الجنوبي

الجنوبي

قرأت القصيدة في صمت، ولكني كلما مضيت في القراءة كنت أشعر أن قوة قاهرة، قاسية، تعتصر قلبي. وما كدت أصل إلى النهاية، وألتقط أنفاسي بعد قراءة السطر الأخير، إلا وكانت عيناي تغيم بالدمع، فقدأدركت أن هذه القصيدة هي آخر ما سوف أقرأه من شعر أمل.

اتفق محبو أمل، زوجه وأنا والعدد القليل من الصحاب الذي يرعاه ويحيط به، على أن تنشر له مجلة «إبداع» التي كانت تصدرها الهيئة العامة للكتاب شهريًا، حين كان يرأسها أستاذي الدكتور عز الدين إسماعيل، رحمة الله عليه، وقد كنت أساعده في ذلك الوقت الذي أوكل فيه الإشراف على المجلة الشهرية، بوصفها مجلة مخصصة للإبداع، إلى د.عبدالقادر القط رئيسًا للتحرير والأستاذ سامي خشبة نائبًا لرئيس التحرير. وكنا نرى أن تشجيع أمل على نشر قصيدة في كل عدد، أي كل شهر، مسألة يمكن أن يكون لها تأثيرها الإيجابي على حالته المعنوية، خصوصًا بعد أن رأينا أن مرضه، فيما أكد الأطباء، يمضي في طريق مسدود. وتقبّل أمل الأمر، ووعد بأن يسلم «إبداع» قصيدة للنشر كل شهر، وبدأ ذلك مع مطلع عام 1983، إن لم تخنّي الذاكرة، فقد أعاد أمل صياغة قصائد «الطيور» و«الخيول» - وربما «مقابلة خاصة مع ابن نوح» - وأخذ الصديق سامي خشبة يتسلم منه قصيدة كل شهر، يطالعها قراء «إبداع» في كل عدد.

وأذكر، الآن، أننا كنا في الأسبوع الثاني من شهر مايو 1983، إن لم تخنّي الذاكرة، وكنت جالسًافي مكتبي بمجلة «فصول» أشرف على إنهاء عددها الأخير، وكنا في فترة ما بعد الظهيرة. ودخل المكتب سامي خشبة، وملامح الكآبة والحزن تغطي وجهه، وجلس أمامي، ولم ينطق بحرف. وأعطاني عددًا من صفحات الكتابة التي يستخدمها أمل، وخطه المميز الذي يبدو كما لو كان قلم خطاط ظاهر من بعض الصفحات. وأسلمني سامي الأوراق، طالبًا مني قراءتها، فتناولتها منه، ووجدتها قصيدة بعنوان «الجنوبي». وتبادلت أنا وسامي نظرات حزينة، غير حريصين على إخفاء الدمع الذي لم يستطع كلانا مقاومته، وتطلّع إليّ سامي كما لو كان ينتظر مني أن أقول له كلمة، أو كلمات، فلم أستطع سوى أن أقول: أمل يودعنا بهذه القصيدة، ويكتب رثاءه فيها قبل أن نكتبه، ويرينا نهايته كي يعدنا لموقفها الصعب. وتركت القصيدة لسامي حتى يذهب بها إلى المطبعة، كي تصدر في عدد «إبداع» الصادر أول الشهر القادم. وركبت سيارتي، ذاهبًا إلى المعهد القومي للأورام، وفتحت باب الغرفة رقم (8) وملامحي لا تخفي مشاعري، فوجدت أمل مستلقيًا على السرير، متطلعًا نحو الباب. وما أن رآني حتى سألني: قرأت القصيدة، فأومأت برأسي علامة الإيجاب، وسألني: ما رأيك؟ فقلت له: أقسى وأصعب ما قرأت لك، فابتسم ابتسامة غامضة، لم تخل من لمعة لم أستطع تحديدها. وأخذ يسألني عن الوجوه التي تضمها، فتحدثت عمن أعرفهم بينما شرح لي هو ما استغلق عليّ. لكنه لم ينشد عليّ القصيدة بصوته، كما اعتاد، ولم أطلب منه ذلك، فقد كان الإرهاق باديًا على وجهه، تمامًا كالوجوم الحزين الذي أخرس عبلة الرويني، زوجه التي قرأت القصيدة، وفهمت منها ما فهمناه جميعًا، بل ما فهمه كل من يعرف أمل.

