حسين فوزي.. ملامح وذكريات موسيقية سمحة الخولي

برحيل الدكتور حسين فوزي انطوت صفحة مجيدة في الثقافة المصرية والعربية، لن يدرك المثقفون قيمتها الحقيقية إلا بعد انقضاء فترة كافية، تتيح فرصة تقييم حقيقي للدور الذي قام به هذا الأستاذ، المتعدد المواهب في الثقافة العربية عامة والمصرية بصفة خاصة، خلال أكثر من ثلثي قرن في مرحلة اصطرعت بأحداث وتطورات تاريخية بالغة. التشابك والأهمية.

لا أظن مصر قد أنجبت أن أبناء طبقتها المتوسطة الصغيرة، كثيرين من أمثال هذا النمط الفريد، الذي نجد فيه أقرب مثال للإنسان الشامل المعرفة الذي عرفته أوربا في عصر النهضة، فهو بحكم التخصص والمهنة أستاذ في علوم البحار، مارسها علما وعملاً (في رحلاته الشهيرة) وترك بصمته التاريخية على دراستها في جامعة الإسكندرية، وهي التي تولى فيها منصب نائب المدير- وهو بحكم الدراسة الشخصية والهواية والاطلاع العلمي والممارسة العملية فنان موسيقى متعمق، أتيحت له بصيرة موسيقية وحساسية فنية لم تتهيأ إلا للمعدودين من صفوة معاصريه، ولا نجاوز الحقيقة إذا قررنا أنها لا تتهيأ لكثير من الموسيقيين المتخصصين، وهو بجانب هذا أديب وكاتب بارع يتميز بأسلوب جزل، يتسم بروح الفكاهة حتى في تناوله لأصعب الموضوعات وأعقدها، وهو ما تشهد به كتبه القيمة سواء "سندبادياته" الشهيرة، أو كتبه في الموسيقى أو تاريخ الحضارة، وتشهد به كذلك مقالاته العديدة التي نشرت على مدى حقب ثلاث، في جريدة الأهرام وغيرها من المجالات الثقافية، وهي كتابات ستظل مصدرا بالغ الثراء والتنوير لأجيال وأجيال من قراء العربية المتطلعين للمعرفة في ميادين العلم والفن والثقافة الواسعة الأفق. دور فعال لشخصية فريدة وعلى الرغم من القيمة الكبرى لإنجازات د. حسين فوزي في مجالات العلوم فإننا نؤمن بأن أجل ما أداه حسين فوزي هو دوره الإيجابي المستنير في تشكيل وتوجيه الحياة الثقافية المصرية، وخاصة بعد ثورة عام 1952، في مرحلة كانت مصر فيها أشد ما تكون احتياحجا لعقول متفتحة، وخبرات ثقافية شاملة، لم تتوافر إلا لقلة من قادة الفكر والثقافة. وكان للدكتور حسين فوزي بينهم مكانه المرموق الذي يسجله له التاريخ، وهو دور ربما اختلف البعض حول تقييم وجهته، ولكن أحدا لا يستطيع أن ينكره أو أن يقلل من مدى فاعليته فيه، أو أن يشكك في إخلاصه في الاضطلاع بمسئولياته منذ دعاه الأستاذ فتحي رضوان، عندما تولى وزارة الإرشاد القومي ليتحمل بجانبه مسئوليات تلك الوزارة وكيلا، ثم أستمر عمله فيها لفترة بجانب وزيرها الفنان د. ثروت عكاشة، في العصر الذهبي للثقافة المصرية- ثم اتصل جهده بعد ذلك في عصر الدكتور عبدالقادر حاتم، الذي، عرف كيف يفيد مصر بخبرات د. حسين فوزي الثقافية الواسعة، في إطار بعيد عن الوظائف الرسمية، احتراما لرغبة د. فوزي ذاته. ونحن هنا لا نبتغي تتبع دور د. حسين فوزي في الثقافة المصرية من خلال نشاطه الوظيفي أو مناصبه الثقافية في العصور المختلفة، فدوره أعمق وأجل من أن يقاس بالمناصب والأوضاع الرسمية وحدها، ولكننا نريد أن نقدم للقارئ العربي لمحات إنسانية وذكريات موسيقية أتاحتها الظروف لكاتبة هذه السطور، بحكم صلات إنسانية وثقافية وثيقة امتدت عبر ثلث قرن، ولذلك فإننا نركز حديثنا في هذه التحية لروح أستاذنا الراحل، على "الموسيقى" في حياته، وعلى فضله في نشر الثقافة الموسيقية وعلى جهوده في تنظيم وتوجيه التعليم الموسيقي المتخصص وفي تشجيع المواهب الشابه، وهي جوانب لا يعرفها إلا الذين عايشوها عن قرب، وبذلك نصيء للقارئ العربي بعض جوانب هذه الشخصية الفريدة، ولاء ووفاء ببعض حق هذا الرجل الذي قضى سنواته الأخيرة وحيدا- فهو لم يرزق بأبناء- يعارك المرض والشيخوخة ولكن إخلاصه العميق لفن الموسيقى، ظل من النعم التي لازمته حتى آخر حياته وخففت عنه بعض قسوة تلك السنوات الأخيرة.

