على مشارف النوم أحمد عمر شاهين

على مشارف النوم

قصة للكاتب الفرنسي: جيه. أم. لوكلوزيو

قبل أن أغلق عيني، تفحصت الغرفة جيدًا، الجدران الأربعة، الباب والنافذتين، وألقيت نظرةً على المصباح الكهربي المدلى بسلك في وسط السقف، وعلى ورق الحائط الرمادي، والأشياء التي يلفها الظلام : الطاولة، وقريبًا منها صورة جانبية مشئومة تبدو كمنقار مفتوح على ضحكة ساخرة، الكرسي، ولا شك أن ملابسي هي المكومة عليه. الضوء يتسرب في خطوط من مصراعي النافذة المغلقين، أضواء السيارات ترسم هالات متحركة على السقف، رأيت كل ذلك، ثم أغلقت عيني.

عيناي مغلقتان، خيوط بيضاء تنطبع عليهما، تبحر على الشبكية، خطوط متسللة من المصراعين، وركن السقف، وكتلة الطاولة، والصورة الجانبية المزعجة، والسلك الكهربي بالمصباح المتدلي من طرفه.

أسمع ضجة العربات تعبر الغرفة، تنزلق وهي تدور حول المنحنى أسفل المنزل، زمجرة محركاتها تقترب، تمر بالمنزل، ثم تختفي تدريجيا مختلطة مع أصوات أخرى.

كل شيء مربع على شبكية العينين.

ويسود الصمت في لحظات معينةً، آنذاك يمكنك أن تصغى إلى خرير ماء يندفع من خلال غطاء فتحة طوال الوقت، وموسيقى تسمع بخفوت من بار أسفل البناية، كعب حذاء امرأة "يطرقع" على الرصيف بسرعة.

وأرى على لوحة بإطار أبيض، ربما منبعثة من ذاكرتي عن الغرفة المكعبة الشكل، ما يشبه القطيع من السمك الصغير الأحمر والأزرق، يسبح بسرعة، ويتلوى، بأعداد لا يمكن حصرها. أشكال غامضة مغبشة، تتحرك من الجانب البعيد في فراغ بني، من الممكن اعتبارها أشكالًا آدميةً. ساعتي على الكوميدينو بجانب السرير، تقرع فراغ الغرفة بانتظام، فجأةً يرتفع الصوت، يغلظ، يتمدد، يتسارع، يتباطأ ثانية، يصبح حادا يدق بكآبة، يصر يزحف، يتكون له صدى.. من الذي قال إن صوت الساعة رتيب دائمًا!

رائحة أعقاب السجائر المسحوقة في المنفضة، لا بد أنها على الكوميدينو بجانب السرير، لاذعة، تمرضني، أشعر وكأن حلقي مملوء برماد السجائر. ضجة أخرى ناتجة عن ضخ الدم في العروق، أسمعها في طبلة أذني المضغوطة على المخدة.

عرق دموي أحمر يتمدد في عيني، عنقود من النقاط البرتقالية ينتشر فوق كل شيء وينسحب إلى أسفل، أحاول أن أتفحصه، وألاحقه، لكنه ينحل فورًا ليحل مكانه عناقيد مختلفة ملونة تشبه الجبال.

دراجة نارية تقترب من بعيد، من الطرف الآخر للمدينة، أسمعها تقترب، تعبر مفترق طرق، تغير السرعة، ينقطع صوتها فجأةً، ربما استدارت وراء بناية. أتذوق طعمًا غريبًا لمعجون أسنان في فمي، أود أن أبصق.

