت ولا كلابا


          وكذلك الأخطل الذي تعصب لقبيلته تغلب, واصطدم بجرير مثلما اصطدم الراعي النميري. وكان الأخطل يهاجي قيسًا في الحروب التي نشبت بينها وبين قبيلته منذ موقعة مرج راهط سنة خمس وستين للهجرة, وكان شعراؤها يردون عليه, فيفحمهم بأهاجيه المقذعة, ويؤكد شوقي ضيف أن جميع الظواهر الموجودة في نقائض الفرزدق موجودة في نقائض جرير والأخطل, فهم جميعًا يعنون بتاريخ القبائل في الجاهلية والإسلام, ويخلطون العصبيات القبلية بالعصبيات السياسية, التي أخذت في الظهور بقوة بعد مقتل عثمان بن عفان, ثالث الخلفاء الراشدين, وبداية الحكم الأموي الذي اعتمد في توجهه السياسي على عصبياته القبلية الخاصة.

          وقد اهتم القدماء أنفسهم بشعر النقائض, وتركوا فيه كتبًا أهمها ما تركه أبو عبيدة صاحب كتاب (النقائض) المختص بنقائض جرير والفرزدق, التي يؤرخ لها, ويعدد مناسباتها, ومن دخل في معمعتها من الشعراء الآخرين. والكتاب ضخم, يقع في ثلاثة مجلدات, نشره أحد المستشرقين في مدينة ليدن - بريل سنة 1905, فأتاح للباحثين معرفة واحد من أهم الجوانب الأدبية, التي تظهر فيها العصبية القبلية, وما تنبني عليه من نعرات, أحالها الشعراء المتخاصمون إلى مواقف هزلية ساخرة, لا تخلو من الإقناع في حالات كثيرة, منها ما قاله الفرزدق عن قوم جرير:

قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم قالوا لأمهم بولي على النار


          وهو قول رد جرير بما يوازيه في بيته الشهير في الأخطل التغلبي:

والتغلبي إذا تنحنح للقرى حك إسته وتمثل الأمثالا


          وقد درس غير باحث من المحدثين شعر النقائض الذي هو شعر هجاء سياسي قبلي في واقع الأمر, ويقوم على تجسيد النعرات القبلية على نحو ينبني على التعصب ويؤكده, معتمدًا على أن قيم العصبية الجاهلية قد عاودت الظهور من ناحية, وأنها اختلطت بالصراعات السياسية من ناحية موازية. ولذلك فإن العصبية, التي انبنى عليها شعر النقائض في العصر الأموي, كانت الوجه الآخر من شعر العصبيات السياسية في العصر نفسه. وهي العصبيات التي مثّل فيها ابن قيس الرقيات موقف الزبيريين, أتباع عبدالله بن الزبير, وعمران بن حطان والطرماح أفكار الخوارج. وقل الأمر نفسه عن موقف الشيعة الذين تعصب لهم في شعره كثير والكميت في العصر الأموي, قبل أن يأتي السيد الحميري في العصر العباسي, وهو الأمر الذي ينطبق على أعشى همدان الناطق الشعري باسم ثورة ابن الأشعث, فضلاً عن شعراء بني أمية الذين ظهر بينهم عبدالله بن الزبير وعدي بن الرقاع.

العصبية والشعر السياسي

          وقد توقف المرحوم النعمان القاضي عند هذا الشعر السياسي طويلاً, وذلك في كتابه القيم - وكان في الأصل أطروحته لدرجة الدكتوراه - عن (الفرق الإسلامية في الشعر الإسلامي) حيث درس الفرق الإسلامية, ابتداء من الشيعة والخوارج, مرورًا بالزبيريين, وانتهاء بالمتكلمين. والكتاب دراسة تضع هذا النوع من الشعر السياسي الذي لم يخل من التعصب في إطار من ملابساته التاريخية والسياسية والفكرية والدينية, وفي إطار من حياة قائليه وعقائدهم واتجاهاتهم, كشفًا عن مقوماته وخصائصه وطوابعه. ويؤكد النعمان القاضي في كتابه, أن شعر الفرق الإسلامية في العصر الأموي كان مرآة نجتلي خلالها مناحي الحياة الإسلامية كلها في ملك بني أمية الذي لم ينجم على حين غرة حينما ولى معاوية أمر الأمة الإسلامية عام الجماعة, متقنعًا وراء شارات الخلافة, وإنما أخذت دعائم هذا الملك في النهوض خلال السنوات الأخيرة من عهد عثمان بن عفان, وذلك حين انقسم الطريق التي مهّدها النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده الشيخان إلى طريقين متضادين, يعد أولهما امتدادًا لطريق الخلافة الراشدة, التي تقوم على العدل والمساواة والإخاء والرفق, وتحتكم إلى تعاليم الإسلام, وهي الطريق التي سار فيها علي بن أبي طالب على وعورتها, بينما انحرف الطريق الآخر عن الجادة, وتحول إلى طريق الملك القائم على العصبية والجبروت, واحتكم إلى القيم القديمة التي أبطلها الإسلام, وجهد في القضاء عليها خلال الفترة المشرقة في صدر الدعوة الإسلامية, وسواء كان كتاب النعمان القاضي دراسة مدققة في الفرق نفسها, من حيث عوامل نشأتها ومعتقداتها, أو دراسة في الشعر الذي أنتجته هذه الفرق وشعراؤها المتميزون, فإن الكتاب كله, وفي مجمله, تجسيد علمي لانبثاق العصبية القبلية ومعاودتها إلى الظهور من خلال تعصب سياسي, مقصده الحكم, وتعصب ديني عماده التأويل الذي يعطي لهذا الحزب السياسي أو ذاك سندًا دينيًا, فيجعل منه التمثيل الأصح والأوحد للإسلام الذي انقسم بين أبنائه الذين تحوّلوا إلى فرق وأحزاب متنابزة بالأفعال والأقوال.

