حواضر العرب الأدبية

حواضر العرب الأدبية
        

يبدو أنّ الحواضر, ولاسيما العواصم العربية, كانت دومًا حاضنة للشعر, وقلّما كانت متفوّقة فيه. لكنها كانت, في المقابل, منتجة للنثر الفني مبرّزة فيه.

          كانت أسواق, مكة في الجاهلية, ملتقى الشعراء والخطباء وأصحاب الدعوات المختلفة وغيرهم, وكان أهلها نقّادا متذوقين للشعر, وكان فيهم خطباء, لكنهم قلّما كانوا شعراء, حتى إنّ ابن سلام الجُمَحيّ, حين كتب في فحول الشعراء, لم يذكر إلاّ قليلاً من شعراء الحواضر, بل كاد يقتصر من هؤلاء على شعراء الحيرة والمدينة, أما مكّة فاكتفى بالإشارة إلى أنّ فيها شعراء, وفعل شبه ذلك حين تحدّث عن شعراء الطائف والبحرين.

          والقدماء يعللون ضعف الشعر في الحواضر بكون السكن فيها, وفي الريف, يليّن اللسان, ويسهّل المنطق, وقد يسمح بدخول الغريب والدخيل إلى الشعر, كما أن الحواضر أقرب إلى السلم (وإنما يكثر الشعر بالحروب التي تكون بين الأحياء, نحو حرب الأوس والخزرج, أو قوم يُغِيرون ويُغار عليهم) كما قال ابن سلام نفسه.

          والحقّ أنّ هذا الموقف يطرح مسألتين, مسألة علاقة الشعر الجيد بالحرب, ومسألة التلاقح الثقافي, فأمّا المسألة الأولى فتبدو تعميميّة, لأن امرأ القيس والأعشى, مثلاً, لم يصبحا شاعرين ضخمين بفضل مشاركتهما في الحروب, أو لأنّ قبيلتيهما محاربتان, وعنترةُ ليس أكبر شعراء الجاهليّة, مع أنه أفرس الشعراء, والشعراء الفرسان ليسوا كلّهم فحولاً, وكبار شعراء الغزل الصريح والعذريّ نشأوا في مدن الحجاز وبواديه, بعد أن مُنع الحجازيون من ممارسة السياسة, وفُرضت عليهم الاستكانة, وشاع فيهم اللهو والغناء. وإذا كانت الحروب تنشئ نوعًا من الشعر الحماسيّ, فإن التمتع بالأمن ينشئ سائر الأنواع.

          وأما المسألة الثانية, أي مسألة التلاقح الثقافيّ, فإنّنا نعدّها في أيامنا موردًا من موارد تطوير الأدب والعلم, ونراها ميزة المدينة بخاصة, وإنْ كنا لا نستسيغ غلبة العُجمة على اللغة غلبة تفقدها جوهرها ورونقها.

سلطة الحضر وتجارتهم

          بيد أن السبب الحقيقي لخمود الشعر في الحاضرة, على احتضانها شعراء النواحي والوافدين من الأقطار المجاورة, ومع نماء النثر فيها, هو أنّ أهل الحواضر منشغلون عادة بالتجارة والسياحة والعمران وأعمال السلطة, عن الأدب والفن عامة, ولهذا رأينا السلطات الدينية في مكّة في يد بني هاشم, والسلطات التجارية في يد بني أميّة, ونرى اليوم أن غالبية الموظفين والتجّار في أي عاصمة هم من أهلها, أو ممن يضطرون إلى الإقامة فيها, وقد يزعم أهل العاصمة القدماء أنه من أسباب تخلّف الدولة وضعفها احتلال أهل النواحي لبعض المراكز الحكومية ولاسيما العليا. وأعمال الدولة تقتضي استعمال النثر وتطويره, سواء في الخطابة التي هي ضرورة سياسية ودينية, أو في الإعلام عامة, أو في الرسائل والنصوص القانونية الشرعيّة, أو في التأليف التعليمي, أو ما أشبه ذلك, الأمر الذي يؤدي إلى تطوّر الفنون النثرية.