ذاكرة على الورق

وكانت القصيدة تتكون من عدد من المقاطع المتوازية والمتناظرة، معتمدة على منطق استرجاع الماضي، خصوصًاعبر الصور الدالة التي تضيء الذاكرة في لحظات النهاية، حيث يستغرق الشاعر في حال من التوحّد الذي لا يؤنسه فيه سوى استدعاء أكثر اللحظات والوجوه والصور في ماضيه.

ولكن بعد أن تبدأ القصيدة بالذات التي تكتبها في لحظة معرفية مثقلة المعنى، لحظة تنقسم فيها الذات على نفسها، فتغدو هي الناظر والمنظور إليه، ويبرز الوعي من الذاكرة محتوياتها، أو يحيلها إلى ما يشبه الصور والمرايا التي تحتفظ بملامح الوجوه والأشخاص، تنتزعها من عدم النسيان، كي تضيئها في عتمة الوجه، مؤدية وظيفتها التي تختفي بعدها في متاهات الذاكرة. ويظل الأمر على هذا النحو إلى أن تفرغ الذاكرة شحنتها على الورق، فيتأمل الوعي الشعري ما أخرجته، كي يخرج منه بمعنى النهاية أو الدلالة الكلية الأخيرة التي تغدو شاهدًا على النهاية، وعلامة عليها، وتبدأ القصيدة على هذا النحو:

صورة
هل أنا كنت طفلاً
أم أن الذي كان طفلاً سواي؟
هذه الصور العائلية
كان أبي جالسًا، وأنا واقف... تتدلى يداي
رفسة من فَرَسْ
تركت في جبيني شجًا، وعلّمت القلب أن يحترس
أتذكر
سال دمي
أتذكر
مات أبي نازفًا
أتذكر
هذا الطريق إلى قبره..
أتذكر..
أختي الصغيرة ذات الأربعين
لا أتذكر حتى الطريق إلى قبرها
المنطمس
أوكان الصبي الصغير أنا؟
أم ترى كان غيري؟
أحدّقُ..
لكن تلك الملامح ذات العذوبةِ
لا تنتمي الآن لي
صرت عني غريبًا
ولم يتبق من السنوات الغريبة
إلا صدى اسمي
وأسماء من أتذكرهم - فجأة -
بين أعمدة النعيّ،
أولئك: الغامضون: رفاق صباي
يقبلون من الصمت وجهًا فوجها..
فيجتمع الشمل كلّ صباح،
لكي نأتنس.

والمقطع كله هو مفتتح تداعيات الذاكرة في حنينها إلى بداياتها. والأول في هذه البداية هي الصور العائلية التي تجمع بين الابن الذي يبدو عنيدًا، مليئًا بالحيوية التي لا تركن إلى الهدوء، ولا تستريح إزاء السكون، والأب الذي يحفظ مهابته العائلية، أستاذ اللغة العربية الأزهري الذي أورث ابنه حبها، ربما لما كان يسمعه من عيون قصائد التراث. وطبيعي أن تنعكس مهابة الأب على الابن الذي يقف مفرود القائمة،تتدلى يداه كأنه في أحد فصول أبيه الدراسية.

ونرى على القرب صورة أخرى، أو لمعة من لمع الذاكرة: جبين الطفل نفسه مشجوج برفسة فرس استنفره، وعلمته الرفسة الاحتراس، لكن لم تنسه الجسارة والاندفاع في قول الحق، فقد ظل، دائمًا، أقرب لمن يقولون: لا، منه إلى من يقولون: نعم. وتستدعي تداعيات الدم على جبين الطفل تداعيات دم الأب النازف حتى الموت، ومن ثم الطريق إلى قبره، الطريق نفسه الذي مشينا فيه، نحن أصحاب الابن لنودعه إلى جانب أبيه. ولم نكن مثله نعرف الطريق إلى قبر أخته الذي طمسته الذاكرة. ودالة تكرار الفعل «أتذكر» في مسار التداعي الذي يأتي مصحوبًا بسؤال الهوية عن العلاقة بين الطفل وما انتهى إليه، أو ما قادته إليه الأيام التي قد تؤدي إلى تغيير الملامح والسمات، فيتباعد المظهر عن الجوهر، لكن يبقى الطفل كامنًا كمون الجوهر، أو كمون الملامح ذات العذوبة التي تختلف عن مظهرها الذي يبدو غريبًا عنها، غرابة أسماء من يتذكرهم، فجأة، بين أعمدة النعي من رفاق الصبا الذين يعودون بسحر الفعل «أتذكر» كي يجتمع الشمل، ويلتقي الحي بالأموات، وكأنه يلحق بهم، ويأتنس معهم كأنه يترقب الرحيل إليهم، فقد حنّ الفرع إلى أصله، والنهايات أخذت تستدير كمزولة الوقت لتنطبق على البدايات، فيعود الجنوبي إلى أصله كما يعود النيل إلى منبعه.

