التعليم والدخل: علاقة منسيّة.. د. سليمان إبراهيم العسكري

التعليم والدخل: علاقة منسيّة.. د. سليمان إبراهيم العسكري

  • لا يمكن إقامة اقتصاد متطور من دون العمل على تطوير نظام التعليم
  • تتحول فرص العمل من الصناعات الضخمة التي كانت رمزًا للقوة إلى منتجات تعتمد على تكنولوجيا المعلومات
  • مشكلة قصور التعليم في الولايات المتحدة أن دراسة الرياضيات لطلبتها أقل من المستوى الدولي

مثل أشياء كثيرة في عالمنا العربي، تبدو قضية التعليم كأنها منفصلة عن أي أهداف أو خطط للحاضر والمستقبل، كأننا نعلّم أولادنا لمجرد التعليم، ومن ثم نترك العملية التعليمية تسير كأنما بالدفع الذاتي، ولغايات تجميلية أو مظهرية.

إن قضية التعليم في المجتمعات التي تنظر إلى أبعد من ظل أقدامها تثير نقاشات محتدمة، ويتم ربطها بمخرجات عملية تخص مستقبل الأفراد والمجتمع والأمة، لهذا يضعونها على قمة مشاغلهم، وينظرون إليها من زوايا غير مألوفة لنا، لكنها زوايا عملية ذات شأن خطير لدى الأفراد والمجتمعات على السواء.

الولايات المتحدة يؤرقها مأزق اقتصادي خطير يهدد النسيج الاجتماعي وتماسك الأمة وتجانسها، وقوتها الاقتصادية ومكانتها في العالم، وهذا المأزق سببه انحدار مستوى التعليم في المدارس، خاصة المرحلة الابتدائية! هذا الكلام يبدو لنا غريبًا إذ يربط بين نشاط «بسيط» في رأي معظمنا، وأمور «استراتيجية» خطيرة تخص القطب الأقوى والأوحد في العالم، سواء بميزان القوة العسكرية أو القوة الاقتصادية أو مجال النفوذ الواسع على مستوى كوكب الأرض، بل كواكب أخرى!

وهي حقيقة قد لا نستسيغها، لكننا لا نستطيع نفيها. فكيف يهدد التعليم في المدارس كيانًا كهذا، ومَن يقول بذلك؟

ليس القائل أحد المعادين للسياسة الأمريكية، ولا خصمًا يريد تشويه صورتها، بل هو أحد رءوس التفكير الأمريكي، وفي مجال مركزي يخص القوة والنفوذ الأمريكيين، أي مجال المال، إنه آلان جرينسبان رئيس مجلس إدارة بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي على امتداد عقدين من الزمان، وخلال فترة رئاسة أربعة رؤساء أمريكيين، ثلاثة منهم من الحزب الجمهوري وأحدهم من الحزب الديمقراطي، وهم ريجان وبوش الأب وكلينتون وبوش الابن. أي أنه مناط اتفاق الفريقين السياسيين الأهم في الولايات المتحدة، فهو معبر عن العامل المشترك في الذهن السياسي والاقتصادي الأمريكي، وليس غريبًا أن يكتب عنه الصحفي الأمريكي الشهير «بوب وودوارد» كتابًا حقق مرتبة الكتب الأكثر مبيعًا تحت عنوان «المايسترو»، مما يشير إلى موقع الرجل في «أوركسترا» الإدارة الأمريكية، كعقل مالي محرّك في العقل المنظم للاقتصاد الأمريكي، أي بنك الاحتياطي الفيدرالي للولايات المتحدة كلها. ولنتعقب رؤية هذا «المايسترو» خطوة خطوة...