          وهذا يردّنا إلى حقائق مهمة, وهي أن هناك الحاضرة وهناك الضاحية أو الربَض أو ظاهر المدينة.

          وكان أهل الحاضرة يتعالون, في القديم, وربما في العصر الحديث أحيانًا, على أهل الضاحية, وذلك لأنهم يعتبرون أنفسهم أصلاً ويعتبرون أهل الضاحية طارئين لا حق لهم في التملّك ولا في الانتساب إلى المدينة, ولاسيما أنّ هؤلاء كانوا إما أعرابًا وافدين من البادية أو من أهل الريف, وذلك كان شأن قريش البطاح (أي الذين كانوا يقيمون داخل مكة) وقريش الظواهر (أي الذين كانوا يسكنون خارجها), قريش البطاح كانوا حضرًا, وهم الذين اختطوا بطحاء مكة وأقاموا فيها, أمّا قريش الظواهر, فأولئك الرعاة الذين لم يفارقوا البداوة ولا روح القتال. وقد ساعد قريش البطحاء على الإحساس بالشرف والكرم أنهم كانوا, بسبب الاستقرار, أصحاب تجارة وغنى, وسلطة في أماكن العبادة والحج - والدين من سمات الاستقرار - على حين أنّ قريش الظواهر فقراء, وصلتهم بأماكن العبادة ضعيفة, للعداء الطبيعيّ بين البداوة والدين, فلا غرو أن يقاتل أولئك الفقراءُ عن الأغنياء, وربما بتمويل منهم, وربما تحالفوا معهم, كمافعل أحابيش مكة الذين كانوا يسكنون الظواهر.

الصفاء اللغويّ والرطانة

          لكن هذا الفصل الطبقيّ لا يستمر أبد الدهر, إذ سرعان ما يمتزج الفريقان, ويؤثّر بعضهما في بعض, ويأخذ بعضهما من بعض, وربما اصطهروا وصار بعضهم أخوال بعض. ولهذا وجدنا بعض عرب الظواهر, في العصر الأمويّ, يصبح من كبار الأشراف والأغنياء, ويتمتع بمكانة عالية حتى عند الخليفة.

          وإذا كانت قريش الظواهر قد جاورت قبيلة عربيّة وثنيّة وبلدة غير زراعية, فلم يلتثْ لسانها بعجمة, ولم يقتحم قلبها سوى الوثنيّة, ولم تضطر إلى الابتعاد كثيرًا من البداوة, فإنّ عرب الضاحية الذين كانوا على مشارف الشام ومشارف العراق في الجاهلية, قد جاوروا الريف والمدن المتحضرة التي يعود بعضها إلى أرقى الحضارات ويتصل بالديانة النصرانية اتصالاً وثيقًا, ولذلك, دخل بعضهم في دين المسيح - وإن أسقط وثنيته القديمة على مسيحيته الجديدة - كما تأثّر بعضهم باللغة الآراميّة التي كانت منتشرة في العراق وبلاد الشام, فخالط كلامهم رطانةُ وعُجْمة, وكتبوا بالخط النبطيّ لهجاتهم العربية, فجاءت لغتهم مخالفة للغة العربية السائدة في الجزيرة العربية, ولاسيما اللغة المشتركة التي ستصبح من بعد لغة القرآن الكريم, ولهذا احتقر النقّاد شعر هؤلاء, ورفض اللغويون الإسلاميون الاستشهاد بكلامهم في النحو واللغة عامّة.

          لكن هل هذا التحليل يصحّ على مدينة بيروت, مثلاً?

          نعم, وإلى حد بعيد.

الشعر في بيروت

          قد يقال: لكنّنا لو تصفّحنا كتاب جرجي زيدان (تاريخ آداب اللغة العربية) وأحصينا أدباء بيروت وشعراءها في عصر النهضة لوجدناهم كثرة, سواء في ذلك أحمد البربير أو عمر الأنسيّ أو حسين بيّهم أو أسعد طراد أو نجيب حداد أو أبو حسن الكستي أو أمين الحداد. هذا صحيح, لكن ليس من شاعر كبير بين هؤلاء, بل جلّهم شعراء علماء.

