تلوث الخليج العربي بزيت البترول... ماذا أضافت إليه الحرب؟ علي محمد علي عبدالله

تلوث الخليج العربي بزيت البترول... ماذا أضافت إليه الحرب؟

في القانون يدينون المجرم إذا شرع في ارتكاب الجريمة وحالت أسباب خارجة عن إرادته في إكمالها. وبرغم أن العدوان أراد شرا ببيئة الخليج، عندما عمد إلى تلويثها بسكب النفط في المياه وإحراق الآبار في الهواء، فإن الله رد كيده في نحره. وفي هذه المقالة رؤية علمية لنتائج البحوث في مجال تلوث الخليج العربي بزيت البترول الخام ومشتقاته، قبل وبعد الحرب.

يعرف التلوث البحري طبقًا لتعريف مؤتمر الأمم المتحدة المنعقد في أستوكهلم يونيو 1972 بالآتي : "أنه إدخال الإنسان بشكل مباشر أو غير مباشر لأيه مواد إلى البيئة البحرية مما يؤدي إلى خلق آثار جانبية تسبب أضرارًا لمصادر الحياة وأخطارًا على صحة الإنسان وإعاقته للأنشطة البحرية، بما في ذلك صيد الأسماك وما يسببه من إفساد لنوعية ماء البحر". أثناء وبعد حرب الخليج كتبت المقالات وكذا قدمت التقارير العلمية التي تنعى دول الخليج مياه خليجهم الحبيب وتضخم فاجعة التلوث البحري بالبترول في الخليج. وبمرور الأيام ساد الهدوء النسبي ونسيت هذه المشكلة من ناحية الإعلام الأجنبي، وتمت الاستعانة ببعض علماء البيئة المحايدين لتحديد الصورة الحقيقية للتلوث البيئي في الخليج وخاصة بعد الرجوع لصور الاقمار الصناعية وتحليلها والتأكد من حقيقة حجم بقعة الزيت المدفوعة في الخليج، وأخذ العديد والعديد من عينات الأسماك والرخويات والطبقة السطحية للقاع على طول السواحل من الكويت حتى عمان لتحليلها في عام1991

نتائج علمية

كان من المتوقع أن تكون تركيزات زيت البترول أضعاف ما هي عليه قبل الحرب في الخليج هذا حسب الأرقام والإحصاءات السابقة، ولكن جاءت النتائج مفاجئة حتى للمجموعة البحثية القائمة بالتحليل، حيث إن التركيزات من زيت البترول في عينات الرخويات والقاع من البحرين (في يونيو 1991- بعد الحرب) أقل من التي تم تحليلها ولنفس المنطقة وبنفس المجموعة البحثية في الفترة من (1983- 1986- أي قبل الحرب)، وتم تعليل هذا الانخفاض كنتيجة لانخفاض عدد السفن حاملات النفط وما تسببه من تلوث (وسوف نسرد نبذة مختصرة عن التلوث البترولي الناتج من مثل هذه السفن).

وبالنسبة للمركبات السرطانية عديدة الحلقات العطرية وجد أن تركيزاتها في قاع الخليج من هذه المركبات راجعة لبقعة الزيت، وكانت منخفضة مقارنة بالعديد من الأماكن في العالم، أما مثل هذه المركبات التي نتجت عن حرق آبار البترول فلم توجد، حتى في الأماكن العالية التلوث. وقد أحرق العراقيون أكثر من 500 بئر بترولية من أفضل النفط في العالم، بالإضافة إلى تسريبهم لكميات ضخمة من النفط الخام إلى مياه الخليج.. نحن إذن أمام حادثة فريدة من نوعها.. ويرى البعض من خبراء البيئة أنه من الصعب تقدير النتائج لهذا الفعل الإجرامي قبل مرور سنوات طويلة. إن النيران التي ارتفعت ألسنتها في صحراء الكويت، أضافت إلى الغلاف الجوي للأرض كميات هائلة من الغازات السامة والسناج، وتخوف بعض الخبراء من وقع انتشار السناج الذي قذفته هذه الحرائق في الجو وتأثيره في كوكب الأرض، وهي افتراضات مبالغًا فيها.