أفكار مشوشة تتكون في ذهني، كما لو أنها قادمةٌ من الجزء الخلفي للجمجمة، أفكار متراكمة، تحوم حولها الكلمات، ولا تستطيع كلمةٌ أن تمسك بفكرة، وأن تبني لها عشا، ليست أفكارًا، إنها رغبات، والغريب أن هناك صورًا تسير موازية لها، لكنها لا تندمج أبدًا،، الأفكار قطار يجري يستلقي يرتفع، والصور رجل يرتدي قبعةً، وصراع بالسكاكين، صاروخ وتمساح، حلبة مصارعة ووجه ضاحك وهناك أشياء أخرى أيضًا، شذرات من مقدمات جمل، كلمات ترن بوضوح، مسموعة تمامًا، وفوق كل ذلك، هناك صوت ما يروي قصةً ويقول : لنفترض أن كل شيء على ما يرام، بعد ذلك تقطع الطريق كله ثانية، لا، ليس كذلك، إرجع من حيث بدأت، استدر عند أول انحناءة على اليمين، واستمر في سيرك حتى تصل الكنيسة، وحين ترى القبة، عليك أن تتجه يسارًا. ثم لم أعد أسمع أو أرى أو أحس بشيء، فقد عاد وعي الزمان، وتفسخ البناء كله، الصوت فوق الكلمات، والصور تتدافع قبل أن تنتهي الرغبات، وتظل فترةٌ أطول بعد اختفائها.

إنه الوعي الذي يضع حدا لكل شيء، يحددني على السرير، يحملني على جناحه ويلقي بي على المخدة، ويحول كل شيء إلى نوع من الذاكرة.

خطر التبعثر حاضر كل الوقت، يبدو لي أن كل شيء في ذهني يتناثر، وإني أتحلل إلى فراغ، عند ذلك، وبقوة ثابتة، يسند ذهني نفسه، ويعود الانسجام، وتصبح الأفكار مفهومة ثانية. الصور والكلمات وشذرات الجمل، كلها تبدو كنموذج الذرات الممغنطة، تتجمع حول خطوط النبض، تخدم وتتحدث وتتركب طوال الوقت.

أحيانًا، أحاصر في جيوب الفراغ، أبدأ في التقلب فوق الفراش، جسمي خفيف ومملوء بحيوية متصاعدة، حتى أني أتوقف عن الحياة كجسد، أصبح شفافًا، أتلكأ صاعدًا في الفراغ كسحابة من دخان، لا امتلك عظامًا أو لحمًا، أتبخر في الهواء، يحيطني غشاء شفاف ولا شيء يوقفني.

لا أدري إذا كنت أصعد أو أهبط، لا شيء يتصارع داخلي، توقف ضخ الدم، ولم تعد الأعصاب تؤازرني، ويتقلص الغضروف ويزول من موقعه، وأتخلص أخيرًا من الحاجة إلى الصراع والنمو والتمدد بيأس تجاه السماء، ويقهر السجن الأنقى وينتهي. كل شيء في الذهن يتحرر، أطنان من الحركات تصعد وتنزل وتستعرض نفسها حولي، وتبدو الأفكار وكأنها تنتشر خارجي، تنبثق من الأنف والأذنين، تعمل في الفضاء لتهيئ فراشًا لي. الرغبات تتتابع في كرات، ليست بعيدة عني، وفي أعماق كهف كبير مظلم يرتجف نبض، ينعزل عني ويمكنني رؤيته. أستطيع أن ألمس كلماتي ورؤاي، وأنا، أو ما يسمى أنا، أصبح لا شيء. فرغت واسترحت، ورأسي الضخم يفارقني، وعدت حرا، لم يعد لي اسم، لم أعد أتكلم لغةً، أنا لا شيء سوى العدم، أنتمي إلى حياة هي حياة الموت، أجسد جلال المغادرة، نسمة، لم يعد لي فكرة، روحي شيء، أستلقى كما لو أني في مقبرة.