          وقد يُستدرك على ذلك بالقول: لكن أمير الشعراء, بعد شوقي, بشارة عبدالله الخوري, الأخطل الصغير, وعمر الزعنيّ, الشاعر الشعبيّ المشهور, وصلاح استيتية شاعر اللغة الفرنسية الكبير, وعلى مستوى أدنى صلاح اللبابيدي وصلاح الأسير, كلهم من بيروت. والجواب التقليدي عن ذلك, وفق التقسيمات الطبقيّة لسكان بيروت, أنّ الأخطل الصغير لا ينتمي إلى أسر بيروت القديمة, بل أصله من بلدة إهمج في جبل لبنان الشماليّ, وطرأت أسرته على بيروت ككثير من الأسر الريفيّة, وأما عمر الزعني المولود في منطقة البطريركية خارج أسوار بيروت القديمة, فمن أسرة مصرية طارئة أيضًا على بيروت, وأما صلاح استيتية, فمن أسرة سكنت محلة الباشوراء ثم الطريق الجديدة, فهي كتلك طارئة على بيروت مثلما سيطرأ صلاح استيتية على باريس وغيرها من مدن فرنسا, وينتمي إلى الثقافة الفرنسية, ابتداء من دخوله المدرسة الإنجيلية الفرنسية في بيروت, حتى دراسته في باريس نفسها وعمله وتأليفه في فرنسا, ولذلك يصعب أن نسلكه في شعراء بيروت, وصلاح اللبابيدي وصلاح الأسير, أخيرا, شاعران مقلان أولهما من مواليد محلة البسطة, أي من ضواحي بيروت القديمة, ولا أعرف مولد ثانيهما, وإن كنت أعلم أن من أسرته من يسكن محلة الطريق الجديدة, الضاحية البعيدة لبيروت القديمة.

          هذا قد يضيء المسألة الحقيقية وهي:

          أولاً: أن الوافدين على الحاضرة, قبل أن يصبحوا فيها من أهل السلطات التجارية أو الدينية أو السياسية, في درجاتها العليا والدنيا, أو قبل أن يصبح همُّهم الأكبر السعيَ إلى ذلك, أي حينما يكونون على برزخ بين الحضرية من جهة, والبداوة أو الريفيّة أو الجبليّة من جهة أخرى, يظلّون قادرين على الفراغ للشعر, بل ربما وجدوا في الشعر طريقًا إلى تحقيق حضورهم في المدينة, فأتقنوه, أو أتقنه منهم من أوتي الموهبة وأحسن الصقل, وربما بلغ درجات عليا فيه, لكن إذا انخرط في هموم المدينة التجارية والسلطية, ضعفت آصرته بالشعر, أو أصبح مقلا فيه أو متكلّفًا له.

          ثانيًا: أنّ نفي الانتماء البلديّ عن أي مقيم في الحاضرة بحجة أنه طارئ, هو أو أبوه, عليها, ضرب غير عصريّ من التفكير, حتى لا نقول متخلّف. والإنسان الذي يقيم اليوم في الدول المتقدمة ينسب بلديّا إلى مكان إقامته وليس إلى مكان ولادة جده. إنّ مثل ذلك التفكير المتطوّر يُكسب المدينة نسب جميع المتفوقين المقيمين فيها. والإمام الأوزاعي بيروتيّ بهذا المقياس, فإن كان ثمة من يعارض ذلك فإنه ينفي الأوزاعي عن بيروت, وينفي معه رياض الصلح والأخطل الصغير وعمر الزعني, لكن من يقرّ ذلك المقياس ينسب إلى عاصمة لبنان كل أولئك, وينسب معهم عمر أبو ريشة وغسّان كنفاني ومحمود درويش, وغيرهم من المبرّزين.

