الحلم المتمرّد في «غرفة السماء».. القاصة الكويتية ميس العثمان
الحلم المتمرّد في «غرفة السماء».. القاصة الكويتية ميس العثمان
تعال لتصغي طويلاً إلى ثرثرة قلبك الحميمة، فإذا فعلت وارتكبت ما ارتكبت، ستكتشف - حين اطلاعك على «غرفة السماء» - الروائية الكويتية الشابة ميس خالد العثمان. إنها تتكئ على نافذتها في غرفتها السماوية، تغرف لك حبًا يحسن التمرّد على جفاف الصحراء، وغدر البحر، وحزن الأيام من بقايا عام 1935م، بداية أولى الخطوات التي تدخل بك إلى أجواء الرواية، بعيدة في زمن حدوثها وتداعياتها، والمتأثرة بظروف مرحلتها حين كانت دولة الكويت «البيئة الجغرافية للعمل»، لاتزال كشقيقاتها الخليجيات ذات اقتصاد متواضع تشكّل منه مغاصات اللؤلؤ، الأبرز في تحريك عجلة التجارة، ودفع التطورات المجتمعية إلى رفاهيتها ومآسيها، وفرحها وشقاء معيشتها، ملتحمة بتراث بحري بدوي مزدوج. في الجزء المبسط من هذه الرواية، اجترار صورة ماضوية، أشبه ما تكون بذاكرة فوتوغرافية، تراكم حالات سردية مرتبطة ببيئتها البحرية «تاريخيًا» خلقت شخوصها وحوّرت أو حرضت أحداثًا هنا وهناك، حتى عبرت الطريق إلى المجهول، الموت، الحب، الفراق، أيّا تكن هذه التناقضات، فهي بالنسبة إلى ميس خالد العثمان ليست مجرد تناقضات بقدر ما هي إحالات شعورية غارقة في لهجة بوح الأنثى حين «تحب» وتكتوي بنار عشقها، فتستطيع تقديم ملحمة عشق رهيف وطاهر، يغرينا حتمًا بالتحليق حول هذه النار المقدسة، نرقب حبيبين «آمنة وسلمان» علّنا نحصد بعض الدفء المشروع ونلتذ بكئوس مباحة نحتسي نشوتها في «غرفة السماء»، حيث ضمير «الأنا» يفتح رغبات السرد من الفصل الأول، ويضعنا في واجهة الأحداث بشخوص وأبطال عديدين. لكن تأثيرهم لايضاهي «آمنة» أبرز «بطل - فاعل»، افتراضي يتحرك في كل المواقع، ويستهل بداية الرواية، ومشهدًا في سوق الخويمة. فهاهي «بدرة» تصحب «آمنة» إلى غبار هذا السوق يتنفس الصباح المستيقظ في مهمة لاتروق لـ...آمنة، التي تعيش قسوة الحياة في بيت جدتها «نورة»، هذه المرأة الآمرة الناهية شديدة العناد، تلزم بدرة زوجة ابنها بأعباء بيع البيض والجبن في فوضى السوق، وهناك نصيب من الشقاء يكفي الاثنتين! ولهذا الشقاء ألفة تجمع غربة «الداخل» المحتبس في تجاويف ذاكرة «آمنة» الشابة اليتيمة الأبوين، حظها قليل من الدنيا، وتتوه في وسط عائلة كبيرة لا تقيم وزنًا لمشاعرها الصغيرة. هناك صداقة تجمع الاثنين، توفر لنا ضمن خط سير التداعيات الحياتية في الرواية، توفر هذا الحضن الدافئ الذي يلم شتات المسكينة. ولا يخفى علينا كذلك ما للأصوات «الساردة» التي حرّكتها «ميس خالد العثمان» من وجود كثيف ضمن معمارية هذه القطعة الأدبية، حيث تخلصت «هي» كمؤلف لهذا العمل من عبء دور الراوي الذي ألفناه يحرّك كل صغيرة وكبيرة في العمل بالشكل التقليدي المعروف، فتارة تظهر بصوتها، ومرة بصوت «بدرة» ومرة بصوت «سلمان»، حيث