صناعات زائلة ودخول متباينة

جرينسبان في كتابه المشار إليه في حديث الشهر الماضي والمعنون «عصر الاضطراب»، يرصد نشوء فجوة خطرة بين مستوى دخول العاملين في فعاليات الاقتصاد الأمريكي، فيقول: «في العقد المنصرم كنت أتابع متوسط الأجور والرواتب في الساعة بالنسبة إلى أربعة أخماس قوتنا العاملة غير الزراعية الذين هم عمال إنتاجيون أو غير إشرافيين مقابل الخمس الذين هم عاملون «إشرافيون» بمن في ذلك المهنيون والمديرون المهرة. وفي ربيع عام 7002 كانت رواتب القوة العاملة الإشرافية 95 دولارًا في الساعة، مقابل 71 دولارًا للعاملين غير الإشرافيين. ويعني هذا أن خمس إجمالي عدد الأمريكيين الموظفين يكسبون 64 في المائة من إجمالي الأجور والرواتب. وفي عام 7991 كانت النسبة 14 في المائة. وظلت الزيادة مستمرة على امتداد العقد تقريبًا. ويزيد متوسط المكاسب في الساعة بالنسبة إلى العمال الإنتاجيين بنسبة 4.3 في المائة سنويًا، بينما زاد متوسط المكاسب في الساعة بالنسبة إلى العمال الإشرافيين بنسبة 6.5 في المائة».

هذه الفجوة في الأجور، الآخذة في الاتساع، التي يبدي «المايسترو» قلقه تجاهها، لها أسباب حاول جرينسبان تعقّبها، فيرى أن فرص العمل التي كانت مرتفعة في صناعات الصلب والسيارات والمنسوجات والكيماويات - وهي رموز القوة السابقة لأمريكا - لم تعد كما كانت، فمستهلكو القرن الحادي والعشرين صاروا أقل ميلاً لمنتجات تلك الصناعات من آبائهم، وبناء عليه فقد هبط مستوى التوظيف في تلك الصناعات هبوطًا حادًا عن ذروته في الخمسينيات والستينيات، والمرجح استمرار هبوطه، خاصة أن فرص العمل تتحول من المجالات السابقة إلى مجالات أحدث في أجهزة الكمبيوتر والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، مما يعد إضافة إلى مستويات المعيشة الأمريكية وليس انتقاصًا منها. فمستهلكو العالم ينجذبون على نحو متزايد إلى منتجات تجسّد الأفكار الجديدة، فهم يفضلون الهواتف الخليوية على الدراجات - كما يرى جرينسبان - ويرى أيضًا أن التجارة العالمية صارت تمكّن الأمريكيين من الوصول إلى مجموعة كاملة من المنتجات من دون أن يتطلب منهم تصنيعها كلها محليًا! ولعله كان يشير في ذلك إلى الصناعات «الخشنة» أو حتى «غير النظيفة» التي يجري تهجيرها إلى العالم الثالث، سواء لكونها ملوثة للبيئة، أو لأن إنتاجها يكون أرخص، وأرباحها أكثر إذا تمت بعمالة رخيصة في الدول الفقيرة وبشروط أكثر تسامحًا مع التلوث والأخطار الصحية!

إذن سوق العمل الأمريكية تتغير، نحو صناعات أكثر تطورًا وأقل تلويثًا ومخاطر، فثمة اقتصاد جديد قائم على التكنولوجيا الفائقة، وهذا الاقتصاد له سوق تنافسية عالمية تنهض على وسائل جديدة على قدر كبير من كثافة التكنولوجيا المتقدمة، وبالتالي أكثر إنتاجية في تحقيق إجمالي الناتج القومي. ولأن الكعكة الاقتصادية أصبحت أكثر حجمًا، ازدادت مكافآت رأس المال، وبما أن العولمة زادت علاوة أجور العمال المهرة، صار التجديد التكنولوجي مهددًا قوى العمل الأقل مهارة، وشهدت أمريكا خللاً بين العرض والطلب على العمال المهرة، وصارت شكوى المديرين الأمريكيين من نقص العمال المهرة شكوى مستمرة، لهذا يبدون الاستعداد لعرض زيادة حزم الأجور للحصول على هؤلاء المهرة، ومن ثم تتسع الفجوة في الأجور، إضافة إلى مشكلات تابعة يسببها هذا التوجه الحتمي للإنتاج الاقتصادي «فائق التقنية». ومن هذه المشكلات الاضطرار لجذب العمال المهرة من الخارج بكل ما يترتب على ذلك من تبعات اقتصادية واجتماعية وسياسية.

