قصص على الهواء

قصص على الهواء

قصص لأصوات شابة تنشر بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
لماذا اخترت هذه القصص؟
------------------------------------------

أحّسُ بالفخر والأمل حين أقرأ لأدباء شباب وأجد أنهم يعبّرون بعمق وفهم عن واقعنا بإحباطاته وأزماته، لكنهم في الوقت ذاته يتجاوزون هذا الواقع المحبط بشجاعة وبحماسة كبيرة، تلك الصفة الرائعة التي يملكها الشباب.

قصة «عسل بلادات الناس ولا قطران بلادي» تعبّرُ عن واقع ملايين الشباب العربي الذي تذله البطالة وحقارة الراتب، الشباب الذين يعانون القهر الاقتصادي ونقص حرية التعبير والتهميش فيختارون بالرغم منهم الهجرة، ويتخيلون أن السفر سيعطيهم الرفاه والأمان والسعادة، ولا يتخيلون أن الثمن سيكون باهظاً جداً. خلاصة القصة الشائقة أن الحرية الحقيقية والوجود الحقيقي لا يكونان إلا في الوطن، مهما كان هذا الوطن قاسياً وظالماً لأبنائه. خلاص العربي ومستقبله هما في بقائه في أرضه، وفي مجابهة المشاكل التي تعترضه، ولا يكون الخلاص والمستقبل بالهجرة. تنتهي القصة بجملة مؤثرة صادقة، لأنه (أي الوطن) بالرغم مما نقول عنه ومانعيشه فيه يظل أحلى وطن في الوجود.

***

قصة «حكاية ظل» لحنان البيروتي، قصة جيدة من حيث الشكل والمضمون، قصة القمع وتسلط الأجهزة المخابراتية، حكاية إنسان ارتضى أن يكون عبداً وخادماً لمُستبد، لرجل فوق القوانين، يظلم ويبطش ويقتل ولا أحد يحاسبه، قصة شريحة من الناس ترضى أن تُخدّر ضميرها، وتكون مجرد أداة لديكتاتور... في القصة عبارات قوية مؤثرة (هو غير مضطر لتعليل تصرفاته لأحد).

وعبارة (لي رغبة بمشاركة مشاعري ومشاكلي مع آخرين، لكن أخاف!).

تُعّبر «حكاية ظل» عن الإنسان الذي ارتضى حياة الذل والعبودية وارتضى أن يكون أداة في يد الأقوياء المستبدين، لكن تبين الكاتبة أن الإنسان مهما أوغَل في إهانة إنسانيته وصار ظلاً لمُستبد، فإنه يمكن أن ينتفض في أية لحظة ويعي إلى أي درك من الانحطاط وصل. إن الخوف مهما تفاقم لا يمكن أن يقتل حس العدالة في النفس، وبالرغم من كل الخوف والقمع، فإن إرادة الانتفاضة والتمرد على الاستبداد والظلم ممكنة. والإنسان مهما أخطأ وبلغ به الضلال، فإنه لن يسمح أن يُجرّد من إنسانيته.

***

قصة حسن الأشرف «في انتظار معاليه» يعكس القاص معاناة المواطن ولا مبالاة المسئولين بواقعه وشكواه، المواطن الذي يرزح تحت ضغوط معيشية قاسية، والمسئول الذي لا يهمه سوى الاحتفاظ بالمنصب ليحقق مكاسب كثيرة من خلاله، الإذلال الذي يتعرض له المواطن حين يقصد مسئولاً، والإهمال واللامبالاة اللذان يتعرّض لهما.

***

قصة «اللقاء» لسمير البرقاوي قصة فيها نبل وتقدير وإيمان بالصداقة وتغليب الاحترام والحب للصديق على السعادة الشخصية.

يصور الكاتب بأسلوب رشيق وبرهافة الصراع بين حبه لشابة هي حبيبة صديقه وبين احترامه وتقديره لصديقه، ويرضى أن يكون الخاسر لانه لا يتحمل فكرة أنه خطف حبيبة صديقه. وبالرغم من أن الظرف يسمح له أن يعبر عن حبه للشابة، لأن صديقه قد توفي، فإنه يؤثر الصمت لإيمانه أنه لا يحق له أخذ مكان صديقه. جميل أن نغلب مشاعر الآخرين على مشاعرنا وأن نحس بالآخر ونحترم مشاعره واختياراته.