سحرالموسيقى

والبيئة التي نشأ فيها حسين فوزي- في حي الحسين وفي كنف والد موظف له اهتمامات ثقافية تقليدية (بالآثار الإسلامية) لم تكن لتقوده إلى هوايته الموسيقية التي بدأت منذ شبابه المبكر، ويبدو أن مواهبه الأدبية هي التي مهدت لها الطريق إذ تفتحت مواهبه الأدبية منذ الدراسة الثانوية فاتجه للكتابة، وكانت له جولات أدبية بلغت ذروتها فيما بعد، في مسرحية أسماها "ليلة كليوباترا" وهى التي لحنها داود حسني فيما يشبه الأوبرا، ولكن باسيلورب محسيقي شرقي تقليدي.

ثم بدأت الموسيقى تجتذبه هو وبعض رفاق شبابه" كالمعماري الجليل حسن فتحي وغيره، فكانوا يحرصون على حضور حفلات العزف التي يقدمها فنانون أجانب، أو أوركسترات زائرة أو محلية صغيرة، في الأماكن العامة في القاهرة وسحرته الموسيقى الغربية فصمم على أن يسبر أغوار هذا العالم السحري، غير قانع بمجرد الاستماع وقرر أن يدرس عزف الفيولينة كما كان يحلو له ان يسميها تعريبا للاسم الأوربي الذي رآه (أقرب تعبيرا من الكمان)، ولكن أنى له أن ينفق على الدروس الخاصة في العزف لدى أستاذ أجنبي، وبطبيعة الحال لم يجد العون من والده، ففكر هو وبعض أصدقائه في الاشتراك في أجر الدرس الخاص وبذلك تخف وطأته على كل منهم، واتفقوا مع أحد الأساتذة الأجانب المقيمين في القاهرة على أن يعطي درسا خاصا لمجموعة من اثنين أو ثلاثة، وبذلك يتحمل كل منهم نصيبا لايثقله من الأخر.

وهكذا بدأت قصة حب د.حسين فوزي للموسيقى، وهي قصة طويلة عميقة تطورت فصولها خلال حياته المديدة بدءا من عزف الفيولينة في مصر، ثم لا فرنسا (حين سافر إليها في بعثة للتخصص في علوم البحار)، وكانت دراسته للعزف دراسة منهجية جادة، وكان يتدرب على العزف بانتظام، التزم به طوال حياته، رغم كل شواغل الحياة ومسئولياتها ولم يتركه حتى في سنوات شيخوخته، ولم يمنعه وهن الشيخوخة ولا ضعف السمع من مواصلة تدريبه على العرض كمصدر إيجابي ورئيسي من مصادر متعته الموسيقية.