أسباب المأزق

هذا المأزق دخلت فيه الولايات المتحدة بسبب القصور في التعليم الابتدائي والثانوي كما يرى «آلان جرينسبان»، فقد كشفت دراسة أجرتها كلية لنش للتعليم في بوسطن عام 5991 أنه على الرغم من أن الطلبة الأمريكيين في الصف الرابع يحتلون المرتبة فوق المتوسطة على مقياس المقارنة الدولية في كل من الرياضيات والعلوم، إلا أنهم مع وصولهم إلى سنتهم الأخيرة بالمدرسة الثانوية، كانوا قد هبطوا إلى ما دون المتوسط الدولي بكثير، بينما تشمل الدول التي في المقدمة سنغافورة وهونج كونج والسويد وهولندا. وأشارت دراسات المتابعة في 9991و3002 إلى أن هناك تحسنًا نسبيًا أمريكيًا متواضعًا، وفقاً لمقارنة مع مدارس هذه الدول. وعن ذلك يقول جرينسبان: «هذه الكارثة التعليمية لا يمكن تعليقها على نوعية أطفالنا، فقد كان طلبتنا في مستوى متوسط أو أعلى من المتوسط في سن التاسعة أو العاشرة، فماذا نفعل لهم في السنوات السبع إلى الثماني التالية، بحيث تكون اختباراتهم سيئة مقارنة بأقرانهم في البلدان الأخرى؟ وما الذي تفعله العملية التعليمية الخاصة بهم، التي تقتضي من مستقطبي العمال المهرة في الأعمال التجارية استبعاد أعداد كبيرة من المتقدمين «المتعلمين» للحصول على وظائف متوسطة المهارة، لأنه لا يمكنهم كتابة جمل مترابطة أو جمع عمود من الأرقام بدقة؟

ليس مستغربًا أنه نتيجة لذلك يهبط مستوى طلابنا على نحو منخفض جدًا من المهارة عند تخرجهم، مما يزيد المعروض من العمالة الأقل مهارة في مواجهة الطلب المتناقص بشكل واضح».

هذا المأزق، والمتفاقم على قاعدة تدهور التعليم الابتدائي والثانوي، لم تتوقف حدوده عند نقص العاملين المهرة من الأمريكيين في اقتصاد يتوجه نحو مسار «التقنيات الفائقة»، لكنه - وهذا هو المستغرب - يؤدي أيضًا إلى نقص الطلاب اللائقين للدراسة الجادة في الجامعات الأمريكية التي حافظت على مستواها العالمي المرتفع، ومن ثم لا يكون أمام هذه الجامعات إلا فتح أبوابها للطلاب الأجانب اللائقين للدراسة في هكذا جامعات نتيجة تأهيلهم الجيد في مدارس غير المدارس الابتدائية والثانوية في الولايات المتحدة!

سؤال الشرط .. وجوابه

يرى «المايسترو» أنه يجب حل نقص المهارات بإصلاح التعليم، لكن هذا سوف يستغرق سنوات، بينما العالم يتحرك بسرعة لا تحتمل التلكؤ السياسي والبيروقراطي، لهذا يقترح فتح الولايات المتحدة أبوابها أمام التجمع العالمي المتزايد من العمال المهرة، لضمان الحفاظ على المخزون الرأسمالي الأمريكي في عالم الاقتصاد العالمي التنافسي، لكن سياسة فتح أبواب الهجرة تواجه قضية أصعب تتعلق برغبة السكان في الحفاظ على الأصول الثقافية، التي تربط المجتمع بعضه بعضاً، وتعزز التبادل الطوعي للمزايا المشتركة. فهل من حل لهذه المعضلة؟ يجيب جرينسبان بما يشبه الإجابة عن سؤال الشرط قائلاً: «إذا كان لابد لنا من الاستمرار في منافسة العالم وتحسين مستوى معيشتنا، فسوف يتعين علينا إما تحسين تعليمنا الابتدائي والثانوي على نحو ملحوظ أو التقليل من الحواجز التي تقف في سبيل المهاجرين المهرة. والواقع أن تنفيذ كلا الأمرين سوف يخلق فوائد اقتصادية مهمة. فالسياسة العامة مجموعة من الاختيارات، ويمكننا بناء أسوار عازلة حول الولايات المتحدة لمنع دخول السلع والخدمات والأشخاص الذين ينافسون منتجينا وعمالنا المحليين، وسوف تكون النتيجة فقدان شرارة التنافسية، مما يؤدي إلى اقتصاد راكد مصاب بالوهن، وسوف ينخفض مستوى معيشتنا ويعتمل السخط المجتمعي ويتزايد.