ويبقى صدى الأسماء وملامح الأوجه كأنها صور، أو علامات على طريق العودة التي أخذت تبين عن هدفها ونقطة العود التي هي نقطة الموت.

ويبعث سحر الفعل «أتذكر» بالوجه الأول من بين الأموات:

كان يسكن قلبي
وأسكن غرفته
نتقاسم نصف السرير،
ونصف الرغيف
ونصف اللفافة
والكتب المستعارة.
هجرته حبيبته في الصباح فمزق شريانه في المساء،
لكنه بعد يومين مزّق صورتها.. و..
واندهشْ
خاض حربين بين جنود المظلات
لم ينخدش
واستراح من الحرب
عاد ليسكن بيتًا جديدًا
ويكسب قوتًا جديدًا
يدخن علبة تبغ بكاملها
ويجادل أصحابه حول أبخرة الشاي
لكنه لا يطيل الزيارة
عندما احتقنت لوزتاه، استشار الطبيب،
وفي غرفة العمليات
لم يصطحب أحدًا غير خف
وأنبوبة لقياس الحرارة
فجأة مات
لم يحتمل قلبه سريان المخدر
وانسحبت من على وجهه سنوات العذابات
عاد كما كان طفلاً
يشاركني في سريري
وفي كسرة الخبز، والتبغ
لكنه لا يشاركني.. في المرارة

هذا الوجه لا يعرف صاحبه سوى قليلين جدًا، أنا واحد منهم، كان اسمه سيد شرنوبي، أدركنا في قسم اللغة العربية، وعرفته حتى قبل أن أعرف أمل، كان قادمًا من مدينة السويس، مدينته، حيث التقى بأمل الذي عمل في المدينة لعام أو أكثر، لم أعد أذكر على وجه التحديد مع الأسف. المهم أن سيد الشرنوبي كان شاعرًا وصعلوكًا مثل أمل، أقاما معًا، وتصعلكا في السويس التي كتب أمل عن حياتها تحت قصف العدو الصهيوني قصيدة لافتة، مقارنًا بينها والقاهرة اللاهية التي تعيش حياة مناقضة. وقد لحق بنا سيد الشرنوبي قبل أن نتخرج، فقد سبقته إلى التخرج بسنوات، وعرفت عن حبه لزميلة لنا من السويس، تخلت عنه، فعانى الكثير حتى نسيها. أما هي فقد ظلت تبحث عن صيد مناسب، إلى أن اختفت في دوامات الحياة. وأما سيد فقد ظلت علاقتي وثيقة به بعد التخرج، وكنا نلتقي في مقر الجمعية الأدبية المصرية. وخاض سيد حرب 1967 وخرج سالمًا، وحرب 1973 وخرج سالمًا. وترك الجندية، وتفرغ لحياة الشعر والصعلكة إلى أن التهبت لوزتاه فذهب لاستئصالهما، فمات بسبب المخدّر.