الموسيقى: من الدراسة إلى الممارسة

وعندما تهيأت له سيطرة طيبة على العزف وقراءة النوتة في شبابه وهو في فرنسا اشترك في العزف لا أوركسترات الشباب الجامعية هناك، وكان سعيدا وفخورا بقدرته على الجلوس في صفوف الأوركسترا فقد أتاح له ذلك فرصة ذهمية للاحساس بالموسيقى من الداخل، وكانت خطوة أخرى نحو توثيق صلته بفنون الموسيقى الغربية وتعميق نظرته لها.

وبدأ يدرك في هذه المرحلة، أن ممارسة الموسيقى عمليا لا تكفي وحدها لسبر أغوار هذا الفن وتفهم لغته الخاصة، فحرص بعقليته التحليلية العلمية على أن يحصل ثقافة موسيقية جادة، تمكنه من فهم وسائل تكثيف الألحان في النسيج الموسيقي الغربي رأسيا في الهارمونية، وأفقيا في الكنتر ابنط أو البوليفونيه، ودرس صيغ الموسيقى والبناء الموسيقى (الفورم) وآلات الأوركسترا، وخاصة بعد خبرته الت اكتسبها من العزف الأوركسترالي، وأخذ يستمع بشغف وتركيز لموسيقى العصور المختلفة وروائع اساطير المؤلفين، وقرأ في تاريخ الموسيقى والنقد الموسيقي باستفاضة، وهذا الإلمام الشامان بفن الموسيقى لم يتحقق له دفعة واحدة ولا في سنوات الشباب المبكر، ولكنه ظل طوال حياته دارسا مخلصا للموسيقى يدفعه حبه الأصيل لها للاستزادة ومتابعة القراءة والاستماع والتحليل.

آفاق جديدة في الثقافة الموسيقية

عندما بدأ د. فوزي جهوده الرائدة في نشر الثقافة والتذوق الموسيقي في البرنامج العام للإذاعة في الأربعينيات، كان برنامجه "ديوان الموسيقى الكلاسيك" شيئا غريبا ولكنه طريف بالنسبة للمستمع المصري، وكان لذلك البرنامج صداه في أوساط الشباب وخاصة الجامعي المتطلع للمعرفة ولتفهم فنون الغرب بعد أن اقترب من آدابه وفكره، ولكن برنامجه لم يخاطب جماهير عريضة، وهو أمر لم يقلقه كثيرا، إذ كان يدرك أنه يرتاد مجالا بكرا بالنسبة للإنسان المصري العادي وكان مؤمنا بأن هذا الإنسان المصري العادي إنسان ذكي، مرهف الحس، لابد أن يستشعر هذه الموسيقى، إذا أتيحت له الألفة الكافية معها، وإذا ما قدمت له أعمال ملائمة، وقدمت تقديرا مناسبا، يفتح أمامه آفاقا جديدة لخبرات جمالية وفنية في هذا المجال الجديد عليه،