قصة مرهفة وصادقة ترسخ مفهوم النبل والتضحية وتعبر عن الاحترام الكبير للأصدقاء. القصص الأربعة تدل أن شريحة الشباب العربي واعية تماماً للواقع الصعب، وللتحديات الكثيرة التي تواجهه، لكنها لن تتمكن من إحباطه، بل ستزيده إيماناً وحماسة لتجاوز كل الصعوبات وتحقيق مستقبل مشرق. إن الكتابة أحد أنجح الوسائل للمقاومة وبناء مستقبل مشرق.

-----------------------------------------

«عسل بلادات الناس ولا قطران بلادي»
سمية يوما (المغرب)

في كل مرة يطل وجهه الصبياني من بين أوراق ذاكرتي, أبتسم لوجهه فيبادلني الابتسام, كان مروره عابرا ,ولكنه من الأشخاص القلائل الذين دخلوا إلى حياتي, وتركوا فيها أثرا طيبا. كان عاملا في مخدع هاتف, وإلى جانبه توجد صيدلية, كانت تعمل بها صديقتي, جمعنا في البداية الطريق المرعب الذي يفصل بين الصيدلية وبيتنا. تعودت كلما عدت من عملي أن أنتظرها, أو تنتظرني لنأخد الطريق معا. وإذا صادف ولم أجدها كان هو يقفل المخدع الهاتفي ليرافقني في الطريق.

بدأت أحاديثه خجولة وتقليدية, وفيما بعد أصبح يحدثني عن كل شيء. حتى أحيانا كان يخيل إلي أنني أعيش في منزله, أعرف كل ركن وكل زاوية ,اعرف الأثاث الذي يضعونه في كل مكان, اعرف شكل والدته وأخواته وأصدقائه وحبيبته, بالرغم من عدم معرفتي بهم..

حين أخبرنا أنه سيهاجر إلى إسبانيا نزل علينا الخبر أنا وصديقتي كالصاعقة, سألته : هل ستعود؟ قال لي: عزيزتي أنت مجنونة؟ وهل هناك من وصل وعاد إلى الوطن....قلت ساخرة: تحسب أنك أخذت تأشيرة إلى الجنة؟

ردد: بل تأشيرة لتحقيق كل الأحلام. قالت صديقتي: قطران بلادي ولا عسل بلادات الناس قال: هذا بالنسبة لك أما لي فعسل بلادات الناس ولا قطران بلادي.

ورحل سمير وأصبح ذاك المخدع كئيبا موحشا, وبعد أيام لمحته من بعيد لا أعرف كيف مشيت كل تلك المسافة بلمحة البصر, لم أحس بنفسي إلا وأنا إلى جانبه, فقلت: ظننت أني لن أراك إلا بعد سنوات. فنظر إلى صديقتي وقال: كما قالت قطران بلادي ولا عسل بلادات الناس. تصوري أحسست بالقنوط منذ أول يوم وصلت فيه إلى هناك, أحسست أني جسد ترك روحه هنا... لم أتذكر صوت والدتي صوت أبي.

مرت أيام و كان المرور أمام المخدع الهاتفي, دون رؤية سمير منكبا على كتيب صغير يسجل فيه, أمرًا غريبًا. وحملني الفضول يوما لأساله فقال لي: لقد قررت أن أعيد الكرة. فقلت: هل ستهاجر؟ قال: نعم ولكن هذه المرة أسجل كل شيء سيء يمر بي حتى لا أنسى، وأخذت منه الكتيب, وغرقت في الضحك, لقد خصص فصلا عني أيضا. فذات يوم كان واقفًا مع أصدقائه, ومررت بجانبه دون إلقاء التحية عليه, لان صديقتي كانت توقف سيارتها بمكان غير مناسب, وكانت تخشى رجال المرور الذين ينتظرون مثل هذه الفرصة. فأردت أن أبرر فقال أرجوك لا افعلي أكثر دعيني أذهب دون عودة.

ورحل سمير... كما رحل أخي .وأخي الأكبر منه....و....و... منهم من يصل ومنهم من يستقر تحت عجلات الشاحنات ناقلة السلع, أو يستقر في بطون الأسماك .

