اختراع المستقبل.. د. أحمد أبوزيد

اختراع المستقبل.. د. أحمد أبوزيد

من أهم الخصائص التى ينفرد بها الجنس البشرى عن الكائنات الأخرى القدرة على النظر والتفكير فى المستقبل، لدرجة أن بعض علماء الأنثروبولوجيا الأوائل ذهبوا إلى أن هذه القدرة ترتفع وتتطور مع التقدم الحضارى، ولاتتوقف عند حد محاولة استشراف المستقبل بشكل عام، بل تمتد إلى جوانب أخرى كثيرة لها أبعاد إيجابية مثل تحديد نوع ومعالم المستقبل والعمل على تشكيله بما يتفق ورغبات المجتمع بصرف النظر عن مدى إمكان تحقيق ذلك على أرض الواقع.

إذا كان عالم الأنثروبولوجيا جوردون تشايلد تكلم عن الإنسان الذى يصنع نفسه، فى كتابه الشهير بهذا الاسم «Man Makes Himself»، فإن هناك من يتكلم الآن عن الإنسان الذى يصنع مستقبله أو يخترع ذلك المستقبل. فالمستقبل صناعة بشرية قبل كل شئ، والانشغال بذلك الاختراع يخفى وراءه بعض نزعات التحدى والتمرد على الوضع القائم، والرغبة فى التحرر من فكرة قدر الإنسان الثابت الراسخ، الذى لامفر منه، أى أن فيه رفضا لمفهوم القدرية، والتسليم بالمصير المحتوم والمقدّر سلفا.

والظاهر أن الإنسانية لم تكن فى أى وقت من الأوقات أقدر منها الآن على تشكيل المستقبل تتيجة للتقدم العلمى والتكنولوجى الهائل واتساع آفاق المعرفة والاتصال الذى يشمل كل كوكب الأرض ومعرفة إيجابيات وسلبيات الثقافات والشعوب واحتياجات العالم فى المستقبل. فالإنسانية تواجه الآن أكبر تحد وأخطر تغير خضع له العالم فى تاريخه الطويل، ولم تعد التغيرات المتلاحقة تثير كثيرا من الدهشة، بل إن هناك توقعات بتغييرات أكبر وأعمق مما قد يتصوره العقل فى الوقت الراهن، ولكنها توقعات يكمن وراءها التفكير الإنسانى المبتكر الخلاق. وكثير مما يكتبه المفكرون الآن يشير إلى أن التغيرات التى حدثت فى العقدين الأخيرين تفوق كل ما طرأ من تغيرات على المجتمع الإنسانى خلال كل مراحل التاريخ، وأنها كانت تصدر دائما عن رؤية استراتيجية واضحة للمستقبل وأن مايعرف فى الكتابات الأنثروبولوجية باسم «الإنسان العاقل» هو الذى يهتم بالمستقبل، لأن هذه هى المساحة من التجربة الإنسانية التى يمكن للمرء أن يفعل فيها مايشاء. فالإنسان عاجز - بحكم الواقع - عن تغيير الماضى، كما أن الحاضر لن يلبث أن يختفى عندما نرصده، أما المستقبل فهو وحده الذى نستطيع التحكم فيه والتخطيط له. فللإنسان قدرة على اختراع المستقبل ولو فى حدود معينة، وهذه القدرة هى التى أوجدت المجتمع الإنسانى بالصورة التى هو عليها الآن، كما يقول دنيس جابور Denis Gabor الحائز على جائزة نوبل فى الفيزياء لعام 1971. ولكن الملاحظ هو أنه على الرغم من كل ما أحرزه الإنسان من اختراعات فى المجال التكنولوجي، فإنه أغفل إلى حد كبير جدا المجال الاجتماعى الذى يجب إعطاؤه أولوية مطلقة. وهذه قضية تعرض لها جابور نفسه فى أكثر من كتاب، وهو على أي حال صاحب مقولة إن أفضل وسيلة للتنبؤ بالمستقبل هى أن نخترعه.