وجوه الموت الرمزي

وما كان أشد بؤس الليلة التي أخبرنا فيها فارق خورشيد، وكان راعيه، خبر موته. وتعاهد بعضنا على نشر أعماله، ولكن لم يحدث ذلك، ومضى سيد في عتمة الذاكرة، لم يخرجه منها إلا ذاكرة أمل دنقل التي أخذت تستعيد الموت، كما لو كانت الذات المبدعة لأمل تطمئن نفسها على أنها لن تكون وحيدة في رحلة النهاية إلى قبر أبيه النائي الذي حملناه إليه. والتشابه الذي يدني بطرفيه إلى حال من الاتحاد دال في حالة سيد الشرنوبي الذي أصبح وجهه مرآة وقناعًا لأمل دنقل، في مدى الصفات المشتركة. ويأتي الوجه الثاني بصيغة التنكير مثل وجه سيد الشرنوبي:

من أقاصي الجنوب أتى، عاملاً
للبناء
كان يصعد «سقالة» ويغني لهذا الفضاء
كنت أجلس خارج مقهى قريب
وبالأعين الشاردة
كنت أقرأ نصف الصحيفة
والنصف أخفى به وسخ المائدة
لم أجد غير عينين لا تبصران
وخيط الدماء.
وانحنيت عليه.. أجس يده
قال آخر: لا فائدة
صار نصف الصحيفة كل الغطاء
وأنا في العراء.

هذا الوجه كان، ولايزال، يحيرني بالمقصود منه، خطر على بالنا، مرة،أنا وعبلة الرويني، أن دلالته رمزية، وتشير إلى جنوبي، جاء مع أمل إلى القاهرة، حاملاً الأحلام نفسها، لكنه سرعان ما تخلى عنها بفعل الذهب المتلألئ في كل عين، فمات رمزيًا في عيني أمل، كأنه أحد عمال البناء الذي سقط من سقالة عالية، تاركًا أمل وحده في طريق الحلم نفسه. والحق أن الدلالة الرمزية للمقطع تظل باقية حتى لو حذفنا الأسماء والكنايات، فالموت المفاجئ في المدينة إحدى خصائص شعر أمل، خصوصًا موت الفقراء الذين يموتون بلا ثمن. أما الوجه الثالث - بصيغة التنكير أيضًا - فقد كان معروفًا للجميع، وهووجه يحيى الطاهر عبدالله الذي يرد طيفه على النحو التالي:

ليت «أسماء» تعرف أن أباها صعدْ
لم يمت
هل يموت الذي كان يحيا
كأن الحياة أبَدْ
وكأن الشراب نفد
وكأن البنات الجميلات يمشين فوق الزبدْ
عاش منتصبًا، بينما
ينحني القلب ليبحث عما فقد
ليت «أسماء» تعرف أن أباها الذي
حفظ الحب والأصدقاء تصاويره
وهو يضحك
وهو يفكر
وهو يفتش عما يقيم الأَوَدْ
ليت «أسماء» تعرف أن البنات الجميلاتِ
خبأنه بين أوراقهن،
وعلمنه أن يسير.
ولا يلتقي بأحدْ!

والمقصود بأسماء في المقطع هي أسماء يحيى الطاهر عبدالله، ابنته التي مات وهي طفلة صغيرة، في حادثة عبثية لسيارة بعض أصدقائه، في الطريق إلى الواحات، فظل يحيى ينزف إلى أن مات، ربما قبل أن يصل إلى مستشفى العمرانية في الجيزة. ويحيى الطاهر عبدالله أحد الأصدقاء الثلاثة الذين جمعتهم مدرسة واحدة، وكانت قراهم متقاربة كعائلاتهم.

وقد عملوا معًا، بعد انتهاء الدراسة الثانوية، كتبة في محكمة قنا التي سرعان ما تركوها إلى القاهرة - الحلم. وكان أول الراحلين عبدالرحمن الأبنودي الذي سرعان ما تبعه يحيى الذي ظل يعيش تحت رعايته،وفي بيته طويلاً، وفعل مثلهما أمل الذي التحق بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية، حيث فاز بالجائزة الثانية في مهرجان الشعر العربي. ولكنه سرعان ما ترك الدراسة، فسافر إلى السويس، حيث شركة النقل التي يملكها عمه، ولم يطل الإقامة فيها، فقد كانت نداهة القاهرة تدعوه. هكذا اكتملت الصحبة القديمة من كتبة أرشيف محكمة قنا في القاهرة، وأخذ إبداعهم يتوالى، سبقهم إلى الشهرة عبدالرحمن الأبنودي، ابن مأذون القرية الذي لم ينجح في جذب ابنه إلى كتابة الشعر بالفصحى مثله، وفر الابن إلى العامية التي وجد فيها مراحه، وسبق زميليه إلى الشهرة، خصوصًا بعد أن أخذ يكتب لعبدالحليم حافظ.

