الاضطرابات النفسية بعد الولادة محمد المهدي

الاضطرابات النفسية بعد الولادة

تختلف درجات تأثير الولادة على توازن المرأة, بعض النساء يجتزن هذا الأمر بشكل هادئ وبسيط, إلا أننا نجد في حالات أخرى مظاهر أزمة حقيقية تسبق أو تصاحب أو تتبع الولادة.

هناك أهمية قصوى لمعرفة حدود ونوعية اضطرابات ما بعد الولادة بواسطة الأطباء, وحتى الناس العاديين, حيث إن بعض هذه الاضطرابات لا تحتاج إلا إلى طمأنة المريضة, في حين تتطلب اضطرابات أخرى دخول المريضة المستشفى لحمايتها من احتمالات الانتحار أو قتل طفلها.

وفيما يلي سنتناول أهم مظاهر تلك الاضطرابات:

أ) كآبة ما بعد الولادة

وهي لا تعتبر حالة مرضية حيث إنها تحدث في حوالي 50% من النساء بعد الولادة, وتبدأ بعد الولادة بأيام قلائل وتستمر لأيام عدة, وتتميز بحال من الكآبة واعتلال المزاج وسرعة البكاء, والشعور بالتعب والقلق وسرعة الاستثارة والرغبة في الاعتماد على الآخرين, ومع مرور الوقت تقل حدة الأعراض وتعود الأم إلى حالتها الطبيعية. وتعزى هذه الحالة إلى التغيرات الهورمونية السريعة, وضغوط الولادة, ووعي المرأة بزيادة المسئوليات التي تتطلبها أمومتها الجديدة, ولا تتطلب هذه الحال سوى طمأنة الأم, ودعمها نفسيًا واجتماعيًا حتى تتجاوز هذه المشاعر.

ب) ذهان ما بعد الولادة

كانت طالبة في كلية الحقوق, وأحبت مهندسًا, وأصرت على الزواج منه, بالرغم من معارضة أهلها لهذا الزواج نظرًا لوجود بعض الفوارق الاجتماعية ونظرًا لسمعة هذا الشخص غير العلمية, أصيبت هذه الفتاة بنوبة من الاكتئاب خلال فترة الخطوبة أرجعها أهلها إلى المشاكل التي صاحبت تلك الخطوبة المتنازع عليها. واستمرت هذه الحال حوالي شهرين, وانتهت مع استخدام بعض العلاجات الشعبية. وحين تزوجت تلك الفتاة, وجدت معاملة سيئة جدًا من زوجها الذي فضلته على أهلها, فكان يتركها طوال الوقت تجلس وحدها تبكي سوء حظها, وحين يحضر لا يفعل أي شيء سوى إهمالها أو إهانتها. وفي الوقت ذاته لم يكن أحد من أهلها يزورها نظرًا لاضطراب العلاقة بينهم وبين زوجها. وحين حدث الحمل كانت تعاني القيء المستمر, وعدم القدرة على القيام بواجباتها المنزلية, وفقدت شهيتها, وأصابها أرق مستمر, وتدهورت صحتها تدهورًا شديدًا. وحين طلبت من زوجها أن يسمح لأمها أن تأتي لتجلس معها بعض الوقت حتى تتحسن صحتها رفض ذلك بشدة, فتحملت تلك الأوضاع كارهة حتى أتمت الحمل ووضعت الطفل. ولاحظت حماتها أنها بعد الولادة بحوالي أسبوعين أصبحت في حال غريبة, فهي كثيرة الشرود والسرحان. تجلس لفترات طويلة دون حركة, ثم تصبح بعد ذلك شديدة القلق وعصبية دون مبرر واضح, وانقطعت عن تناول الطعام, وصارت لا تنام ليلاً أو نهارًا, وأحيانًا تبكي وأحيانًا تصرخ. ولم يكن بجوارها في تلك الظروف غير حماتها, حيث إن زوجها كان مصرًا على منع أهلها من زيارتها. وقد حاول زوجها مساعدتها بإحضار بعض المعالجين الشعبيين أو الدينيين, ولكن حالتها كانت تزداد سوءًا حتى لقد لاحظوا أنها تنظر إلى طفلها بغضب وتلقيه عن يدها بعنف, وعندئذ أخذت حماتها الطفل منها لتحميه من هذه الأم المضطربة, وفي يوم من الأيام كانت حماتها تريد أن تذهب إلى السوق لتشتري بعض حاجات البيت, فتركت الطفل في حجرة مجاورة للأم, وحين عادت من السوق وجدت الأم قد أخذت الطفل إلى المطبخ وذبحته بالسكين).