          ثالثًا, وهو الأهم وعلى صلة بالكلام السابق: أنّ للأديب مولدين: مولدًا جسديًا ومولدًا فنيًا, يدين بالأول لوالديه ولمسقط رأسه, ويدين بالثاني للموطن الذي احتضن عبقريته وأظهرها للناس, فالمتنبي هو ابن بادية السّماوة جسديًا, لكن بادية السماوة صحراء لا تعني لنا شيئًا, ولم تصنع لشهرة المتنبي أي شيء. بيد أنه ابن حلب أدبيًا, حلب التي جعله أميرها يبدع أروع شعره بما أفاءه عليه من جوائز وبما حاصره به من علماء ونقّاد, وكانت مكافأة هذه الرعاية أن ذاع صيت سيف الدولة على مر التاريخ بفضل شعر المتنبي, وكدنا لا نعرف من ذلك الأمير الحمدانيّ سوى الصورة التي رسمها المتنبي نفسه له, وليس الصورة التاريخية التي قد تبدو شديدة الهزال والعادية. لم يعد سيف الدولة هو نفسه بعد شعر المتنبي, بل أصبح هو اللوحة التي رسمها أبو الطيب, وبدا ابن عبقرية ذلك الشاعر. وكلا الرجلين ابن حلب, لكن المتنبي الشاعر أكثر انتماء إلى حلب من سيف الدولة, لأن دوحته الضخمة أينعت هناك, ولأن عبقريته جسّدت لحلب أميرًا لا تستطيع أن تلد تلك المدينة مثله بسهولة, ولذلك أقام أهل حلب تمثالاً له في بلدهم, وأجروا استقصاءات علمية لاكتشاف البيت الذي كان يقيم فيه عندهم.

النسبان القبلي والعقلي

          وكذلك بيروت, ومثلها كل العواصم: القاهرة ودمشق وبغداد, وغيرها, فكل الأدباء الذين غذتهم بثمارها العلمية والأدبية, ثم جعلت أسماءهم تبعث بعد خمول هم, بهذا المعيار, أبناؤها, ولو لم تكن هي مسقط رءوسهم. إنه النسب العقلي الذي يرجح على النسب القبلي, فهو نسب إنساني في أرقى ما يصل إليه الإنسان, على حين أن النسب القبلي نسب تناسلي, يتصل بما ليس للإنسان فيه إلا فضل عمارة الأرض.

          لا عجب بعد ذلك أن يغني بيروت الشعراء المولودون فنيا لا جسديًا فيها, والمنتمون أدبيًا إلى صحفها ومدارسها وجامعاتها ومنتدياتها ومفاهيمها وأحرف مطابعها وأقلام نقّادها. ولا أعتقد أحدًا من أبناء أسر بيروت الكريمة أو الحقيقية أشد انتماء إليها من نزار قباني ومحمود درويش مثلاً. وكما أن العقيدة الدينية أو السياسية أو الحزبية نسب, كذلك المدرسة الفنية أو الأدبية, والمقصود بالمدرسة هنا شيء مختلف عمّا اصطلح عليه في كتب الأدب والفن, فهي بمعنى المكان الذي يثقف فيه المبدع, وتتكون فيه شخصيته الفنية, وتظهر قدراته, وينال نصيبه من العلمية, قريبًا مما عناه مصطلح (بيروت الثانية) التي طلب نزار قباني إنقاذها من الاحتراق:

بيروت التي حبلت بنا في وقت واحد
وأرضعتْنا من ثدي واحد
وأرسلتنا إلى مدرسة البحر
حيث تعلّمنا من الأسماك الصغيرة
أول دروس السفر وأول دروس الحب

          وكذلك بيروت التي رأى فيها نزار سنبلته وقلمه وأحلامه وأوراقه الشعرية, فدعاها إلى أن تنهض:

قومي من أجل الحب, ومن أجل الشعراء
قومي من أجل الخبز, ومن أجل الفقراء.
(.......................................)
قومي كي يبقى العالم يا بيروت...
ونبقى نحن...
ويبقى الحب....

يا مستخفّاً بعاشقيِهِ, ومستغشّاً لناصحِيهِ
ومَنْ أطاعَ الوشاة َ فينَا, حتى أطَعْنَا السّلُوّ فِيهِ
الحَمْدُ للَّهِ, إذْ أرَاني تَكذيبَ ما كُنتَ تَدّعِيهِ
مِن قبلِ أن يُهزَمَ التّسَلّي; ويغلبَ الشّوقُ ما يليهِ


(ابن زيدون)

 

مصطفى علي الجوزو