وعندما أنشئ "البرنامج الثاني" في الإذاعة المصرية في الستينيات- بهدف تقديم برامج رفيعة المستوى في الآداب والفنون العالمية والعربية لجمهور المثقفين- دعي د. حسين فوزي لتقديم برنامجه في التذوق الموسيقي بشكل أسبوعي منتظم مساء يوم الجمعة وخصص له وقت أطول، مما أتاح له فرصا أفضل لتقديم أعمال موسيقية كبيرة مشروحة شرحا وافيا، وظل يقدمه بانتظام حتى الثمانينيات، وكان يبذل في إعداده وتقديم مادته بأسلوبه الرشيق السلس، جهدا حقيقيا، يقدره كل من مارس هذا العمل فكان ينتخب روائع الأعمال الموسيقية من عصور مختلفة، وإن كان أشد حفاوة بالموسيقى الكلاسيكية والرومانسية من القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وكان يستهل تقديمه بعرض تاريخي لحياة المؤلف وعصره وللملابسات التي كتب فيها العمل الموسيقى وكان يحرص على ذكر المصطلحات الموسيقية بلغتها الأصلية مع شرح أو تعريب لها، سواء كانت مصطلحات سرعة الاداء أو أسلوب الأداء، ثم يحلل العمل الموسيقى تحليلا مبسطا بتسليط الضوء على الألحان الرئيسية فيه، فكان يستعين ببعض الموسيقيين ليعزفوا تلك الألحان بصورتها المبسطة على البيانو، ثم يشير في حديثه إلى تفاصيل التلوين الأوركسترالي (في حالة الأعمال الأوركسترالية) ويشير إلى الخصائص المميزة لأسلوب المؤلف، وذلك كله بلغة عربية مبسطة تمزج أحياناً بين الفصحى وبعض العامية المثقفة بروح لا تخلو من الفكاهة، وبأسلوب لا يجاريه فيه أحد في حماسه وتدفقه وتلقائيته المطلقة.

د. حسين فوزي والموسيقى العربية

وقد يتساءل القارئ: وماذا كان موقف د. فوزي تجاه الموسيقى العربية وما دوره بالنسبة لها؟ وهو سؤال يكتسب أهمية خاصة في ظل بعض الكتابات الهجومية المتناثرة بين الحين والحين، والتي كان أصحابها ينعون عليه مساندته المطلقة ودعوته للموسيقى الغربية ويعتبرون هذا موقفا عدائيا منه حيال الموسيقى العربية التقليدية وقد أتيحت لكاتبة هذه السطور فرص عديدة ونادرة لفهم موقفه ومنطق تصرفاته في هذا المجال، فحسين فوزي كان يحترم تراث الموسيقى العربية التقليدية، كالبشارف والسماعيات وما إليها، وكان دائما يفضل أن يسميها الموسيقى "الكلاسيك" أو الكلاسيكية العربية، إذ كان يعتبرها تجسيدا لقيم حضارية نابعة من منطقتنا الجغرافية ويراها ممثلة لصورة فنية رفيعة من صور التعبير الموسيقي المميز للثقافة العربية التركية الفارسية كما انصهرت في تراث الحضارة الإسلامية- وتبلورت في هذا التراث الموسيقي القيم الذي توارثته الأجيال والذي نشأت عليه أجيال سابقة.

ولكنه كان في الوقت نفسه يدرك أن هذا التراث الموسيقي نبع عن مجتمعات وعصور مضت، كان فيها مسايراً لحاجات جمالية ونفسية، تختلف كثيراً عن الحاجات النفسية والروحية والجمالية للإنسان المصري والعربي المعاصر.