يفترق جفناي لعشر الثانية، الظلام الكثيف الآن يتحول إلى زفة من الأضواء الباهرة، تدخل ظلامي وتضرب كل شيء كومضة البرق، صورة بللورية ثلجية وحيدة، قفزت للاختباء في أعمق أعماقي، صورة نقية واضحة قاسية، رقيقة التصميم كجناح خفاش، خطوطها كخيوط بيت العنكبوت، تظل هناك ثابتة، شمس حقيقي، قرص ضخم يسد الأفق. إنها غرفتي، أعرفها بأثاثها العاري، بجدرانها وسقفها، والمصباح الكهربي يتدلى وسط الصورة، لكنه ليس مصدر النور، ليس هو الذي يضئ المكان بهذه الطريقة، فالشمس نفسها لا تعطي مثل هذا الضوء حتى في أغسطس، لا مصباح ولا مجمرةً ولا أضعاف أضعاف نورهما معكوسًا عشرات المرات بمئات المرايا والعدسات، ولا نار تتفجر كبركان من قلب الظلام، يمكن أن تقدم مثل هذا النور الأبيض الثابت. ضوء غير محتمل، ينتشر في كل الأرجاء، يتلكأ، يرقص، ينبثق، يتحلل، يحترق، ويتكسر، يأكل بؤبؤ العين، ويبدو الألم هائلًا تحت ضرباته واندفاعه المتواصل، يتلاحق ويتلاحم ليكون حائطًا ضخمًا مرعبًا، ويخترقني الضوء بضربة فأسقط وأضغط وجهي على الأرض، جسمي كله يهتز، ودفقات الضوء تدخلني كنوع من نفحات موسيقيةٌ، يرفعني، ويبني داخل لحمي بناءه الفخم المجرد، وكل ضربة منها وكل وخزة للأعصاب، جوهرة، عمل فني، فكرة متناغمة.

ثم يموت الضوء، يتلاشى بالتدريج يتحول من الأبيض إلى الأصفر، ومن الأصفر إلى النحاسي ثم القرمزي فالأرجواني فالأزرق وأخيرًا الأسود. وحين لا يبقى شيءٌ من الصورة، تتصاعد أشكالٌ أخرى، أعناق جياد، بقع سوداء تتسكع بشكل مبهم، وتتلوى في سيرها. وبينما قوة عسيرة على الوصف، تمتلك كل ما هو رقيق وحساسٌ في رأسي، وتقبض بثبات على النسيج العصبي، يتمطى في أعماقي شكل خارق لجسد رجل عجوز، نحيف كنسر على شعار النبالة، كله عنق طويل، ينتصب في أعلاه رأس مدبب حاد يسخر مني بخسة. الرأس والعنق متحركان، ينظران إلى أعلى، يرتفعان ببطء فوق الجسد النحيل. أحملق بشدة، ففي هذه المنطقة البعيدة حيث جزء من نفسي يعاني في قبضة مجهولة، فإن النظرة العميقة تنعكس وترجع إلي بشكل متواصل. الوعي يلتف حول نفسه ثانية، يذهب ويرجع ويترابط، وأشعر أني، حقيقة، قد ضعت. دخلت جسد الرجل العجوز، وبينما العنق والرأس يستمران في الصعود، ينفرد جناحان عملاقان ببطء. ومرة ثانية، أصارع شخصًا ما، وبسرعة طرح المنظر نفسه حول ساحة النزاع لسبب لا أدريه، جبال وجداول وغابات، وشمس تسطع في السماء، وعلى البعد، عند مدخل الحلق، وفي كل اتجاه، رمل وحجارة وصحراء جدباء. أكافح، أضرب وأتقافز، وفي الوقت نفسه أسمع صوتًا آخر يصف المعركة بلا كلمات.

ويرقد كل شيء ثانية، ترتبك المناظر، ويبدو لي أن الاشياء تهتز بعنف داخل عيني المتكورة في الجانب العلوي، كما يحدث في الأجراس الصغيرة. وأنتظر.