وظل شقيقي يأتي كل صيف يحل علينا والدموع تملأ عينيه, ويرحل والدموع تملأ عينيه, فالحياة أصبحت بالنسبة له سفرًا ورحيلاً, رحيلًا إلى غير عودة أو عودة تمنحنا الفرح ثم تنتزعه منا. يحس بالغربة والوحدة خارج الوطن, وأحس بالغربة وأنا مع أسرتي وفي أحضانها, رحل أخي وعرف أن حلمه لم يكن على قدر تضحيته. رحلوا هم وبت أخاف رحيل والدي ذي الثمانين سنة, أستيقظ كل ليلة قلقة لأستمع إلى أنفاسه حتى إذا اطمأننت إلى أنه يغرق في النوم أعود لأكمل نومي متقطعًا قلقًا, لأستيقظ بعد لحظات أخرى لأطمئن عليه مجددا. أخاف رحيله كما يصعب علي تقبل رحيل أختي الصغرى بعد زواجها للانتقال إلى بيت زوجها, بالرغم من أنها بزواجها قد أضافت نبضا آخر ودمًا جديدًا، وفرحة غابت لسنوات عن سماء أسرتي الصغيرة. وملأ زوجها في قلبي فراغًا تركه رحيل شقيقي..

لقد أصبحت بعد كل هذا أنظر إلى الحياة بمنظور آخر, لقد أصبحت الحياة بالنسبة إلي عبارة عن رحلات منها الطويلة الأمد ومنها القصيرة ومنها رحلة دون عودة.

لقد أصبح مخدع الهاتف منذ رحيل سمير عبارة عن محطة يأتيه عاملون لمدة ويرحلون ليعوضه آخرون. وبالرغم مما جاء إليه من أشخاص فقد بقي موحشًا مقفرًا, وزاد من وحشته مغادرة صديقتي الصيدلية, بعد زواجها وانتقالها إلى بيت زوجها, فأصبح المكان برحيلها عبارة عن أطلال أمر بجانبه فأبتسم لكل من عرفتهم...وأكمل طريقي في ذاك الطريق, الذي كنت فيما مضى أخاف فيه حتى من خشخشة أوراق الأشجار تحت كعب حذائي, أما الآن فلم أعد أخاف، أحس دائمًا بهم إلى جانبي، وكثيرا ما تفلت ضحكتي بالرغم مني. إذا تذكرت شيئًا قالاه لي حتى إذا رأيت أحدًا قادمًا أحك بسبابتي طرف أنفي محاولة إخفاء ضحكتي.

حكاية الظل
حنان بيروتي (الأردن)

عدّلت من ياقة معطفي وتحسستُ بأنامل مدرَّبة ربطة العنق التي أحسها تخنق أنفاسي وتضغط على صدري، لكن لا بدّ أن أبدو أنيقاً مبتسماً، جرّبت أن أرسم ابتسامة صافية ففشلت، ازدردتها ورسمت أخرى باهتة بلا معنى، وقفتُ خلفه إذ لا يجوز للظلّ أن يتجاوز حده، هكذا علّمني. كنت ظله وهو «الكبير»، أفهمني أن أكون كبيراً بمقاييسه، وأن أردد دائما بأنه عملاق وبأنّي - عند الضرورة - مجرد حشرة.. كيف أقارن نفسي وردود أفعالي بهذا العملاق، أنا مجرد جسد متحرك، مكاني في الخلف دائماً، هذه المرة بدا منفعلاً، لمحت علائم عدم ارتياحه، من اضطراب كفه ومن التفاتاته التي زادت عن القدر الاعتيادي بالنسبة لي على الأقل، حدجني بطرف عينه ونفث أمره في وجهي: انصرف للوراء الآن!

تراجعت على الفور فيما أكمل جملة لم يقلها لكنها تلح على ذهني المتحفِّز اليوم دونما مبالاة.. لا أريد لك أن تقترب أكثر من اللازم!