موسيقى الوعي.. موسيقى الاستهلاك

وكان د. فوزي يفرق بوضوح قاطع بين هذا التراث الكلاسيكي العربي القيم، وبين الموسيقى العربية الدارجة Popular المعاصرة وخاصة أغاني المطربين والملحنين الحديثة، والتي عاونت الإذاعات العربية على نشرها بل وتكريسها على أوسع نطاق، وقد كانت آراؤه وكتاباته في هذا المجال لا تتصور، التعامل مع هذه الموسيقى الغنائية الخفيفة الدارجة باعتبارها أعمالا فنية باقية أو باعتبارها الامتداد الشرعي لتراث الموسيقى العربية التقليدية الكلاسيكية..وذلك لأن صفة البقاء- وهي الدديل القاطع على حكم الزمن عاى القيمة الفنية- لا تتحقق لها إلا في القليل النادر، وكان يشرح وجهة نظره في التفرقة الأساسية بين عالم الأغاني الدارجة وبين الموسيقى العربية الفنية بما يحدث في الغابر وكان يضرب مثلا شهيراً هو أغاني أديث بياف Piaf وما إليها قي فرنسا، فالجماهير العريضة تحبها وتقبل عليها بشغف وتنفق في سبيل الحصول على تسجيلاتها أموالا، ولكن تلك الجماهير ذاتها لا تنظر للأغاني الدارجة لبياف وما إليها على أنها أعمار فنية ترقى لمجال الفن الموسيقي الرفيع مثل أعمال بتهوفن أو فاجنر أو ديبوس أو رافيل، وكتب كثيراً في هذا المعنى مطالبا القراء بالوعي بمراتب الموسيقى ودرجاتها الفنية المتفاوتة، وأن يتعاملوا مع كل نوع من الإنتاج الموسيقى بما يلائمه ومهما سلطت عليه الأضواء فهي لا تعدو أن تكون نوعا من الاستهلاك اليومي المحلي، الذي يلمع فترة ثم سرعان ما يحبو وينطفى وكان يستند معاملة الأغاني الدارجة قي بلادنا عام أنها امتداد للتراث العربي التقليدي- كما يريد منتجوها تصويرها لجمهورهم، وذلك لأنها قد تخلت عن كثير من جماليات وخصائص لغة التراث العربي في المقامات والأبعاد والإيقاعات والآلات (هذا إذا طرحنا جانبا قيمتها الآدبية والشعرية).

رؤيته لتقديم التراث الموسيقي العربي

وقد قررت وزارة الثقافة في مصر في أواخر الستينيات إنشاء فرقة تقدم تراث الموسيقى العربية التقليدية، عزفا وغناء، لكي تسد فراغا حقيقيا في بناء الحياة الموسيقية، بتقديم التراث مع الحفاظ على طابعه بحيث تكون مهمتها مزيجا من الإحياء والحفاظ على التراث في آن واحد، وشكلت الوزارة مكتبا فنيا يوجه سياسة هذه الفرقة في هذا الإطار وأسندت رئاسة هذا المكتب الفني للدكتور حسين فوزي فظل يمارس مهمته فيه خلال موسمها الأول سنة 1968، وكانت الفرقة في ذلك الموسم تتألف من مجموعتين "الصغيرة" وهي المجموعة التي تضم خيرة العازفين على الآلات العربية في تكوين أقرب ما يكون لروح "التخت" في رقة الصوت وفي الطابع الحميم المرتبط بالتخت، وكان أفراد هذه الفرقة يقدمون التقاسيم على آلاتهم، حرصا على هذا الفن العريق الأصيل من الاندثار، والمجموعة "الكبيرة كانت تضم عازفين من المشهود لهم بالكفاءة ومهمتهم مصاحبة المنشدين في غنائهم الجمعي.

ولم يمض وقت طيل حتى غلب على "فرقة الموسيقى العربية" اتجاه نحو إدماج المجموعتين وتصخيم أعداد العازفين وإدخال بعض الآلات الأوركسترالية والغربية دون أن تخدم هدفا فنيا يرتبط باهدافها في الحفاظ على التراث وأصالته ونقائه، وكعادته انسحب من المكتب الفني حتى لا يشارك في أتجاهات التحديث والتحوير التي لم يؤمن بها بل واعتبرها خروجا على الإطار التقليدي الحقيقي، وهكذا نرى حسين فوزي الذي اتهمه المتزمتون المنغلقون من أنصار الموسيقي العربية، نراه أشد حرصا على نقاء التراث التقليدي وأشد إخلاصا للحفاظ الحقيقي عليه من كثير من المدافعين عنه والمستفيدين منه.