توزع الأدوار وتقلبات الصراع، متقمصة هنا مشاعر بعض الشخصيات. وبالنسبة لعمل روائي قصير، توزع على ستة فصول، واحتل 93 صفحة فقط، فإننا نميل إلى إعادة النظر في سير الأحداث، لم تنصهر في غمرة الألم الإنساني، كما كنا نشتهي. تمنينا أن يحدث ذلك الاضطراب المزلزل والعاصف بمختلف منحنيات شخوص العمل، وتشابكات أقدارهم التي تسوق دفة الصراع. «ميس» تنجح في مطبخها الروائي، لكننا لانكاد نتذوق أطباقها المبسوطة على ساحل العمل، حتى نكتشف أنها كان من الممكن أن تكون أكثر لذة، لو تريّثت على نار هادئة، لساهمت في إنضاج الحالة الدرامية لـ «آمنة»، التي أغرقت بحال حزن سلبي حتى نهاية العمل. كنا ننتظر دورًا أكبر لهذه الفتاة التعيسة المكتوية بحزن أيامها، وقد تمسكنا بصبرها، على أمل ضئيل الوقع، أن تنشل جراحاتها وتنهض لكن... أحسب أن روائيتنا الكويتية، بالرغم من رومانسية العمل، فهي تمارس قسوتها كأنثى على كل المتورطين في «غرفة السماء» باحثة عن سمو العشق الأول. فقد زودت بطلتها الرئيسة بذلك الحسّ التمرّدي الخفي، على أعراف المجتمع، مجتمع ظلت تدين عدوانه للحب، وتشجب شبقه بالجسد. الفتى «هلال» اللقيط أنموذج حي، مارس استهتاره وجريمته، واغتنم ثمار «منيرة» المحرمة، التي وهبت جسدها للأجنبي، وخانت زوجها الغائب في رحلة الغوص، ثم هناك بعض التقاطعات هنا وهناك تتوغل في سبر البيئة المحيطة من صحراء وبحر، تذهب بعيدًا في نفوس الناس التي تشكّلها بيئتها، وتؤثر فيها، ولنا أن نتصور «آمنة» فهي - في رأيي - تحوّلت إلى بحر من الحب، وكل مَن يحاول ركوب ظهره يغرق! سلمان.. الوعد القادم لقاء مصادفة فحسب، يترك هذا الوهج الجميل، وما عساه يكون غير طريق مفروش بالأماني الوردية التي تحاول التحليق في سماء الحلم الخرافي، سلمان أبو السقا، شاب مليء بالحيوية والطيبة، حين يطرق باب علاقة جميلة تذهب بعيدًا في حال الحلم. ومَن قال إنه حلم معقّد؟ ببساطته ارتمى على واقع الوجع، وجع اليتم، حيث تشعر «آمنة» بضياعها وكدرها، فكان «سلمان» هذه القشة التي تنقذ غرق المحاص بزرقة الموج. وإن أخذت هذه العلاقة بين الاثنين النصيب الأوفر، والأكثر تأثيرًا من تكوين الرواية، إلا أن أجواء الثلاثينيات من القرن الماضي، أوجدت مع «المتلقي» لهذا العمل فجوة زمنية كبيرة، ليست سهلة الهضم أو يمكن أن توفر إقناعًا كافيًا، «إلا» من حيث هي ارتداد متراجع نحو الماضي، داخل في الحال التوثيقية، بمعنى توثيق مناخات بيئة الثلاثينيات في دولة الكويت، وما جرى على ساحاتها من صرعات اجتماعية وعادات وتقاليد، حين كان هذا المجتمع لايزال على بساطته التكوينية وتركيبته الطبقية قبل فترة الطفرة النفطية. وعادة ما يكون الحب، عنصرًا محركًا بالغ التأثير، تتوالد عنه تساؤلات واستفهامات حول الواقع، تنحو تمامًا نحو محاسبة هذا الواقع، أو حتى الثورة عليه ومناوأته. وفي صورة «سلمان» الحبيب والوعد القادم، شكل نمطي