هو غير مضطر لتعليل تصرفاته لأحد، فكيف إذا كنتُ مجرد حارس شخصي له،

تجربتي في العمل معه أكسبتني الكثير من السلطة والثقة النابعة عن الميزات، وأدخلتني في العديد من التجارب المفترض أن يصيبني بعضها بالألم وتأنيب الضمير، لكني حبستُ ضميري في صندوق وألقيته في البحر ولم أضطر لاستخدامه. المعادلة واضحة: أنت لا تظلم الآخرين وتجرحهم وتعذبهم بهذه القسوة إلا إذا كنت ذقت بعض العذاب وتجرّعت طعم الظلم الأسود، وبتّ تخشى إن لم تنفِّذ أن تتحول إلى الضحية التي تكابد العذاب ! هذه نظرية الظلم المركبة التي استنبطتها بعد طول تجربة، ففي إحدى المرات التقيت بأحد جلادي الزنازين وكان قد انتهى للتوّ من جولة رهيبة من الاستجواب والتحقيق مع امرأة، كانت صرخاتها تشلع القلب وتوسلاتها تحرق الضمير.. كان العرق يتصبب منه وبعض الدم قد علق بكفيه، قال لي وهو ينفث سيجارته بعد أن جلس على كرسيه الجلدي مسترخياً بكرشه الضخم كثور، قال : إنه لم يحب مهنته قطّ ! لكنه لا يعرف كيف سيق إليها مثل الثور! ! وأطلق قهقهة مجلجلة فيما الرعب يتلبّسني.

أعود لوقفتي البعيدة نسبياً عن العملاق، تعرضتُ للكثير من المواقف ولم أسمح لأي منها بالتأثير فيَّ، لكن لا أدري الآن لم تصيبني الدهشة ! لم أصب بهذا العرض غير الصحي منذ زمن بعيد، اعتدتُ أن اقتات الحوادث بصمت والتي أتمنى أن أتشارك بها مع غيري لأنفِّس عما أعانيه من قهر.. لكني اليوم.. لا أحسّ بأني قادر على الصمت ! أحسني جائعًا للكلام،

أستعيد تفاصيل تلك الحادثة...

كان يوماً اعتيادياً، كنتُ أقف خلفه مباشرة، لحظة التفتّ فجأة مخاطباً الواقف قربه بهمس اخترق أذني كرصاصة :

ـ تخلص منه بأسرع وقت !

وتابع خطواته الواثقة وابتسامته الطهور، ما هي إلا أيام قليلة وسمعنا بحادث «مؤسف» يكون ضحيته ذلك الشاب المتيقّظ الذي حاول أن يصعد بعمله وذكائه وطموحه، لكن خطواته سرَّعت قليلاً عن النسبة المسموح له بها.. شاهدت صور «الحادث المؤسف» على التلفاز مدموغة بالقضاء والقدر، وفي اليوم التالي رافقت العملاق في زيارة كريمة إلى المستشفى حيث سمعته وهو يتمنى له الشفاء العاجل، ولم تمضِ غير سويعات قليلة أسلم بعدها الروح ! وتعهّد له العملاق بجنازة لائقة، وبقيت أخرس، أخرستني الوقائع التي لم يكن مسموحاً لي بمعرفتها،

عندما ذهبنا لبيت العزاء، أحسستُ بيديّ ملطختين بالدماء، لحظة رأيتها ذكّرتني بـ«أمي» - رحمها الله - أمي التي ماتت وهي لا تنقطع عن رجائي بألا ألعب مع الكبار !، مددت يدي معزياً، أحسستني أتقوقع بحقارة، وهي تصافحني، دموعها تحرق قلبي، كأنما هي أمي وقد نهضت من قبرها وتبكي علي.. على موتي.. أمامي ! أيّ عذاب!

عندما خرجنا من بيت العزاء، حاولتُ أن أبتلع الكلمات، لكنها تستنبت نفسها على شفتي.. وجدتني أتمتم بما يشبه الهذيان الذاهل.. ووجه أمي يتماوج أمامي: قلب الأم.. قلب الأم!.. لايخيب!!

لم تمضِ غير دقائق قليلة قبل أن ألتقط الإشارة.. راقبتُ برعب فاق قدرتي على التخيّل.. نظراته الخاطفة الحاسمة والتي أميّز معناها وهي تصوب نحوي!.

في انتظار معاليه..
حسن الأشرف (المغرب)

ـ أرجوك يا أخي هل تنتظر معاليه؟

ـ من معاليه؟

ـ معالي الوزير.