التعليم الموسيقي المتخصص

ولحسين فوزي دور عميق الأثر في رعاية وتوجيه وترشيد التعليم الموسيقى المتخصصة وهو دور انعكس على المعاهد الموسيقية المتخصصة في البلاد العربية الأخرى، ولو بشكل غير مباشر وقد يثار التسأؤل؟ وما هي علاقته المباشرة بالتعليم الموسيقي المتخصص وكيف قام بهذا الدور المؤثر فيه؟ والواقع أنه كان دورا تطوعيا توجيهيا عاما، نبع من اطلاعه الدولي الواسع على نظم واتجاهات التعليم الموسيقي في كثير من دول العالم، شرقية وغربية، وهو قد مارس هذا الدور ليس بجانب ثروت عكاشة في العصر الذهبي لوزارة الثقافة فحسب، بل وعلى مدى حقب ثلاث تقريباً.

ومما يذكر له أنه اتخذ خطوة قومية جريئة في الخمسينيات (حين كان وكيلا لوزارة الإرشاد القومي في عهد فتحي رضوان) فعندما هالته المطالب المادية المتزايدة للمتعهد المختص بموسم الأوبرا الإيطالية السنوي التقليدي في مصر، قرر إلغاء الموسم كلية وتوجيه الاعتماد المخصص له في الميزانية لإنشاء كورال الأوبرا وأسند تدريبه وقيادته لواحد من الموسيقيين المقيمين من أصحاب الخبرة الطويلة وهكذا تكون فريق كورال من الأصوات المصرية لأول مرة وكان قوامه دارسي الغناء ممن تخرجوا في معهد الموسيقى المسرحية وغيرهم، وبهذه الخطوة الحاسمة وضع حسين فوزي أول حجر في تمصير فنون الأداء الموسيقي الغربي، وفتح آفاقا جديدة أمام كفاءات مصرية.

ولقد شاءت الأقدار أن تجعل من حسين فوزي راعيا وموجها بل أبا روحيا للكونسرفتوار، معهد الموسيقى المصري الثالث والذي سد فراغا فنيا كبيراُ في بنية التعليم الموسيقي المصري، بجانت المعهدين القائمين وهما: معهد التربية الموسيقية والمسمى قبلا بمعهد معلمات الموسيقى، والذي تولى تخريج المعلمات المؤهلات لتدريس التربية الموسيقية في مدارس التعليم العام، والآخر نادي الموسيقى الشرقية العتيد، والذي تحول إلى معهد الموسيقى العربية، وهو الذي يتولى، تخريج العازفين والمغنين والملحنين في مجال الوسيقى العربية التقليدية من مصر وسائر أنحاء الوطن العربي، وكان يحلم باليوم الذي يرى فيه في بلادد معهدا رفيع المستوى، يخرج كفاءات الآداء الوسيقي عزفا وغناء وقيادة أوركسترالية وكفاءات التأليف والنقد الموسيفي، وذلك لكي يحل محل المعاهد الأجنبية القليلة الخاصة والتي كانت تقدم تعليما جزئيا للموسيقى في مجال العزف فقط.

وكان يدرك ما يمثله هذا النوع المتعمق المتخصص من التعليم الموسيقي من قيم فنية عالمية رفيعة، لابد أن تنعكس على الحياة الموسيقية في شتى جوانبها، وكان من القلائل من أصحاب الرؤية المستقبلية للثقافة والتي كانت تتطلع لإنشاء قبل ذلك المعهد استكمالا لأركان الحياة الموسيقية المزدهرة القائمة على أكتاف المصريين.

ولذلك كاد لحسين فوزي دور محوري في التمهيد لإنشاء معهد الكونسرفتوار المصري، فشكل لذلك لجنة رفيعة المستوي من الخبرات المصرية والأجنبية.

حسين فوزي.. والكونسرفتوار

وما كان أشد دهشة الرأى العام حين تقاطر على المعهد الجديد عدد من مشاهير الملحنين والمطربين ممن حققوا نجاحا جماهيريا في الغناء والتلحين ومنحتهم وزارة الثقافة إعفاء من شرط السن تقديرا لرغبتهم في التعليم غير أنهم جميعا لم يحتملوا مشقة تلك الدراسة وصعوباتها التي لم يكونوا مهيئين لها، فتركوها واحدا بعد الآخر، مما أدى لشيء من اضطراب الرؤية لدى الرأي العام، وأوجد نوعا من الخلل في صفوف الدارسين الجادين والأصغر سنا بالمعهد.

