جمال العربية

جمال العربية

هل كانت أغنيات رامي لأم كلثوم
استنفادًا لشاعريته?

يكاد الإجماع ينعقد على أن الشاعر أحمد رامي لم يحتل المكانة اللائقة به في ديوان الشعر المصري العربي الحديث والمعاصر, وهي المكانة التي استحقها عن جدارة شعراء آخرون, عاصروه وزاملوه في رحلة الإبداع هم علي محمود طه وإبراهيم ناجي ومحمود حسن إسماعيل. والبعض يضيف إلى هؤلاء شعراء آخرين - معاصرين أيضًا لرامي - من طبقة صالح جودت وحسن كامل الصيرفي ومحمد عبدالمعطي الهمشري وصولاً إلى مختار الوكيل وأحمد مخيمر وعبدالرحمن الخميسي.

ولا يحتاج هذا الإجماع - في تبرير هذا التقييم لمكانة رامي الشعرية - إلى أكثر من ترديد مقولة ذائعة: (لقد استنفدت كتابة الأغاني شاعرية رامي, خاصة أغانيه لأم كلثوم: أول من شدا بشعره, حين تغنت بقصيدته:

الصبُّ تفضحه عيونه وتنمّ عن وجدٍ شئونه
إنا تكتّمنا الهوى والداءُ أقتلُه دفينه
يهتاجُنا نوْحُ الحمامِ وكم يُحرّكنا أنينه
ونحمّل القبلَ النسيمَ فهل يؤديها أمينُه


لقد عاد رامي من بعثته إلى فرنسا ليجد مطربة واعدة شابة تتغنى بقصيدته على غير معرفة سابقة, في عام 1924, وفتن رامي بالصوت الذي يشدو بكلماته, والروح التي يبثّها فيها وتتجلى في الإحساس والأداء. وغادر مسرح حديقة الأزبكية, وقد ملأه الافتتان والإعجاب إلى درجة النشوة الغامرة, وإن هي إلا أيام قليلة حتى كان تعبيره الشعري وتصويره لليلة التي أصبحت نقطة تحول فاصلة في شعره وفي حياته, من خلال قصيدته (إليها) التي يقول فيها:

كأنما لفظُكِ في شدْوهِ منحدرٌ من دمعي الطيّعِ
فيه صباباتي وفيه الضنى يشكو تباريح فؤادي معي
نظمْتُ أشعاري وغنّيْتِها منظومةَ الحبّاتِ من مدمعي
حسْبي من الشعر ومن نظمه صوتُكِ يسرى في مدى مسمعي


هكذا, يصرّح رامي - من غير مواربة - منذ عشرينيات القرن الماضي بأنه يكفيه من شعره أن تتغنى به أم كلثوم. هذا هو الثمن الذي يرضيه وهذه هي المكافأة التي لا يقنع بغيرها.

أما المجد الشعري ذاته, فلا يعنيه منه شيء!

الغريب أن رامي, وقد فاجأه أن أم كلثوم لم تتغنّ بقصيدته هذه, كما فعلت مع قصيدته الأولى, فهم الإشارة على أنها دعوة إلى الكتابة بالعامية, وهي اللغة التي سيبدع بها معظم أغانيه لأم كلثوم, والتي تشكّل نصف تراثها الغنائي الذي يزيد على خمسمائة أغنية. وخطا خطوته الأولى في الكتابة بالعامية, عندما كتب لأم كلثوم:

خايف يكون حبّك ليّه
شفقة عليّه
وأنت اللي في الدنيا ديّه
ضيّ عنيّه

وفي كل ما كتبه رامي - بالفصحى وبالعامية - هناك دائمًا - من وجهة نظر جمهور أغانيه الواسع العريض, والعاشقين لكلماته, والذين يعدونه أمير الأغنية في العصر الحديث كله - هناك الصور الرائعة, وبدائع المعاني والخواطر ودقائق الإحساس ونجاوى الأفئدة, والتغني بالجمال وذل الهوى وتباريح الوجد والذكريات, وهناك أيضًا الترجمة الدقيقة الصادقة عن مكنون العواطف وخلجات القلوب, والسبق الدائم إلى التجديد والابتكار والتلوين, والافتنان في انتقاء المفردات والأوزان ذات الإيقاعات الموسيقية المنسابة.