          ويلتفت النعمان القاضي بذكاء إلى ما يعتور تعصب شعر هذه الفرق من مشاكل الانتحال, فقد كان الانتحال - فيما يرى - سلاحًا خطيرًا من الصراع السياسي والديني في العصر الأموي, وقد لجأ إليه كثير من الفرق. في صراعها مع الدولة, وفيما بينها وبين غيرها من الفرق, وليس من شك في أن هذا الشعر قد لحقه - فيما يؤكد - من صنوف الاضطهاد والعدوان ومن التضييع والنكران ما ليس يخفى على أحد من الدارسين, وذلك لما كان بين أصحابه والدولة من صراع مرير, وهم يمثلون بعقائدهم المتطرفة خروجًا وتمردًا على الجماعة المسلمة, وشعرهم بما يعبر عن معتقداتهم, وبما يحمل من مقولات, جدير بألا يلقى من كثير من المؤرخين والرواة السّنّيين غير الإهمال والنكران, إن لم يكن التضييع والامتهان.

          ولا يلفتنا النعمان القاضي بمثل هذه الملاحظات الثاقبة إلى ما انطوى عليه شعر الفرق من عصبية خاصة بكل فرقة على حدة, في المدار المغلق لمعتقداتها وأفكارها, وإنما يلفتنا بالقدر نفسه إلى العصبية ضد هذا الشعر, خصوصًا من ممثلي الدولة التي وقعت هذه الفرق, بعضها أو كلها, في خصام معها, فتبادلت والفرق التعصب والعصبية التي وضعت الفرق في عداء مع بعضها من ناحية, ومع الدولة المناقضة أو المعادية من ناحية مقابلة.

          ولم تتوقف العصبية في الشعر على تحزّباته المذهبية للفرق المتنابزة المتصارعة التي اقترن بها, وإنما جاوزت الشعر إلى عقائد الفرق التي كان شعرها تمثيلاً ودفاعًا عن أفكارها وهجومًا على خصومها. واستمرت هذه العصبية الاعتقادية في الشعر إلى نهاية العصر العباسي, وظل الشعر يقوم بدوره الإعلامي الأيديولوجي في صراع العباسيين مع الأمويين من ناحية, والشيعة العلويين من ناحية ثانية, والفاطميين الذين هاجمهم الشاعر العباسي بقوله:

أنى يكون!? وليس ذاك بكائن لبنى البنات وراثة الأعمام


          وبقي الشعر في أدائه هذا الدور تعبيرًا عن نزعة التعصب التي تجسّدت فيه, مازجة بين العصبية القبلية والمذهبية, مبررة التحيّز السياسي بتأويل اعتقادي, كان - بدوره - نوعًا من الدعم السياسي للتيارات التي تزايدت صراعاتها فتزايدت أشكال تعصبها.

جازَيتَني عَن تَمادي الوَصلِ هِجرانا وَعَن تَمادي الأَسى وَالشَوقِ سُلوانا
بِاللَهِ هَل كانَ قَتلي في الهَوى خَطَأً أَم جِئتَهُ عامِداً ظُلماً وَعُدوانا
عَهدي كَعَهدِكَ ما الدُنيا تُغَيِّرُهُ وَإِن تَغَيَّرَ مِنكَ العَهدُ أَلوانا
ما صَحَّ وُدِّيَ إِلاّ اعتَلَّ وُدُّكَ لي وَلا أَطَعتُكَ إِلاّ زِدتَ عِصيانا
يا أَليَنَ الناسِ أَعطافاً وَأَفتَنَهُم لَحظاً وَأَعطَرَ أَنفاساً وَأَردانا
حَسُنتَ خَلقاً فَأَحسِن لا تَسُؤ خُلُقاً ما خَيرُ ذي الحُسنِ إِن لَم يولِ إِحسانا


(ابن زيدون)

 

جابر عصفور