ـ آه، نعم إنني أنتظر معاليه.

ـ هل أنت هنا منذ مدة طويلة؟ على هذا الكرسي؟

ـ أي نعم على هذا الكرسي. منذ ساعة وأنا أنتظر معالي الوزير. يبدو لي أن معاليه لن يأتي هذا الصباح.

ـ هذا الطابور الطويل من الناس ينتظره أيضًا.

ـ كل هؤلاء ينتظرون معاليه؟ يا للهول..

خيم الوجوم على محيا الشاب المصفر من أرق الليلة الفائتة.. لم تذق عيناه طعم النوم... ما كان لينام ليلتها وهو على موعد حاسم في الصباح التالي مع سعادة الوزير المبجل الذي توصل برسالة الشاب التي يشتكي فيها من انسداد جميع الأبواب في وجهه.. حتى بضاعته الهزيلة من الخضر والفواكه استولى عليها أعوان البلدية بدعوى عرقلته للسير في الشارع العام..

تساءل في حرقة بادية على ملامحه المنهكة: هل سيأتي معالي الوزير حقا؟.. سمعه جاره في الكرسي يمجمج كلمات مبهمة فبادره بالسؤال: أراك تحدث نفسك.

ـ أخشى ألا يأتي معالي الوزير.

ـ اسمع، الوزراء عادة يتأخرون في المجيء إلى وزاراتهم..

ـ لكن ليس إلى هذا الحد؟

ـ لا تحتج بصوت مسموع، أرجوك... للحيطان آذان.

ـ ليس في ما أقوله ما يستدعي كل هذه الحيطة من جانبك.

ـ أتريد أن يقضي لك معالي الوزير غرضك الذي أتيت من أجله إلى هنا؟

ـ بالتأكيد.

ـ الزم الصمت إذن.

ـ وهو كذلك..

ـ ما هي حاجتك؟
ـ..................
ـ ألم تسمعني؟

ـ قلت لي قبل قليل أن ألزم الصمت.

ـ ليس دائما.

ـ لا أفهمك يا هذا..

- الحديث عن معالي الوزير بالسوء قد يجر عليك الويلات، أما الحديث عن نفسك أو دوافع حضورك فليس فيه أدنى مشكل

ـ هكذا إذن ترى الأمور..

ـ نعم، وهذا هو عين العقل..

ابتسم الشاب في داخله ابتسامة عديمة الرائحة واللون وهو يرى أن خوف الإنسان حتى من ظله صار عين العقل في هذا الزمن العجيب.. تراءت له سيارة فخمة تقف أمام باب الوزارة. يقف الحارس بإجلال ليفتح الباب. دبت في أوصال الشاب مشاعر مشوبة بالإحساس بدنو الفرج..

ـ إنه معاليه.

ـ معالي من؟

ـ معالي الوزير.. يبدو أن فهمك متأخر قليلا.

ـ لا يهمك فهمي، اهتم بفهمك فقط..

ـ تحدثني بهذه النبرة كأنك قد أزلت حواجز الكلفة بيننا..

ـ لا يهم..لا يهم..

ـ هل هي سيارة معاليه؟

ـ انتظر لحظة.. نعم، هي سيارته لكن ليس فيها غير سائق الوزير و«سكرتيرته» الخاصة.

ـ تبدو على عجلة من أمرها، كأن أمرًا خطيرًا تحمله معها في حقيبتها السوداء.

ـ هكذا تبدو لي أنا أيضا.

ـ مر الزمن متثاقلاً، فعقارب الساعة الحائطية الكبيرة المثبتة في بهو قاعة الانتظار تتحرك ببطء قاتل لا يضاهيه سوى بطء نبضات قلب الشاب الذي بات متأكدًا من كون الأبواب الموصدة في وجهه لن يفتحها معالي الوزير بلمسة سحرية.. ولجت كاتبة السيد الوزير باب الإدارة بسرعة البرق، والدموع تكاد تنط من مقلتيها.. التفتت إلى قاعة الانتظار لتجد صفا طويلا من الناس ينتظرون.. بصعوبة بالغة دفعت بكلماتها الأولى من فمها المتجمد كقطعة ثلج باردة: «معالي الوزير لم يعد وزيرا.. معاليه لن يأتي بعد اليوم إلى هنا.. إنني لم أعد كاتبة خاصة لمعاليه».. وانخرطت الفتاة الأنيقة في بكاء حاد.. تساءل الجميع في استغراب اندهاش: ماذا حدث؟ هل مات معاليه لا قدر الله؟ ردت الشابة بتلعثم واضح: لا.. يا سادة.. لقد أقال الحاكم معاليه من منصبه الوزاري... وسقطت الكاتبة مغمى عليها.. انتفض الجميع لنجدتها. أما الشاب فقد تمتم قائلا: «باب موصد آخر..».