وكانت البداية شاقة تحف بها مشاكل عديدة، وفي أكتوبر سنة 1963 تخرجت أول دفعة في المعهد، واختطف الموت أبوبكر خيرت عميد المعهد، وهنا عهد للدكتور حسين فوزي بالإشراف على الكونسرفتوار، ولكنه اعتذر احتراما للتخصص، وقبل مهمة التوجيه الأم من بعيد، واختار له مديرا مؤقتا من كبار الأساتذة الأجانب فيه إلى أن استقدمت له وزارة التقافة من إيطاليا مديرا هو المؤلف الموسيقي شيزاري نورديو الذي طلب إليه تشخيص مشاكل المعهد واقتراح الحلول الجدية لها في ضوء خبرته التعليمية الطويلة، وذلك تداركا للمشاكل التي حفت بسنوات الإنشاء وترشيدا لمسار المعهد نحو أهدافه المنشودة.

وكان من بين ما اقترحه ذلك التقرير الأستعانة بعدد من الخبراء والأساتذة الأجانب لبث الحيوية في المعهد والارتفاع به للمستو يات العالمية المستقرة، وقررت وزارة الثقافة في آواخر الستينيات آن تستقدم له خبراء من الاتحاد السوفييتي، وكلف د. حسين فوزي بالسفر لروسيا لاختيار العميد المناسب لهذه المهمة الدقيقة، ووقع اختياره على ايراكلي بيريدزي أستاذ الفيولينة الجورجي وهو الدي تولى عمادة الكونسرفتوار من 1967 وحتى 1972، وبهذه الخطوة بدأ الكونسرفتوار أخيراً يقترب من النمط والمستوى الغربي لمثل هذه المعاهد المتخصصة.

وعندما أسندت لكاتبة هذه السطور عمادة الكونسرفتوار بعد ذلك العميد الجورجي ظل د. حسين فوزي دائما قريبا روحيا هذا المعهد يرقب مساره وتطوره وتقدمه بعناية، وعندما أنشى به أول أوركسترا مصري تماما، ثم دعي ذلك الأوركسترا للمشاركة في مهرجان الشباب والموسيقى في فيينا سنة 1979، ثم للمهرجان الدولي لاوركسترات الشباب في آبردين من العام نفسه، كان د. فوزي على رأس المرافقين له ليس التماسا لتأثيره الروحي على هذا الشباب المصري فحسب بل تكريما واعترافا بفضله وبجهوده الطويلة التي بذلها طواعية وبسخاء في توجيه وتدعيم ذلك المعهد منذ إنشائه.

التواصل الخلاَّق مع الأجيال

ولم يفقد حسين فوزي في أي لحظة من حياته تلك اللمسة الفنية الأصيلة والتي كانت مصدر إشعاع يضيء شخصيته ويقربه وفق قلوب الشباب ويكسر حواجز المركز والسن بينه وبينهم مفسحا المجال لعلاقات إنسانية وفنية ثرية يعتز بها كل من اقترب منه ولما فيه هذه الصفة النادرة.