صورة بالأقمار الصناعية

إن الإساءة لمياه الخليج بتسريب حوالي 460 مليون جالون نفط في تقدير صدر أثناء الحرب أمر مبالغ فيه، فتحليل صور الأقمار الصناعية أكد أن كمية الزيت المسكوبة في مياه الخليج لا تزيد على 63 مليون المتسرب جالون، حتى لو أخذنا بمصداقية التقدير الثاني، فإن كمية النفط المتسربة تساوي خمسة أضعاف الزيت المتسرب في الحادثة الشهيرة للناقلة (أكسون فالديز) في ألاسكا، والجدير بالذكر أن أسوأ حوادث تسرب للنفط في البحار قد وقعت في الخليج وعلى يد العراقيين أيضًا. وذلك عندما هاجمت طائراتهم بعض آبار البترول البحرية الإيرانية في عام 1983 خلال حربهم ضد إيران.

انتقال السناج

إن التقديرات النهائية لكمية الزيت الخام الذي سكب في الخليج مباشرة قرب طرف بحر الجزيرة في الكويت تراوحت من 4 إلى 60 مليون طن من زيت البترول بالإضافة إلى 67 مليون طن زيت خام تم حرقها أثناء إشعال آبار البترول والتي استمرت 250 يومًا تقريبًا (التقارير النهائية لهيئة حماية البيئة) مما ترتب عليه إنتاج وانتشار السناج (المحتوي على العديد من المواد السامة السرطانية) وانتقالها بالعوامل الجوية لمسافات ليست كبيرةٌ لنقل جزيئات مثل هذه المكونات الخاصة بالسناج.

وقد تم استخدام زيت البترول الخام الكويتي كمواد قياسية لتحديد التلوث الناتج في الخليج دون غيره من أنواع البترول الأخرى في العينات التي تم قياسها، والتي بلغت 100 عينة تقريبًا، وكنت أحد الذين شاركوا في التحليل، وهنا سأشير إلى جزء بسيط من عمليات التحليل دون الدخول في التفاصيل. عمومًا أثناء وجود بقعة زيت خام متسربة في مكان ما يتم أخذ عينات في خلال ساعات (ساعة أو ساعتين) من هذه البقعة البترولية وتحليلها باستخدام التحليل الكروماتوجرافي لتحديد ما يسمى بالبصمة، وتحدد البصمة حسب عدد النبضات وأماكنها (زمن وجودها) وارتفاعها (يدل على التركيز والوفرة بالمقارنة بالمركبات الأخرى) وفي نفس الوقت نأخذ عينة من المصدر الذي قد يكون هو السبب في هذه البقعة ويتم عمل بصمة لهذه العينة أيضًا، ونقارن البصمتين (بصمة العينة البحرية وبصمة عينة المصدر) وفي حالة تشابه البصمتين يدان المصدر المأخوذ منه العينة.

آلاف المركبات

وهنا لا بد أن نشير إلى أن كلمة زيت البترول هي كلمة عامة، ويندرج تحتها العديد بل الآلاف من المركبات التي تدخل في تركيب زيت البترول والتي تختلف أيضًا في الصفات الكيموفيزيقية، تبدأ من مركبات هيدروكربونية بها من 10 - 39 ذرة كربون، ويمكن تقسيم مثل هذه المركبات من الناحية التحليلية إلى قسمين أساسيين :

1- المركبات الأليفاتية التي بدورها تنقسم إلى:

أ- مركبات أليفاتية سهلة الفصل.

ب- مركبات أليفاتية صعبة الفصل.

2- لمركبات الأروماتية طيارة وعديدة الحلقات العطرية التي بدورها تنقسم إلى:

أ- مركبات أروماتية سهلة الفصل.

ب- مركبات أروماتية صعبة الفصل.

كلما طال الوقت على بقاء البقعة الزيتية في البيئة يقل تركيز المركبات ذات المحتوي الكربوني المنخفض مثل من(C10 to C20) وكذا بعض المركبات الأروماتية الطيارة، وفي نفس الوقت تزداد مساحة (Envelop) في كلتا الحالتين. ويمكن إرجاع هذه الظاهرة لتحطم مثل هذه المركبات بفعل العوامل الفيزيقية والطبيعية والميكروبية. ومن النظر للكروماتوجام الناتج من التحليل يمكن للمتخصصين في التحليل تحديد زمن تسرب هذه البقعة الزيتية، وكذا معرفة المدة المتبقية لها وتأثير العوامل الجوية وزمن التلوث بمعرفة فترة نصف العمر للمركبات المتحللة.

أما في حالة الخليج فقد حللت العينات المأخوذة من الخليج وقورنت ببصمة زيت البترول الكويتي الخام وهذا للمعرفة المسبقة بمصدر التلوث وهذا يفيد في شيئين:

1- تحديد حجم التلوث الناتج عن البقعة الزيتية فقط.

2- تحديد العمر الزمني لبقاء مثل هذه البقعة في البيئة المحيطة.

ملخص النتائج

وكان نتيجة من المسح بالطائرات المروحية الأفقية تم تحديد بقع بترولية قليلة شمال الكويت وخاصة في المنطقة المتضررة من الحرب. ما لبثت أن انتهت بعد أربعة أشهر، أي في نهاية رحلة أخذ العينات وبعمل مسح شامل للشاطئ لتحديد وقياس تركيزات القار وجد أن المحطة (1) عند الكويت كانت التركيزات في حدود 380 جم/م من الشاطئ وهي تقريبًا مماثلة لنفس التركيزات فيما قبل الحرب في الكويت وكثير من مناطق الخليج (13 و17). والأماكن التي كانت تعاني من تركيزات عالية كانت عند الحدود السعودية على بعد 400 كم من مكان تسريب بقعة الزيت.

نتائج مفاجئة.. لكنها منطقيةٌ

ومن خلال النتائج يتضح أن هناك صفة عامة للتركيزات في جميع أنواع العينات هي انخفاض التركيزات، مع البعد عن موقع التسرب لبقعة الزيت وهذا غير واضح بالنسبة لعينات السمك لقدراتها السريعة على الحركة وتفادي البقع الزيتية في كل الخليج فهي لا تمثل مواقع ولكن تمثل الخليج عمومًا. ولإظهار مدى التأثر البيئي للخليج فيما قبل وبعد الحرب يمكن تلخيص النتائج فيما يلي : انخفاض التلوث في الخليج فيما بعد الحرب، يمكن إرجاع ذلك لانخفاض نشاط الإنتاج البترولي والنقل البحري للبترول في الخليج أثناء الحرب (1990 -1991) الذي كان يساهم في تلوث مياه الخليج 26.8 مليون طن في السنة وهذه الكمية تقدر بحوالي نصف الكمية المتسربة من زيت البترول في حرب الخليج حسب إحصاءات هيئة حماية البيئة. ولإجراء دراسة مستفيضة عن التغيرات الحادثة في بقعة الزيت عند إلقائها في مياه الخليج. فمن الضروري أن نشير إلى أن الزيت الخام يتكون من العديد بل الآلاف من المركبات التي تختلف في الصفات الكيموفيزيقية وتتأثر بالعوامل البيئية المختلفة من حرارة وضوء وتيارات بحرية تحطم ميكروبي. والكثير من هذه العوامل تحدد مدة بقائها في البيئة عن طريق قياس الشق الخفيف من الزيت والحلقات العطرية الطيارة، وبالرغم من أن الفترة الزمنية بين إلقاء بقعة الزيت وأخذ وقياس العينات كانت ستة شهور تقريبًا إلا أنه بالتحليل الكروماتوجرافي وحساب النسبة بين قسمين تحليليين في زيت البترول في القاع وجد أن النسبة بينهما أقل من 0.2 وهذا مؤشر على أنه خلال مثل هذه المدة القصيرة قد تحطمت معظم مكونات هذه البقعة. وانخفاض نسبة الجزء الأليفاتي الخفيف مقارنة ببقية المكونات، يعطي نفس المؤشر بالنسبة للتلوث الناتج من المركبات عديدة الحلقات العطرية (PAH) والناتجة من بقعة الزيت وحرق الآبار ولكن بالتحليلات وقياس عدد الحلقات العطرية وجد أن الحلقات العطرية لا تزيد على ثلاث حلقات وهي صفةٌ لا توجد في المركبات عديدة الحلقات العطرية الناتجة من حرق البترول، وهذا يعني أن التلوث الناتج من حرق الآبار لم يؤثر في مياه الخليج والتركيزات من(PAH) في الخليج تتراوح من 7 - 450 نانوجرام/جرام قاع، وهذه تركيزات منتشرة وتقع في المجال التلوثي في أمريكا التي سجلت تلوثًا في نيويورك 7 - 1.300 نانوجرام/جرام قاع وفي إنجلترا 70 - 81.510 نانوجرام/جرام قاع. لقد أراد العدوان الإجرامي شرا بالخليج وأهله، لكن الله أحبط مسعاه، وكان الضرر أقل كثيرًا من إرادة الشر.

 

علي محمد علي عبدالله

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




إشعال آبار البترول والتي استمرت 250 يوما تقريبا





تلوث الخليج العربي بزيت البترول





جريمة إحراق آبار النفط ... محاولة آثمة سكب البترول أثناء العدوان .. جريمة دفعت ثمنها الأشجار





جريمة إحراق آبار النفط ... محاولة آثمة لاغتيال البيئة