البديل لذلك هو الدخول في منافسة مع عالم التكنولوجيا الفائقة الذي يزداد تنافسًا، ومعالجة نظامنا المدرسي المحلي في توفير مستوى من العاملين المهرة الذين اكتسبوا المهارات حديثًا للحد من الزيادة المزعجة فيتفاوت الدخل، وفتح حدودنا بصورة أكبر أمام تجمع العاملين المهرة المتنامي في العالم».

وأين نحن من هذا كله؟

لقد آثرت أن أعرض لهذه القضية من زاوية نظر رجل اقتصاد تهمه مصالح بلاده، ويؤرقه وجود فجوة تفاوت أجور «مزعجة» بين العاملين الأمريكيين، وهو يرجع هذه الفجوة لهبوط مستوى التعليم الأمريكي في المدارس الابتدائية والثانوية. وفي أفق التوجه نحو اقتصاد متطور يقوم على التقنيات الفائقة، نرى الرجل يصرخ بضرورة تطوير التعليم في المدارس الأمريكية، وفتح الأبواب أمام العاملين المهرة المتعلمين جيدًا في مدارس خارج الولايات المتحدة.

إنها صورة تجعلنا نلتفت إلى أحوال مدارسنا، وأحوال التعليم العربي عمومًا، بما يشبه الأسى العميق. فلا شك أن التعليم العربي يعاني خللاً وتراجعًا كبيرين إلى حد يشعرنا بأننا نسير في نفق طويل مظلم، فلا نحن - في المحصلة العامة - نخرج متعلمين جيدي التعليم يلتحقون بفئة العاملين المهرة، فضلاً عن تخلفنا وتخلف تعليمنا عن الالتحاق القريب - بما هو عليه - باقتصاد التقنيات الفائقة التي لا نملكها أيضًا. فلا هذا التعليم - بما هو عليه ونعرفه جميعًا - يقدم لنا أجيالاً من العاملين ينهضون بمجتمعاتنا، ولا نستطيع المنافسة حتى في تصدير العاملين المهرة الذين يقوم عليهم اقتصاد تنافسي عالمي شرس.

كلنا يعرف أن سياسات التعليم العربي لا تربط المحتوى التعليمي بالاحتياجات الملحّة لتطوير الاقتصاد العربي، ومن ثم يراوح هذا الاقتصاد مكانه، ويزداد جيش العاطلين من العمل، سواء في شكل بطالة سافرة، أو بطالة مقنعة. فهل نتنبه إلى ما نحن مقبلون عليه، وهل نفكر في إنقاذ التعليم العربي بما يتناسب مع عالم يتجه نحو اقتصاد غير مسبوق في تنافسيته، وغير مسبوق في اعتماده على العقول القادرة على التعامل مع تقنيات فائقة؟

إذا كانوا في أمريكا يعتقدون أن مأزقهم لا يحتمل الانتظار، فإن الانتظار لدينا يعني الانتحار، فهل نسارع بإنقاذ أنفسنا، بإنقاذ التعليم في بلادنا، واستعادة المبادرة والمناهج من أيدي قوى التخلف والماضي، لنصنع مستقبلاً زاهرًا لأجيالنا الحاضرة والمقبلة؟!.

سليمان إبراهيم العسكري