هؤلاء تستوقفهم كلمات رامي في بعض أغانيه:

كيف مرّت على هواكَ القلوبُ فتحيّرت من يكون الحبيبُ


وكلماته:

من كُتر شوقي سبقْت عُمري وشفْت بكره والوقت بدري


وقوله:

وكان هجري عشان أنساك وأودّع قلبك القاسي
لقيت روحي في عزّ جفاك بافكّر فيك وأنا ناسي


وقوله:

ياريتك حلم في جفوني أنام وألقاك وأعيش وياك
وآخر طيف أشوفه إنت يا ريتك فجر في عيوني
أنام وأصحى على فرحه وأول صورة أشوفها أنت


وقوله في أغنية (عوّدت عيني):

زرعْت في ضلّ ودادي غصْن الأمل وأنت رويته
وكلّ شيء في الدنيا دي وافق هواك أنا حبّيته
وان مرّ يوم من غير رؤياك ما ينحسبش من عُمري


تعمّدت أن آتي بهذه النماذج من (عامية) رامي المغناة, حتى يكتشف القرّاء أن المسافة بين فصحاه وعاميته لا تكاد تُذكر, وأن دارجة رامي - كما يفضل البعض أن يسمّيها - هي في جوهرها من حيث المفردات والتراكيب والخيال الشعري لا تختلف عن شعره الفصيح جمالاً وبيانًا وروعة تعبير.

وحين نشر ديوان رامي لأول مرة, متضمنًا - كما حمل غلاف الكتاب - (عصارةً مختارة من كل ما نظمه الشاعر زهاء خمسين عامًا, وهو ثلاثة كتب في كتاب واحد: القصائد, غرام الشعراء, الأغاني. ويتصف هذا الديوان بصدق التصوير وحسن التعبير, وفيه صورة لحياة شاعر رسمها نظمًا وأرسلها غناءً) عندما نشر الديوان, فوجئ جمهور رامي بأن الديوان صغير جدًا بالنظرة إلى شهرة صاحبه, وامتداد سنوات إبداعه. وكان هذا تأكيدًا للفكرة التي طرحتها من البداية, وهي استنفاد طاقة رامي الشعرية في الأغاني وفي غير الأغاني. فصالح جودت في تقديمه لديوان رامي يذكر لرامي أعمالاً مسرحية قدمها مسرح يوسف وهبي وفاطمة رشدي في زمن عزة المسرح تبلغ نحو خمس عشرة مسرحية مترجمة عن شكسبير, من بينها: هامْلت, ويوليوس قيصر, والعاصفة, وروميو وجولييت, والنسر الصغير.

كما يذكر صالح جودت سبب تسمية رامي بـ (شاعر الشباب), لأنه (كان ينشر شعره في أوليات لياليه بمجلة (الشباب) لصاحبها عبدالعزيز الصدر, الذي أطلق عليه لقب (شاعر الشباب) نسبة إلى المجلة.

ومن شعر رامي في أم كلثوم:

كرُمت دوحةٌ رعتّ أمّ كلثوم وجادت بظلها الفيْنانِ
فهي قُمريّةٌ تغنّت على الفرعِ ولمّا تهمَّ بالطيرانِ
ثم أَنّت ولم تكدْ تعرف الدمعَ متى فيضُه من الأجفانِ
واستوى ريشها فخفّت عن الأيْكِ وحامت على الرّبا والمغاني
تبعث الشّجوّ في النفوسِ وتُلقي سحْرَها في القلوبِ والآذان
رنّةُ العود شدْوها وصداها حنّةُ الناي أو أنينُ الكمانِ
خلقتْ آهةً, فكانت عزاءً من هموم الحياةِ والأحزانِ


وتعليقًا على مثل هذا الشعر الذي يملؤه ولاء رامي لأم كلثوم وعشقه لصوتها وافتنانها في تصوير شدوها وعمق تأثيرها شفاءً ورحمةً وغناءً ووترًا ولهاةً وصورة للمنطق العربي في أجلى مستوياته, وأسمى آفاقه بيانًا وجمالا, تعليقًا على هذا كلّه, يقول المتحمسون لصوت أم كلثوم, إنه لولا تغنيها بشعر رامي ما سمع به الناس, ولا تداول الناس اسمه على الصورة التي شاع بها وذاع, وإن رامي محظوظ بهذا الصوت الذهبي أو الألماسي الذي شدا بشعره فأوصله إلى كلّ الأسماع, بطريقة لم تُتح لغيره من شعراء زمانه أو غير زمانه. فأكثر من مائتين وخمسين أغنية من أغاني أم كلثوم أبدعها رامي بالفصحى وبالعاميّة, والعامية أكثر بالطبع. فكأنه نال من أم كلثوم وصوتها ما لم ينله شاعر آخر عكوفًا واهتمامًا وإيثارًا.