والطريف أن يردد الجميع أغنيته «عَدّى النهار» التي كتبها عقب الهزيمة الكبرى لسنة 1967.

وفي الوقت نفسه يردد الجميع قصيدة رفيق صباه أمل «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة». أما يحيى فمضى في طريقه، واستقل عن رعاية عبدالرحمن، ومضى في طريق الصعلكة الإبداعية حتى قرارة القرار إلى أن مات، فتكفل عبدالرحمن وعطيات الأبنودي برعاية أسماء ابنة يحيى، وتبنيها، وكانت أسماء لاتزال صغيرة في مطلع مايو 1983 حين كتب أمل قصيدته، مسترجعًا وجه أبيها الذي هو بعض ذكريات الصبا والشباب والحلم الإبداعي والصعلكة التي تحتسي الحياة، كأن الحياة أبَدْ، ولا تتوقف عن الإبداع كما لو كان الإبداع خلاصًا وأفقًا وسلاحًا وهوية. وكل ذلك في مدى حياة من الشظف والفاقة، والبحث عما يقيم الأود. ويذهب حبه، ولكن تبقى صوره المشتركة مع أصدقائه رفاق الدرب الذي كان يعود إليهم في كل دورة من دورات نهاية التطواف العنيف بالحياة، كأنه طفل بريء لم يرتكب شيئًا.

أطلال الماضي

ويختفي وجه يحيى مع بقية أوجه الموتى، فلا يبقى سوى ما يجمع بينهم جميعًا، وهو الموت الذي يتجلى في المقطع الأخير الذي يحمل عنوان «مرآة». وهي تسمية دالة، لأن رمزية المرآة تشير إلى اللحظة المعرفية الحاسمة التي ينقسم فيها الوعي على نفسه، فيصبح فاعلًا ومفعولاً للتأمل في آن، وذلك على النحو التالي:

- هل تريد قليلاً من البحر؟
- إن الجنوبي لا يطمئن إلى اثنين
يا سيدي:
البحر - والمرأة الكاذبة
- سوف آتيك بالرمل منه
... وتلاشى به الظل شيئًا فشيئًا
فلم أستبنه
- هل تريد قليلاً من الخمر؟
- إن الجنوبي يا سيدي يتهيب شيئين:
قنينة الخمر - والآلة الحاسبة
- سوف آتيك بالثلج منه
وتلاشى به الظل شيئًا فشيئًا
فلم أستبنه
بعدها لم أجد صاحبيّ
لم يعد واحد منهما لي بشيء
- هل تريد قليلاً من الصبر
- لا..
فالجنوبي يا سيدي يشتهي أن يكون الذي لم يكنه
يشتهي أن يلاقي اثنتين:
الحقيقة - والأوجه الغائبة.

وتنتهي القصيدة، لكن بعد أن يضع المقطع الأخير الذات في مواجهة نفسها كأنها تتطلع إلى نفسها، متأملة حالها بمعنى يقترب، هونًا، من المعنى الصوفي للحال، ولكن عبر تقاليد الشعر العربي القديم في الوقوف على الأطلال، حيث يواجه الشاعر أطلال ماضيه مع خليلين في العادة، يتوجه إليهما بالخطاب والجواب. وكل خليل يقوم بطرح سؤال على الجنوبي الذي أصبح قناعًا ومرآة. وتجمع صفة النفي بين البحر والمرآة الكاذبة في مدى الريبة التي تجمعهما بالبحر صفة الغدر والمباغتة، وبالخمر والآلة الحاسبة، فالأولى تذهب الوعي في وقت ينبغي حضوره، والثانية تقيس كل شيء بحساب الربح والخسارة. ولكن كل سؤال ينتهي بنوع من المفارقة المضادة للإجابة. فكُرْه البحر مضاد لإتيان الرمل منه، وكره الخمر يقابل الثلج الذي يلازمها، والمفارقة تقود إلى تلاشي ظل كل خليل إلى أن يغيب في المدى السديمي بين الإغماءة والإفاقة.