«اللقاء»
سمير البرقاوي (الأردن)

نظرت صوب باب المقهى حين سمعت صوته، مؤملاً من جديد أن تكون قد وصلت أخيرًا، وتساءلت في نفسي:

- هل كان عليّ أن أكون الآن هنا.

نظرت لساعتي التي كانت تجاوزت الرابعة بعشرين دقيقة، ومع هذا فأنا على يقين بأنها ستأتي، ليس لأنها هي التي طلبت اللقاء أصلاً، بل هي التي حددت مكانه وموعده، إذ هاتفتني لتخبرني بصوت متهدج حزين:

- هل يمكن أن ألتقيك.. الأمر ضروري.

وأجيت: طبعًا كما تشائين.

رأيت فتاة تقترب من باب المطعم، أدركت أنها هي، مما جعلني أزداد ارتباكًا وقلقًا، أما هي فقبل أن تقوم بفتح الباب توقفت، وفتحت حقيبتها، وأدخلت يدها، لعلها تبحث عن شيء أو تتأكد من أمر ما، أو لعلها محض عادات أنثوية متوارثة للتأكد من أمور لا تنسى، وإذ انتهت من البحث، دفعت الباب، تقدمت خطوات وبدأت تجول ببصرها بحثًا عني، وحينما خمنت أنها لاتراني، نهضت فشاهدتني وسارت نحوي.

كان عليّ أن أنصت باهتمام بالغ لاعتذارها عن التأخر عن الموعد وأسبابه، وكيف أنها استطاعت بصعوبة بالغة الحصول على رقم هاتفي، على الرغم من هذا كنت مسرورًا لأنها أتاحت لي وقتًا كافيًا يمكنني من أن أتشرب على مهل ملامح وجهها التي كادت أن تغيب عني.

حين جاء النادل توقفت عن الحديث، فسألتها عن طلبها، فأجابت:

- كوب ليمون بارد.

وطلبت لنفسي فنجانًا من القهوة، وبعد لحظة صمت منها أجالت ببصرها في المكان، ثم عادت تنظر إليّ لتسألني السؤال الذي كنت بانتظاره منذ هاتفتني:

- ألم تسمع أخبارًا عن ناصر؟

لم تصبني الدهشة لذلك، لعله صوتها المتهدج ثانية، طريقتها في الحديث وعيناها تبرقان بوميض ساحر، أو اسمه الذي جاء من فمها ليزيدني أسى ولوعة، وحرت بم أجيب، حيث من المستحيل أن أقول لها الحقيقة، لا أريد أن يكون لقائي بها بعد ثلاث سنين قاسيًا عليها، بل كنت أريده حميميًا وأكثر تواصلاً، فقلت لها:

- لماذا تسألين؟ ظننتك تعرفين عنه أكثر مني.

أما هي فقد أجابت وقد اكتسى وجهها بملامح الحزن.

- لم تصلني منه رسالة منذ أكثر من ثلاثة شهور.

جاء النادل بأسرع مما توقعنا، وضع الطلبات أمامنا ثم ذهب، لتتابع حديثها:

- لم تكن رسائله تتأخر أكثر من أسبوعين.

أمسكت كوب الليمون ورشفت منه قليلاً، وكانت ساهمة، ثم وضعته على الطاولة وقد لاحظت على طرفه أحمر الشفاه، فكرت فيما إذا كان من الممكن أن أقول الحقيقة المحزنة لامرأة أحببتها حتى وإن كانت تحب سواي.. ناصر، كنت أحسده وأغار منه، ولكنه مع هذا لم يكن غريمي أبدًا، كان يستحقها وكانت هي الأخرى تستحقه، وهذا ما كان يعذبني ويجعلني أحس أنني منبوذ وبائس. قلت لها محاولاً تهدئة مخاوفها:

- الأمر لا يحتاج إلى كل هذا القلق، ربما كان مشغولاً بعمله.