مستهلك لم تقدم فيه المؤلفة جديدًا، ولا حتى هذا الحبيب تمكن من تبرير حبه أو تفسير مشاعره. إذن فهو واقع تحت تأثير بيئته الصحراوية، تمامًا مثل كثبان الرمال لا تستطيع إلا أن تتشرّب المطر، وهذا يكشف وجه «سلمان» من حيث هو قادر على إعطاء «الحب» وليس تفسيره! هكذا نتوصل إلى حقيقة مفادها أن العربي قلما يعثر على الصورة المثالية للحب، في أن يتوجه إلى حب المرأة بجمال عقلها ويحترم شخصها. وليس الغرق في عبادة جسدها والانصهار في شهوته وإعلائه كجانب مادي يؤطر العلاقة فقط. وما استياء «آمنة» من صمت حبيبها وحيرة جوابه عن سؤال الحب، إلا مؤشر خيبة الأنثى التي تريد نبش باطن الرجل، في قلق العاطفة وهاجسها، والتي تعني للطرف الأضعف مزيدًا من الأمان، ترتكز عليه تطورات المستقبل للخلاص من حال العذاب. الأنثى ولغز العشق حين يتمكن من قلبها وينصهر في دمها ما عساه غير الحب الآتي؟ بطلة الرواية تموسق الحزن، أو تجدله في ضفائرها، ولربما تخفيه تحت خمارها، ولكنه في النهاية، هذا الحزن الشفاف الذي يواري خلفه سؤال المجهول، حين بدأت حكايتها مع سلمان. هاهنا حال نبش متواصلة لمكنونات النفس الإنسانية، ميس العثمان لا تصرح بقلق الأنثى، وإن فعلت فهي تتوخى حذر التصريح، كما فعلت «آمنة» بفضح سر عشقها المرتكب إلى رفيقتها وزوجة خالها «بدرة» التي دافعت عن هذا الحب، وأحبته وشجعت انطلاقته وتمرّده. ميس لم تقل الكثير في ثنايا موقف «بدرة» لكننا نستنتج باطن الأمر، ونعرف أن بدرة امرأة مطلقة أساء إليها زوجها السابق، إنما هي ضحية مجتمع ذكوري متسلط يهضم حقوق المرأة، وهذا بحد ذاته يدفع رغبة التمرد للطفو فوق السطح. ويكشف لنا امرأة وقعت ضحية زواج تقليدي قائم على هذه السلطوية، مما أدى إلى إخراج ما هو مكبوت. والمكبوت هنا ليست رغبة التمرد، بل هي حال سيكولوجية، اعترت بدرة، تقمصت شخصية رفيقتها، أملاً في إشباع رغبة التجربب والخلاص من الواقع، في الوقت ذاته «آمنة» ملت إخفاء حبها، وهذا يجعلنا نقدّر جرأة الفتاة في محاولة حفظ حقها، وأن تصنع قدرها بلا وصاية من أحد. لكن هذه الجرأة لم تكن بالمستوى المتوازن، الموصل إلى حد إعلان الحب، وأخذ الأمور في مسارها الصحيح، خصوصًا أن جدة البيت، تمثل سلطة مجتمعية ضمن نطاق البيت. أيضًا «آمنة» قد غامرت بقصة حبها أو تعريضها لخطر الانفضاح، حينما كثرت اللقاءات الغرامية السرية! أتكون قد ضمنت بقاء السر؟ ربما، آمنة قد اعتبرت بدرة ساحة أمان نفسي تحتاج إلى دعمها المعنوي مثل فتاة وأمها. صراع محتدم دون كيشوت جابه طواحين الهواء فوق صهوة جواده العجوز، وقد غرق في أوهامه، وخاض معارك كثيرة خاسرة قبل أن تبدأ! ميس العثمان.. مَن تواجه في «غرفة السماء؟». سمة بارزة نجدها في العمل، إنها تعمد إلى محاولة فهم هيكلية المجتمع، وربما تفكيك بعض هواجسه لإعادة صياغة مفاهيم جديدة، لعل أبرزها حضورًا البحث عن صيغة تعايشية تضمن حرية المرأة، وهذا