ثم يضيفون أنه لولا تغني أم كلثوم بشعر رامي ما نظر الناس إلى شعره في إعزاز ومحبة وتقدير. لقد استمعوا إلى كلماته ملحنة ومغناة. الألحان لكبار ملحنّي العصر, والغناء لمعجزة الغناء, فوصلتهم الكلمات محمولة على جناحين من أجنحة الفردوس, ولو أنهم قرأوها منشورة عاريةً من هذه الهالة النغمية الباذخة, لوجدوها من الشعر الوسط, المعبر عن أعماق هادئة لم يصهرها الحب بنيرانه, ولم تكتو باللوعة الحقيقية, وإنما هي أقرب إلى التعبير عن وجدان قاهري, يتنقل صاحبه بين صالونات زمانه ومجالسه, منتقيًا من كل بستان زهرة, ومن كل خاطرة لمحة.

القضية إذن في طرفيْها ظالمة لكليهما, ظالمة للشاعر وظالمة للشادية بكلماته. فأم كلثوم - بهذا المعنى - لم تجْن على رامي, ولم تحُلْ بينه وبين الانطلاق الشعري إلى آفاق أرحب وأغنى, وأعماق أبعد وأشدّ امتلاءً وتأثيرا. هو اختار هذا الطريق إلى الشعر, متعللاً بأن الأماني متنْ صغارًا في قلبه, فصار غناؤه بكاء وشجنًا اتسعت له أغنياته, يقول:

بنات الشعر ما ألهاك عني وماذا نفّر الأشعار مني
لقد عزّت على فكري القوافي وكنتُ بهنّ مُطّرد التغني
وكم في العين من دمعِ سخينٍ إذا أرسلْتُه رفّهتِ عني
وكيف تطيب في سمعي الأغاني وألحانُ الأسى يملأنَ أُذْني
دعيني يا بناتِ الشعر أبكي على ما نالت الأيامُ مني
أمانٍ متْن في قلبي صغارًا كما ذوت الكمائمُ فوق غُصْنِ
وزرع طاب لم أقطف جناهُ وكم بذرت يداي ولستُ أجني
فكوني يا بنات الشعر أهلي وأشياعي لدى البلوى وركني
وغني من أساكِ وألهميني فبيْنكِ في الهوى عهدٌ وبيني
أراكِ بخاطري وأودّ أني أراكِ بناظريَّ وأن تريْني


لقد تفجرت شاعرية رامي في مستهل عشرينيات القرن الماضي, واكتملت وبلغت أوْجها في ثلاثينياته وأربعينياته, أي في الوقت الذي أصبح فيه شعر إبراهيم ناجي وعلي محمود طه ومحمود حسن إسماعيل يحمل سمة العصر وذوقه وبلاغته, وشاءت الأقدار أن يمتد العمر برامي بعد رحيل رفيقيه علي محمود طه وناجي عقودًا من الزمان. فقد رحل أولهما في عام 1949 وثانيهما في عام 1953. وأتيح لرامي - الذي أشرف على نشر شعر ناجي بعد رحيله - اقتراب أكثر من عالم هذين الشاعرين الكبيرين. فتسللت أنفاس من شعرهما إلى شعره واندسّت في ثناياه, فضلاً عن التشابه في المعجم الشعري, والافتنان في تنويع الإيقاعات والقوافي الشعرية. وأتيح لرامي مدى أطول وأرحب لاستثمار علاقته الشعرية بهذين المبدعين الكبيرين. أما محمود حسن إسماعيل الذي لم يكن وجدانه الشعري قاهريًا على طريقة رامي, فإن شعره لم يشجع رامي على الاقتراب منه, فقد رأى كل منهما في الآخر عالمًا مختلفًا, ولغة مغايرة, ومذاقًا بعيدًا كل البعد لا يغرى بارتشاف متبادل. وفي بعض استهلالات رامي ما يذكّرنا بعلي محمود طه, وفي بعض انكساراته الإنسانية - وجدانًا وتحْنانا - ما يذكرنا بضعف ناجي في قصائده العاطفية المتشحة بالأسى والشجن. لكن شهرة رامي وذيوع صيته جعلت له - عند جماهير المستمعين والمتابعين للغناء - مكانة أسبق, ومنزلة أكثر تقدمًا ووجهًا أكثر قبولا.

لقد طيّرت أم كلثوم ذكر رامي ونشرته على كل الأسماع, وكان رامي بدوره ركنًا ركينًا في الصرح الشاهق المسمى أم كلثوم, فهل جنى أحدهما على الآخر كما يُروّج البعض - أم أنهما معًا في حقيقة الأمر وجهان لحقيقة فنية واحدة مكتملة, لا يفترقان أبدًا, ولا يتباعدان?.

 

فاروق شوشة