فقالت: كلا، لا أظن بأن هذا هو السبب.

- هل أنت خائفة عليه حقًا.

فأجابت بما يشبه الهلع:

- نعم أنا خائفة، خائفة عليه حتى الموت، وفي كل يوم يمر دون أن تصلني منه رسالة يزداد خوفي وقلقي، حتى في الليل تنتابني الكوابيس المرعبة فأصحو وأنا أبكي.

أصبحت عيناها شديدتي الاحمرار، لست أدري لماذا تمنيت حينها أن يكون هذا الحزن من نصيبي أنا، حتى ولو كان الثمن الذي كان علي أن أدفعه هو الثمن الذي دفعه ناصر.

تمنيت أن أقول لها الحقيقة، أو أن أملك الجرأة لأقول لها بأنني أحببتها قبله، وأنها خيبتي الأولى، ليتحول العالم من بعدها إلى محض خيبات متواصلة.

تناولت علبة السجائر وقبل أن أشعل واحدة سألتها:

- هل تتضايقين.

لم تجب واكتفت بهز رأسها بصمت، لست أدري لم راقت لي حركة اهتزاز الأقراط المدلاة من أذنيها، قالت وهي تبتسم، على الرغم من الحزن الذي لم يتوار عن وجهها:

- هذه هي السجائر نفسها التي يدخنها ناصر.

هكذا إذن، فهي لاتراني الآن إلا من خلاله، أردت أن أسألها:

- وهل هذا المقهى نفسه الذي كنتما تلتقيان فيه.

ولكني لم أفعل. وغرقنا في الصمت، للحظات كنت أدرك خلالها بأننا سويًا كنا نبحث عن كلمات تقال، هي عما يبدد قلقها، وأنا عما يجعلني أقل حزنًا، سمعتها تقول:

- هل تمانع فيما لو اتصلت بك من فترة لأخرى لأسألك فيما إذا وصلتك أخبار منه، فأنت تعلم بأنه ليس لدي أي اتصال مع أهله.. هل ممكن أن تسألهم عنه.

فهززت رأسي موافقًا بخصوص اتصالها معي وقلت:

- بالطبع اتصلي وقتما تشاءين، بل سأكون مسرورًا لذلك.

نظرت لساعتها وقالت:

- لقد تأخرت.. علي الذهاب.

نهضت وصافحتني، ثم استدارت مغادرة، وجعلت أنظر إليها وهي تخرج من المقهى، وأحسست بأني أغرق في حالة من الذهول والندم، لمَ أكون عاجزًا أمامها دائمًا؟ وها أنا أعجز أن أقول لها الحقيقة وهي بأن ناصر قد مات، إثر سقوطه عن الرافعة التي يعمل عليها، وتهشم رأسه، وأن جثته مدفونة هناك، في قبر بلا زائرين وبلا دموع تذرف عليه. وأن أهله لم يحضروا جثته،لأنه لم يكن لديهم تكاليف نقلها متذرعين بأن والدته مريضة بالقلب ولا يمكنها احتمال رؤيته ميتًا.

لِمَ لَمْ أقل لها كل ذلك وأنهي عذاب قلقها وانتظارها، أو على الأقل لو قلت لها بأني أحبها وأنها عذابي، فحتى بعد أن تعلم هي بموته، تأخذ ما يكفيها، من وقت للحزن. أعلم بأني سأبقى عاجزًا ومترددًا في أخذ مكان ناصر، أن أكون بديلاً له، وأني سأخلق آلاف الأعذار والمبررات لترددي وجبني، وكأني أتلذذ بهذا الجحيم الذي لا أريد أن أخرج منه. حقًا أنا لا أستحقها، كل ما أستحقه هو أن أكون مكان ناصر الآن، في قبره البعيد، ولا أستحق أن أكون في المساحة التي خلفها بموته... سحقت بقايا السيجارة في المنفضة ونهضت مغادرًا.
-------------------------
* كاتبة من سورية.

 


هيفاء بيطار*