تعاطٍ ينحو منحى المواجهة والصراع مع سلطة الرجل في المجتمع الشرقي. لا أعتقد - طبعًا - أن روائيتنا تخوض هاهنا صراعات خاسرة، بل إنها تعمد إلى إحداث زوابع صغيرة من الوعي الحضاري، الذي يمهّد الطريق لخلق مشاكة حياتية بين الرجل والمرأة، ولربما نموذج الجدة الصارمة مثال على قدرة المرأة وفاعليتها في الإدارة وجدارتها بالمنافسة والتكامل مع الرجل تقف معه لا ضده. الأجواء مشحونة بالصراعات - غرفة السماء يمكن أن نعتبرها عالمًا من النساء يفشين أسرارهن التي هي في الأساس قصص متناثرة أطرها صراع الداخل، هذه النفوس المحبطة المخنوقة، وها نحن حين نكبر وتكبر الحياة في قلوبنا، نفقد براءتنا الأولى، وهذه هي ضريبة الحياة! ماهو رائع... ما هو مختبئ! ما هو رائع فعلاً في «غرفة السماء»، وأقدمت عليه ميس خالد العثمان، هو أنها لم تحفل بالإشكالات النقدية، التي تختلف على اللهجة العامية وتوظيفها، أو العكس ضمن نطاق العمل الأدبي، فقد وجدنا في أكثر من موضع كلمات عامية دارجة، تمسكت بها الكاتبة لإيمانها أنها تمثل نكهة وطابع البيئة الخليجية التي تولدت عنها. وتجسّد هذا أكثر صدقًا مباشرة مع المقطوعات الشعرية الشعبية، التي تحمل تراث الكويت، وتمثل غنى بيئتها وحضاريتها. ومن غنى البيئة إلى غنى آخر أخذ عباءته في الرواية، وهو غنى المضمون التراثي من طقوس عاشها المجتمع البحري وجسّدتها الرواية بهدوء جميل. وكم هو رائع، كذلك «سلمان» الذي آثر بقاء الرابطة الجميلة، وتحمل غربة وخطر البحر بحثًا عن «مهر» يقدمه قربانًا لقصة حبه وإخلاصه، ليكون أكثر نبلاً من زمنه الذي خذله فغيّبه. فكان النقيض الصارخ من شخصية «هلال - اللقيط» ذي الشخصية الحيوانية، التي تشرّبت حياة «اللا أصل» والظلمة. كما لا نغفل دور اللغة وانثيالها الهادئ في مفاصل العمل وزواياه، فقد شكّل انطلاقات رقصت على صفحات الرواية، مثلت توترًا متصاعدًا يسير بكل طمأنينة متلازمًا مع سردية خفيفة الوقع، سيطرت على مختلف المواقف دونما جفاف يستعصي على القارئ، لكونها سلسلة متواترة النمو. وسهلة الهضم، وبسيطة الوصول. مثل وصول «آمنة» إلى قلوبنا وتعاطفنا معها، مع محنتها وتقلّبات مشاعرها الأنثوية الأقرب إلى مرارة الواقع الذي حاصرها، وبالرغم من ذلك حتى الغياب، «الموت» تفادت مرارته في نهاية المطاف، وظلت تحدّث حبيبها وكأنه لم يفن في فم البحر الغادة، مفتوح الجهات. آثرت «ميس» ترك روايتها ومصير بطلتها المحورية «آمنة» مفتوحًا هو الآخر على مختلف احتمالاتنا. قد توقفنا عند هذه المحطات الفنية الراقية الإحساس، توقفنا عندها في رواية «غرفة السماء» ودائمًا - كما أود التأكيد لتوخي المصداقية - قدمنا هذا الجهد «لا» لندّعي الاشتغال النقدي الصرف، إنما لنقدم محاولة قراءة جمالية انطباعية تعكس رأي كاتبها، ربما يصيب، ربما يخطئ.
---------------------------------- ومتعبُ العيسَ مرتاحاً إلى بلدِ الإمام الشافعي
|