وفي النهاية يتكشف حضور الخليلين عن وهم أو سراب، فلا وجود لواحد منهما، ولا واحد منهما يقدم شيئًا. ولذلك يأتي السؤال الأخير دو أن نعرف من يوجهه: ربما كان ملك الموت الذي يأتي بعد مخايلة الخليلين، أو ربما كان وعي الذات المتأملة، في آخر لحظات صحوها المعرفي، وفي ذروة تلهفها للعبور إلى الشاطئ الآخر، فقد كفاها ما لاقت وما عانت، ولم تعد تطيق الصبر أو تريده، فقد أصبحت مشتاقة إلى أن تكون الذي لم تكنه، وأن تلاقي في العالم الآخر: الحقيقة التي يتكشف بها كل شيء، والأوجه الغائبة التي قرّب التذكر المسافة إليها، وأهاج الشوق إلى لقائها الذي سرعان ما تحقق في الأيام القليلة التالية على كتابة هذه القصيدة.

الجنوبي بين الحضور والغياب

وكان ذلك مطلع نهار الحادي والعشرين من مايو سنة 1983، بعد حياة حافلة لأمل الذي أطلق على نفسه، للمرة الأولى اسم «الجنوبي» الذي استعارته عبلة الرويني في كتابها الآسر عنه. لكن تظل دلالة التسمية دالة على فكرة الارتباط بأصل الهوية والعودة إلى نقطة الابتداء، خصوصًا بعد أن غاصت الذات في المدن التي ارتبطت بها، قنا والإسكندرية والسويس والقاهرة، وعرفت شوارعها، وسكرت في حاناتها، وجرحت في مشاحناتها، وشاهدتها في ثياب الموت والفداء، تعض في لجام الانتظام، ممزقة بين الحلم والكابوس.

ما يلفت انتباهي في القصيدة، بعد التسمية، هو بناؤها القائم على التداعي، ومن ثم الذاكرة، التي هي جوهر الإبداع ومحركه. وربما كان تكرار الفعل «أتذكر» دالاً على حضور الذاكرة، وكيف أنه حضور نوعي يضعنا في زمن المعارضة، مزيلاً المسافة بيننا وبين الماضي، ولكن بما يجعلنا طرفًا في فعل المضارعة الذي يقترن بالتأمل. ولا تتعارض بنية التداعي في القصيدة مع تتابعها الذي تتعدد زواياه ومجالات الرؤية فيه، لكن دون أن يفارق التتابع، حتى في تباينه المحرك الأساسي للقصيدة، تمامًا كصور الأوجه التي تتباين من حيث هي دوال، ولكنها تتحد من حيث هي دلالات، شأنها في ذلك شأن البناء الوزني الذي تسيطر عليه تفعيلة «فاعلاتن»، ولكن على نحو مرن يتيح تجاور إمكانات الحوار والسرد والتكرار الذي يؤدي دوره كأنه محطات نغمية في تتابع الاثنين. وهو الأمر الذي يبين عن نزعة درامية ينطوي عليها بناء القصيدة، سواء في حوار الذات مع نفسها، أو حوارها مع غيرها، متقلبة ما بين الديالوج والمونولوج، في نوع من الصراع الوجودي الذي يصل إلى لحظة تنويره في النهاية. ويقترن بذلك وجود خاصيتين أساسيتين في صور القصيدة، كما في شعر أمل دنقل بوجه عام، غلبة الصور البصرية التي تجعلنا نرى في مدى عين الخيال، وغلبة الصور السمعية التي تجعلنا نرهف الاتصال في مدى الخيال السمعي الذي يلازمه ما يناوشه من صور تنتسب إلى كل الحواس، فنحن إزاء شعر تجسيدي في النهاية، حسيته هي الأصل الذي يقود إلى ما قد ينطوي عليه من تجريد ملازم.

هل نستطيع أن نصف هذه القصيدة بأنها تأمّل ميتا فيزيقي، يحاول التحديق في دلالات الموت، كما رأينا في قصائد «السرير» و«لعبة النهاية»؟ لا أظن ذلك تمامًا، فالقصيدة هي استرجاع حسي لحياة على وشك الانتهاء، هادفة بالدرجة الأولى إلى استرجاع صور الماضي الذي كان، تحقيقًا لنوع من العودة إلى الرحم، والحضور البكر للوجود الذي تراوحت عليه الأيام، وصارعته كما صارعه، إلى أن جاءت اللحظة التي لابد أن يعود فيها كل شيء إلى أصله ومبتدى أمره.

 


جابر عصفور