فقدت أكوامًا من الصور، تنطلق بسرعة قصوى وتبتعد عني، تولد فورًا، آلاف الأحاسيس تفقس في الوقت نفسه، بالضبط في اللحظة نفسها، ألف لغة، كلها تخبرني بشيء ما، بماذا أخبرتني هذه اللغات التي سحرتني، ونسيتها في التو واللحظة؟ والصفحات المكتوبة، رأيت صفحات مكتوبةً، قرأتها ووجدتها جميلة جدا، ماذا كان بها؟ ما هذه القصص العميقة متعددة الأبعاد ؟

ما هذه التراتيل القدسية بألفاظها الطنانة؟ أحقا كانت هناك كلماتٌ مكتوبةٌ أم نقط متتابعة من العلامات التي لا معنًى لها، أيقظت الذاكرة الجمالية في الذهن ؟

أنا أعاني، فالوهم شيطاني، أتألم في أعمق أعماقي، وأحيان، معجزة على شكل صورة أو صوت أو عبارات تنطلق من خليط مشوش، تنعش ما كان ميتًا ومنسيا بالفعل. عشت خلال ذلك كله، هذه المكعبات من الضوء، وهذا التتابع من الدوائر، هذه النيران، وهذه الأجساد النسوية التي تتمرغ على الأرض ولم أعرفها.

الوعي الذي يوقظ صدفةً، فجأةً يعيد إلى الوقت بشكل معكوس. الصور تأتي متزاحمةً متراجعةً، ترعد لفترة وجيزة بنظام معين، أراها، ولكنها تنتمي إلى الماضي، ففي هذا الفراغ المغلق، الإحساس بالحياة معكوس، لا توجد حقيقة ولا اتجاه، الزمان والمكان مجرد صدى، صدى أيدي حاضر دائمًا، منزوع من الفوضى المتزامنة، لا يمسه التحلل قط، وأنا الذي كمن أغمد في مجال معزول، أسبح وسط عناصر الفكر والخيال، تعود الصور لتخترقني بلا ملل أو تعب، على شكل دائرة بلا بداية ولا نهايةً ولا حركةً، ومع ذلك تتحرك، فهي وقود الحركة المسكر، الحركة غير المفهومة للولب لا نهائي يدلني على الخلود.

وأنا، في سريري، عيناي مغلقتان، أنتظر النوم وأعيش في عالم مشابه لذلك الذي على الورق فوق مكتبي، التواريخ ملقاة هناك: 1864 - 1964، 13أبريل 1940، 5687، ايفان الرهيب حـ 1 وح 2، (1943 - 1945)، فيلم لأيزنشتاين، الأسماء مكتوبة، الرسوم مخططة، الأماكن محددة على الخرائط، أسماء وأسماء، الأسماء الموجودة خالدة، مقاطع شجية تحدد هذه الأماكن من الأرض والصخر هذه الأشجار، هذه الأكوام من المواد الراسخة، لا شيء من كل ذلك يسمعن، حيوات الرجال ستعود بشكل متواصل لتسكننا كالأشباح، كل الأشياء ستظل تخلق نفسها وتتجمع ثانية، سيتساوى الصمت والضوضاء، وستبقى الزهور والحشرات، فهنا كل شيء معلق في دوامة سائلة، حركتها مليئة بالجنون.

لن ننسى، وحتى لو نسينا، فإن كل هذه الأشياء ستظل حاضرة إلى الأبد، لأنها وجدت حتى قبل أن تستدعى للوجود، تلك هي القوة الدائمة التي لا تمتلكها أية لغة، ولم يستطع إنسانٌ أن يخترعها، الدوام الأبدي، الدوام الأبدي الحلو العفيف للوجود.

أمامي الآن، حانة أفقية، بعشرات من المراوح الدوارة، تتوقف عن العمل حين أريد، لكن تظل هناك دائمًا مروحةٌ تدور برغم إرادتي. حين أتمكن من إيقافها جميعًا دون استثناء، آنذاك قد أجد الهدوء والنوم.

 

أحمد عمر شاهين

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات