أبوللو13... الرحلة التي هددت حياة ملاحيها محمد رضا

أبوللو13... الرحلة التي هددت حياة ملاحيها

فيلم رون هوارد الجديد لا يعيد فتح صفحات غزو الفضاء الذي بدأ الصراع حوله في ستينيات هذا القرن ولكنة يستخدمه من رؤية جديدة وخاصة منطلقًا من الظروف التي صاحبت تهيئة رحلة المركبة أبوللو 13.

دخلت الكلبة "لايكا" التاريخ عام 1957 عنوة عن كل الكلاب الأخرى عندما وضعها الروس في أول مركبة حملت أحياءً من الأرض إلى الفضاء. وإذ لم يكترث الروس لإنزال الكلبة فقد قضت، كما يؤكد البعض، في المدار الأبدي. أشعلت الرحلة الفضائية النار من تحت رماد الحرب الباردة وانطلق الروس والأمريكيون في سجال فضائي لم يشهده العالم من قبل ولا من بعد وامتد حتى السبعينيات.

في هذا السجال، كتب الفوز للروس لسنوات من قبل أن تتمكن الولايات المتحدة من تجاوز الانتصارات السوفييتية التي شملت إطلاق أول مركبة تحمل آدميين إلى الفضاء وأول مركبة تحط على سطح القمر وأول مركبة حطت هناك وخرج منها رجلٌ مشى على ذلك الكوكب. عندما انتشر الخبر نظر الناس إلى القمر من فوق الأرض التي يعيشون عليها كأنهم يتوقعون أن يشاهدوا إثباتًا لما بدا خرافة حينها. لكن العلماء الأمريكيين التابعين لوكالة ناسًا والسياسيين أيضًا كانوا ينظرون هناك إلى المسألة من وجهة نظر من كان عليه ابتلاع هزيمة إعلامية كبيرة ومحاولة تجاوزها. أبوللو 13 كانت من ضمن مخطط البرهنة على أن الولايات المتحدة عازمة على تضييق الفجوة القائمة بين الدولتين تمهيدًا لتجاوزها في هذا السباق الفضائي الذي بات معيارًا للقوة على الأرض.

فيلم رون هوارد الجديد لا يعيد فتح صفحات هذا التاريخ، بل يوحي به منطلقًا من الظروف التي صاحبت تهيئة المركبة أبوللو 13 لرحلتها. التاريخ هو1969 والملاح الفضائي جيم لوفيل (توم هانكس) يداعبه أملٌ أن تسمح ناسًا بإطلاق الرحلة 13 كما هو مخططٌ لها لكي يتسنى له المشي على سطح القمر. بعض المركبات السابقة كانت قد فعلت ذلك ولوفيل لن يكون الأمريكي الأول الذي سيمشي على أرض القمر إذا ما قررت ناسًا إطلاق المركبة لهذا الاتجاه، لكنه سيكون من القلة الناردة. وفي مشاهد نراه جالسًا ينظر إلى القمر البعيد متخيلًا نفسه يمشي على سطحه.

في مطلع عام 1970جاءه خبر موافقة ناسًا على المشروع ودخلت التحضيرات والتمارين مراحلها الأخيرة. مع لوفيل هناك فرد هايز (باكستون) وكن ماتينغلي (غاري سينيزي) لكن قبل اسبوع واحد من اطلاق المركبة أعفي ماتينغلي من المهمة بعدما اكتشف الأطباء أنه مصاب بالحصبة. البديل طيار آخر كان معينًا لإطلاق لاحق هو جاك سويغرت (باكون).

خلال ذلك، عائلة لوفيل الصغيرة تعيش معه اللحظات الحاسمة ببعض التفاوت، الأم (كوينلان) تصحو من كوابيس لا تعلنها والابن مهتم بمعرفة احتمالات سلامة والده، وابنته الصغيرة أكثر اهتمامًا بالفترة الشابة التي تمر بها والموسيقى التي تستمع لها.

وهناك موضوع الرأي العام:

بعد سفن الفضاء السوفييتية والأمريكية ما عادت رحلة أخري تضاف لما سبق وتثير اهتمام الرأي العام ووسائل الإعلام. لذا. يؤكد الفيلم. انطلقت أبوللو 13 بملاحيها الثلاثة في موعدها المحدد بأقل مصاحبةً إعلاميةً ممكنةً.

كل شيء سار على ما يرام لمعظم الطريق ما بين الأرض والقمر في الرحلة التي قدرت بأربعة أيام ذهابًا وإيابًا، لكن بعد يومين ونصف من إطلاقها وقبل الوصول إلى القمر، بدأت سلسلةٌ من الأحداث المفاجئة التي لم تبدد أحلام لوفيل بالمشي على سطح القمر فحسب، بل عرضته ورفيقيه لخطر الموت، الاحتمالات كانت مرتفعةٌ.

انفجر واحد من خزانات الأكسجين أثناء الرحلة فتعرضت أجهزة السفينة للاضطراب وأخذت طاقتها بالانخفاض، وارتفعت. لاحقًا. نسبة ثاني أكسيد الكربون مما هدد الملاحين بالموت اختناقًا إذا لم تستمر بالمضاعفات فتنفجر السفينة الفضائية جوا أو ينتهي وقودها وهي مازالت تسبح في الفضاء. ومع أن المتفرجين يدركون أنه تم إنقاذ السفينة وملاحيها من ذلك المصير المعتم، إلا أن المخرج أبقى الوتيرة عالية وأحسن استخدام التفاصيل التقنية لينوع من الأسئلة التي تتوالى على أذهان المشاهدين وتزيد من التشويق القائم على التوتر.

حبكة وأزمتان

خلال أحداث فيلم "أبوللو 13" يدرك المشاهد إذا ما أمعن أن المجال كان متاحًا لأكثر من نوع معالجة لمثل هذا الفيلم كان يمكن أن يتحول إلى مغامرة فضائية مع حس عال من التكنولوجيا الحديثة وقصص هامشية تبحث عن أزمات جانبية أو أن يأتينا مغرقًا بالتفاصيل التقنية والنواصي والحيثيات على نحو شبه تسجيلي للأيام الأربعة الحاسمة التي استغرقتها الرحلة. ولو أن أوليفر ستون هو المخرج، لتناول علاقة هذه الرحلة الفضائية بحرب فييتنام على أساس أن الإدارة الأمريكية كانت قد هدفت. عام 1970- لتعجيل إطلاق المركبة المذكورة لجذب الاهتمام بعيدًا عن الحرب الفييتنامية.

لكن هوارد اختار صياغة أخرى اختار أن يدلف إلى الموضوع بثبات من درسه جيدًا وأدرك أين سيوزع العناصر الدرامية، وأيا منها سيتولى سرد الحكاية الأساسية، وما الذي سيظهر، وما الذي سيتوارى من الحقيقة.

هوارد مخرج يؤكد في أعماله عامة على ضرورة الوحدة المهنية والعائلية (البيضاء) في مواجهة الأزمات، أبطاله مصنوعون لقيادة العائلة وللبرهنة على أن كل شيء يمكن أن يكون على ما يرام برغم الإعصار. لذلك بدت نهاية فيلمه ما قبل الأخير الصحيفة The paper شاذة إلى حد ما، إذ إن النهاية أزفت وكان على المخرج أن يعيد اللحمة المهنية والعائلية إلى منهجها الصحيح المفضل لديه: غلن كلوز تقرر الاستجابة إلى اقتراح مايكل كيتون وإبراز القصة التي يريد على الصفحة الأولى، ومايكل كيتون يرأب صدعًا سريعًا كاد أن يظهر على سطح العلاقة بينه وبين زوجته ماريسا توماي.

أبوللو 13 يتيح مثل هذا المنحى وببراعة يصور هوارد أزمتين رئيسيتين إلى جانب الحبكة الأساسية التي لولاها لما كان هناك فيلمٌ يروى. أما الحبكة فهي العطل الذي تعرضت إليه المركبة الفضائية ومضاعفاته وانعكاسه على أحلام قائد الرحلة لوفيل (المشهد الذي ينظر فيه من قمرته إلى القمر القريب منه والذي كان من المفترض أن يحط عليه بدل أن يدور من حوله). كذلك تصوير مواكبة ناسًا للخطر الذي تعيشه المركبة واندفاع جمع كبير من تقنييها وعلمائها بنفس واحد في محاولة ترشيد السفينة وتأمين عودتها سالمة. الكل يعمل بدأب وبذل، إنهم شركاء متساوو المسئولية. هذا فيلم كان يمكن لوكالة ناسًا الفضائية أن توزعه بنفسها على صالات السينما لو لم يكن من إنتاج يونيفرسال.

نسبة لهذا الوضع الذي لا ريب أنه يحمل جانبًا شاملًا من الحقيقة، فإن المتفرج لا يستطيع في النهاية إلا أن يقدر دموع الرجال التي تظهر بين موظفي الوكالة حسبما أيقنوا نجاة الملاحين بل وقد تنهمر دموعه أيضًا.

دموع الرجال

تأكيدًا على هذه اللحمة، يدفع الفيلم بأزمتيه الموازيتين، الأولى تلك الناتجة عن فقدان ثقة لوفيل ورفيقه فردهايز بزميلهما قبطان المركبة جاك سويغرت. فهما يتهمانه ضمنا بأنه تسبب بانفجار واحدة من خزانات الأكسجين مما أدى إلى المضاعفات الخطرة التي تهدد حياة الملاحين وتضعف قدرات السفينة ونشاطاتها المختلفة. هذه الثقة لا يريد لها المخرج أن تسود ولا أن ينتهي الفيلم وهي مازالت عالقة، وكما في "الصحيفة" يعمد إلى رأب الصدع بين أبناء المهنة الواحدة وبذلك يعيد وضع الثلاثة في صف واحد ومتساو.

الأزمة الثانية هي عائليةٌ. بعدما يصور لنا هوارد وضع الملاح لوفيل الأسروي بشكل عام مبينًا وجود ثائرة صغيرة (ابنته المراهقة باربره التي تؤديها ماري كايت شيلهارد) لا تكترث للرحلة بأسرها بل تعيش عالمها الصغير المؤلف من لقاءات الاصدقاء والاستماع إلى الموسيقى وارتداء الثياب القصيرة.

الزوجة مارلين (كاثلين كوينلان) مثالية في حبها وإيمانها بزوجها وحتى في إخفاء قلقها عليه بعدما فقدت خاتم زواجها مرةً، وداهمها حلم مزعج مرة أخرى. وهناك الصبي الصغير (ميكو هيوز) المتعلق طبعًا بأبيه والذي يتابع باهتمام بالغ مهنته ورحلته.

هذه العائلة تلتئم تمامًا عندما يبلغها نبأ المشكلة التي تواجهها المركبة في رحلتها إلى الفضاء ويضيف المخرج عليها أفرادًا آخرين من عائلة الأب والأم (بينهم والد المخرج نفسه في دور رجل دين) يجتمعون متابعين أنباء الرحلة بقلق وأمل معًا.

السيناريو يعمد إلى متابعة مثل هذه الصور العائلية التي يزخر بها الفيلم، وإلى الإشارة إلى تجاهل وكالات الإعلام للرحلة تمامًا في البداية وعدم اهتمامها بها إلى أن وصلها نبأٌ تعرضها لمشكلة قد تنتهي بتحطمها تمامًا.

إذا ما صح اعتقاد البعض بأن الرحلة أساسًا كانت لإلهاء الأمريكيين عن متابعة الحرب التي كانت تدور في فييتنام، بعدما تعالت أصوات أمريكية وعالمية بغية وضع حد سريع لها، فإن مهمة الفيلم في لوم أجهزة الإعلام لغيابها عن الحدث من مطلعه، ناقصة وهي على أي حال تبدو غير ضرورية إلا بمقدار ما تضيفه أحيانًا من توسيع رقعة الحديث حول محيط الحدث الأساسي الدائر.

هنا يكمن شيء من إخفاء نصف الحقيقة خلال معالجة هذا الموضوع كتابة وتنفيذًا، لكن هوارد يتجاوز ذلك بالعودة دومًا إلى الأصعدة الرئيسية التي يدور الحدث عليها، المركبة التي تضم ثلاثة ملاحين مهددين بالموت، غرفة العمليات التي تعج بالمحاولات الدائرة لإنقاذ الرحلة، عنصر الملاح كن ما تنغلي الذي تم استبداله بجاك، فآثر العزلة إلى أن تم جره إلى غرفة العمليات ليسهم في إنقاذ السفينة (ودوره هنا مستخدم عاطفيا إلى حد كبير إنما بصورة ملائمة) وبيت لوفيل على النحو الذي صور وحدة العائلة في مجابهة المصاعب.

طوال كل ذلك، يدفع الفيلم إلى المتفرج بأسئلة تزيد من فعل التشويق. على الرغم من أن بعضنا. على الأقل. يعلم أن الرحلة المذكورة عادت بملاحيها سالمة في نهاية المحنة، إلا أن المخرج. ببراعة. يتحاشى التوقعات جميعًا ويقدم فيلمًا مشوقًا إلى حد كبير. هذا التشويق محسوب وليس من باب الإبهار الذي نجده في الأفلام الخيالية العلمية. بعض تلك الأسئلة تتخطي البديهيات، الفيلم لا يكتفي بتصوير المحنة التي بدأت بعد يومين من إطلاق المركبة وقبل يومين من هبوطها على أساس أنها مسألة حياة أو موت فقط، بل يدفع إلى المقدمة أسئلة من نوع كيف تعاملت غرفة العمليات مع الموضوع وكيف أجابت هي. أساسًا. عن أسئلة ملحة مثل كيفية التعامل مع تسرب الأكسجين وإذا ما كان من الأفضل أن تقوم المركبة بالدوران حول القمر من دون الهبوط عليه، أو أن تستدير قبل الوصول إليه وتعود من حيث أتت.

الأجوبة عن مثل هذه التساؤلات هي سلسلةٌ من الأفعال التي تبقينا منتبهين لما يدور طوال الوقت خوفًا من أن نغفل عن تفصيلة واحدة.

 

محمد رضا

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




الملاحون الثلاثة في زوايا القمرة . لقطة من ابوللو 13





بيل باكستون