أعتذر للقارئ إن كان هذا الحدث قد روعه, فهذه حال حقيقية عايشتها بنفسي واستقبلتها في المستشفى, وهي بين الحياة والموت, فقد قبضوا عليها بعد الحادث وأودعوها السجن أيامًا عدة للتحقيق معها, وفي هذه الأيام, كان الجميع يشمئز منها لبشاعة فعلتها, فما من أحد يحتمل أن يرى أحدًا قتل طفلاً بريئًا, لذلك كانت تشعر بالنبذ والاشمئزاز من زميلاتها في السجن ومن كثير من المشرفات على العنبر, كذلك انقطعت عن الطعام والشراب ( أو ربما قطعوه عنها ظنًا منهم بأنها مجرمة فعلت ذلك بقصد) وظلت على ذلك حتى أصبحت في حال سيئة, فنقلوها إلى المستشفى, واستدعت الكثير من العلاجات العضوية والنفسية حتى تحسنت حالتها.

هذه الحالة نموذج لذهان ما بعد الولادة, ذلك الاضطراب الذي يستوجب الانتباه له من أطباء النساء والتوليد, وأطباء الأسرة, والأطباء النفسيين, بل والمحيطين بالمريضة نظرًا لخطورة هذه الحال. وهذه الحال تحدث في 1-2من كل ألف ولادة. وتكمن الخطورة في أن 5% من المريضات يقدمن على الانتحار, في حين أن 4% يقمن بقتل أطفالهن, أي أن 9% من الحالات يحملن خطر الموت (للأم أو للطفل). وتحدث هذه الحال بكثرة في ولادة الطفل الأول (50-60% من الحالات), وأن50% من هذه الحالات قد مرت بمشكلات طبية قرب أو أثناء أو بعد الولادة, وحوالي 50% من الحالات كان لديها تاريخ عائلي في الاكتئاب ولذلك فإن ذهان ما بعد الولادة, يعتبر أقرب ما يكون إلى اضطراب المزاج ثنائي القطب أو الاكتئاب الجسيم المصحوب بأعراض ذهانية.

ويتوقف حدوث هذا الاضطراب في السنة الأولى بعد الولادة, والوقت المتوسط لحدوثه هو من أسبوعين لثلاثة بعد الولادة, والوقت الأكثر توقعًا هو ثمانية أسابيع بعد الولادة.

ويعتقد أن الاضطراب يحدث نتيجة للعوامل التالية منفردة أو مجتمعة:

1- ضغط عملية الولادة: فلاشك أن الولادة ضغط نفسي, ليس فقط نتيجة آلام الولادة وصعوبتها, بل إن الأم تقضي شهور الحمل في معاناة, ثم تصل إلى لحظة الولادة حيث تعاني بشدة حتى تلد, وهي تكون قد قضت ليالي عدة بلا نوم أو راحة, ثم تفاجأ أن هناك طفلاً بجانبها يحتاج إلى الرعاية والسهر, وأن احتياجاته لا تنتهي, ويزيد من هذه الضغوط أن تكون الولادة غير طبيعية مثل الولادة القيصرية أو الولادة المتعسرة...إلخ.

2- التغيرات الهرمونية السريعة: حيث يحدث انخفاض سريع لمستوى الأستروجين والبروجيستيرون بعد الولادة, مما يخل بالتوازن البيولوجي لبعض الوقت.

3- عوامل نفسية اجتماعية: كأن تكون المرأة تعيش في علاقة مضطربة مع الزوج أو مع أسرته, أو تعيش ضغوطًا في العمل, أو تعاني اضطرابات نفسية سابقة, ولم يتم علاجها بنجاح. وأحيانًا تكون الأم رافضة للحمل, وبالتالي للطفل, حيث إنها لا ترغب في أن تكون أمًا, وذلك بسبب مشاكل نفسية لديها لارتباطها بزوج لا ترتاح إليه, أو بسبب قلقها من مسئولية الأمومة. وقد وجد من الأبحاث أن الخلافات الزوجية في فترة الحمل تزيد من احتمال حدوث ذهان ما بعد الولادة.

4- بعض العوامل البيولوجية: مثل تسمم الحمل, أو تعاطي بعض الأدوية.

وبعد زوال الأعراض الحادة, يتم مساعدة المريضة بواسطة العلاج النفسي, حيث تستكشف مشكلاتها النفسية ومشكلاتها الاجتماعية, ويتم دعمها نفسيًا ومساعدتها على تقبّل دورها الجديد كأم.

 

محمد المهدي