إلي أن نلتقي

إلى أن نلتقي

لبنان بلدي

وُهب للبنان في تاريخه الحديث معجبون, بل عشّاق كثيرون سحرتهم شخصيته وتجربة الحرية والحداثة فيه, واعتبروه أحد رياحين هذه الدنيا.

ولاشك أنه كان لازدهار الحياة الاجتماعية في لبنان علاقة بكل الصفات الحسنة التي التصقت بلبنان. فقد قال لي مرة سفير أوربي عمل في لبنان, هو في الأساس مستعرب, إنه مثّل بلاده في عواصم مختلفة, ولكن بيروت شيء آخر, ففي بيروت يمكن للأجنبي الذي يمضي السهرة في مكان عام, أن يتعرف إلى جيرانه الذين يجلسون على الطاولات القريبة منه, وأن يلبي دعوتهم له لتمضية بقية السهرة في منازلهم. فبيروت إذن ليست مجرد مكان جميل, وإنما هي أيضًا قلب وإنسان.

وقد بدا لبنان في تجربته الديمقراطية الحديثة ابنًا سويًا لأفكار عصر النهضة, التي دعت إلى مقابسة العصر ومواكبة طموحاته. وفي مدارسه الجبلية القديمة, ومنها مدارس ما اشتهر بـ(تحت السنديانة), إذ كان التعليم فيها يتم في الهواء الطلق, وتحت أشجار سنديان دهرية, وجدت اللغة العربية ملاذًا آمنًا, ولدرجة القول إن اللبنانيين حموها من البلى والعامية والتتريك, وأبقوا على جذوة الحياة فيها.

ويمكن للمرء أن يسرد عناوين عشرات, بل مئات القواميس والمعاجم وكتب الصرف والنحو, التي أنشأها اللبنانيون منذ بداية عصر النهضة إلى اليوم. وإلى اليوم لا يفارق سمعي صوت الدكتور إبراهيم مدكور الأمين العام لمجمع اللغة العربية بمصر وهو يقول بصوت مرتفع: ليتحدث كل الناس عن العامية والمحكية, إلا أنتم اللبنانيون. فلكم في اللغة العربية تاريخ مشرّف لم يكتبه أي شعب عربي آخر.

وكانت جبال لبنان ملاذ الأحرار في كل مكان, كما كانت ملاذ الرؤية الصافية. فقد ذكر لي مرة الشاعر القروي رشيد سليم الخوري المعروف بنزعته العروبية أن هذه الجبال تمنحه الرحابة والثقة والنظر إلى العروبة نظرة أكثر صفاءً وإشراقًا.

ولأن اللبناني كثيرًا ما نزع إلى الغلوّ في التغنّي ببلده, فقد عملت بعض النخب اللبنانية على كبح هذا الغلو, من هؤلاء نبيه أمين فارس رئيس قسم التاريخ في جامعة بيروت العربية الذي كتب مرة مسفهًا نظرية (لبنان بلد الإشعاع), ومعتبرًا أنه لم يكن للبنان من دور ثقافي في التاريخ إلا دوره العظيم في عصر النهضة الحديث. فلا فينيقيا كانت لبنانية, ولا كانت فلسفة وثقافة.

وعلى الرغم من كل ما قام به لبنان, وبخاصة في فترة الانتداب الفرنسي, من دعوات إلى حضارة البحر الأبيض المتوسط, وإلى كون لبنان ثنائي اللغة باستمرار, وإلى أنه ذو وجه متطلع إلى البحر لا إلى الصحراء, وإلى أن عمره الحضاري ستة آلاف سنة, وبذلك يكون أقدم حضاريًا من جيرانه, فإن هذه الدعوات الفاسدة سرعان ما انهارت لصالح العقل والحقيقة, أي لصالح لبنان ذي وجه عربي وتاريخ عربي ومصير عربي, ولكن كبلد وهبته ظروفه, ووهبه التاريخ والجغرافيا, دورًا طليعيًا في حوار المنطقة مع الحضارة الحديثة. وقد لخص البابا الراحل يوحنا بولس الثاني لبنان أفضل تلخيص عندما قال عنه إنه أكثر من بلد, إنه رسالة!

 

جهاد فاضل