واذكر عندما تخرجت في الكونسرفتوار أول دفعة من دارسي التأليف الموسيقي، أن أستاذ التأليف بالمعهد الفنان الراحل جمال عبدالرحيم وجه الدعوة للدكتور حسين فوزي لحضور امتحانات تلك الدفعة، باعتبارها أول مجموعة تستكمل دراسة علوم التأليف الموسيقي في الرحلة العالمية، ورحب د. فوزي وقضى ساعات طوالا يستمع لمؤلفاتهم (مشروعات التخرج) وأعرب عن سعادته باستكمال الكونسرفتوار لهذا الركن الإبداعي المهم في دراساته، واعتبره قد بلغ بذلك سن الرشد الموسيقي، وربما كان الرأي العام ملما بشيء من ارتباط د. فوزي بالكونسرفتوار بحكم هوايته وعشقه للموسيقى، ولكن قلائل هم الذين يعرفون دور حسين فوزي في إنشاء أكاديمية الفنون وإذا كانت جهوده بالنسبة للكونسرفتوار متصلة منذ لحظة التفكير في إنشائه، فإنه لم يكن بعيدا عن معاهد الفنون الأخرى كمعهد السينما والباليه وعندما استقر الرأي على جمع تلك المعاهد (وكانت في ذلك الحين ستة فقط هي معاهد المسرح والسينما والباليه والكونسرفتوار والموسيقى العربية المنضم حديثا بعد تحويله إلى معهد عال، ومعهد النقد (التذوق) الفني في إطار موحد، كلفه د. عبد القادر حاتم بالإشراف على وضع أول قانون بإنشاء أكاديمية الفنون وكان شديد الحرص على تسميتها أكاديمية وليس جامعة تأكيدا لاختلاف طبيعة دراستها الإبداعية في الفنون التعبيرية عن الدراسات الجامعية العلمية أو الإنسانية.

جهوده في حركة التأليف والترجمة

لا تزال كتابات د. حسين فوزي الممتعة والشائقة في الموسيقى من أقيم ما نشر في هذا الميدان وهو بجانب ذلك لم يدخر وسعا ولا وقتا في سبيل مواجهة الآلاف من الصفحات والعشرات من الكتب العربية الموسيقية التي كانت المكتبة العربية أشد ما تكون افتقارا إليها، وكان بعض تلك الكتب يرتاد آفاقا جديدة تماما على لغتنا، مما جعل جهد مراجعة الترجمة فيها يتجاوز المراجعة اللغوية إلى صنع وابتكار المرادفات العربية المثلى لبعض تلك المصطلحات الجديدة على العربية، وكان بحسه الموسيقي واللغوي المرهف يجد أفضل الترجمات أو وسائل التعريب عادة، وتعتز كاتبة هذه السطور بمراجعاته البناءة لترجماتها لكتب في التاريخ والتحليل الموسيقي.

ولا ننسى إنجازه في الإشراف على إصدار "محيط الفنون" باللغة العربية ودقته في إسناد أبوابه وموضوعاته المختلفة في الموسيقى وفي الفنون الأخرى إلى كفاءات مشهود لها بالتمكن، وهذا ليس إلا بعض صنيعه الذي ينبغي أن تذكره له الأجيال القادمة والتي قدم لها هذا الكاتب والمفكر والفنان القدير إمكانات ما كانت لتتحقق على يدى كثيرين غيره بفضل مواهبه المتعددة وإخلاصه العميق لرسالته الفكرية والفنية والقومية.

أمنية أخيرة

وأنني لأحلم باليوم الذي يظهر فيه كتاب عرب لديهم الكفاءة والقدرة للترجمة لحياة شخصياتنا الثقافية والعلمية العربية، ترجمة علمية موثقة وإنسانية مضيئة لشخصياتهم وكفاحهم، بما يحفظ لهذه الشخصيات حقها ويسجل منجزاتها بأمانة وتجرد، ولا شك أن د. حسين فوزي سيكون من أبرز الشخصيات الجديرة بمثل هذه الكتابة البيوجرافية الحية الموثقة. وحينئذ ستدرك أجيال القراء العرب مدى عمق تأثيره في مسار الحياة الثقافية وتتفهم دوافعه وآراءه واتجاهاته بموضوعية، وتقترب من شخصيته، بكل ما تفيض به من إنسانية وعمق وحسن مرهف، وبساطة وقدرة على التواصل وامتداد وتفان ومضاء.