بيد أن فكرة «اختراع» المستقبل أقدم من هذا بكثير، والبعض يردها إلى كاتب مسرحى فرنسى عاش فى القرن الثامن عشر وهو لوي سباستيان مرسييه Louis-Sebastien Mercier الذى نشر عام 1771 كتابا بعنوان «عام 2440» L'An 2440وهو فى الأصل رواية يرى فيها البطل أثناء المنام نفسه يناقش صديقا له من الفلاسفة، عن الأوضاع السيئة فى فرنسا فى ذلك الوقت، ثم ذهب لينام بعد تلك المناقشة، فإذا به يرى فى حلمه باريس فى عام 2440 والتغيرات الكثيرة التى طرأت على الحياة الباريسية، بحيث اختلفت اختلافا جذريا عن باريس الواقع عام 1771 وأن هذه التغيرات طالت جوانب عديدة مثل إعادة تخطيط الأماكن العامة، ونظام العدالة وزوال سلطة رجال الدين واختفاء البطالة والشحاذين والجيوش التى ليس لها عمل حقيقى أو ضرورة، واختفاء الرق والعبودية والاعتقالات التعسفية والضرائب الباهظة والمقاهي، وغير ذلك من المظاهر التى تعوق سعادة الناس وإحساسهم بالراحة، وأن ذلك كله حدث بفضل جهود الناس الذين يؤمنون بضرورة وإمكان التغيير. فقد كان مرسييه يأمل فى أن يأتى اليوم الذى يتطهر فيه العالم من البؤس والشقاء، ولذا شغل نفسه بوضع مخطط لمثل ذلك المجتمع المستقبلى بعد سبعمائة عام. وكانت نقطة الانطلاق فى تأليف ذلك الكتاب / الرواية هى مقولة الفيلسوف لايبنتس Leibnitz عن أن «الحاضر مفعم بالمستقبلى».

فالإنسان فى رأى مرسييه هو صانع لمستقبله وقدره ومصيره عن طريق الاستخدام الأمثل لقواه الذهنية وملكاته العقلية وقدراته الإبداعية فى التغلب على الصعوبات ومعوقات التقدم والارتقاء. فالعامل البشرى هو الأساس فى اختراع المستقبل ونشر فكرة التقدم، وبخاصة بعد اختراع الطباعة التى يصفها بأنها «هبة لاتُنسى من عبقرية السماء»، ولكن إلى جانب ذلك كانت هناك ريح الحرية التى بدأت تهب على الساحل الشرقى من العالم الجديد، وتمتد إلى الساحل الغربى من العالم القديم (أوربا)، لتغير حياته تغييرا جذريا لن يرجع بعده أبدا إلى ما كان عليه. فلن يقف شيء أمام انتشار الحرية التى سوف تساعد الإنسان على تشكيل حياته ومستقبله باختياره هو الحر الطليق. ففى أى مجتمع يقوم على القهر والتحكم والخضوع للأوامر الصارمة،توجد بذور التغيير الصادرة عن الإحساس بالتوتر والإحباط نتيجة التباين بين ما هو موجود وما يجب أن يوجد. وكثيرا مايصل هذا التوتر والإحباط إلى حد الانفجار حتى يتخلص المجتمع من حالة العبودية التى فرضها بنفسه على نفسه، حين ارتضى الخضوع لحكم الملكيات المستبدة والكنيسة الكاثوليكية، ولذا يجب التخلص من الأساطير السياسية واللاهوتية وإحلال العقل محل الخيال والوهم. وقد بلغ ذلك التوجه نحو تحكيم العقل فى شئون المستقبل ذروته مع بدايات القرن العشرين وظهور كتاب مرموقين اهتموا بالمستقبل وكان من أهمهم الكاتب الإنجليزى الشهير إتش. جى.ولز H.G. Wells. ويعتبر كتابه « اكتشاف المستقبل «Discovery of the Future الذى صدر عام 1902 من أوائل الأعمال التى تقوم على أساس الفكر المستقبلى، وكان الكتاب فى الأصل محاضرة ألقاها ولز أمام الجمعية الملكية بإنجلترا The Royal Society.

وكان من الطبيعى أن يدلى علماء الاجتماع فى الولايات المتحدة بوجه الخصوص بآرائهم وبحوثهم بشأن دور الإنسان فى صناعة المستقبل أو اختراعه. وربما كان من أوائل هؤلاء العلماء وليام أوجبرن William Ogburn الذى كان يجمع بين علمي الاجتماع والإحصاء، وحاول أن يبين الاتجاهات الأساسية فى المجتمع الأمريكى فى الثلاثينيات فى عدد من المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية، وكان ذلك ركيزة لقيام الفكر المستقبلى الحديث. وقد شاهدت الفترة بين الأربعينيات والستينيات من القرن الماضى الأسس المنهجية للبحوث المستقبلية بأسلوب أكاديمي دقيق، كما شاهدت العقود التالية ظهور عدد كبير من الكتّاب والمفكرين المستقبليين، وتفاوتات فى المناهج وطرق البحث وأساليب التفكير، وظهرت أسماء لها وزنها فى ذلك مثل أيزاك آسيموف وآرثر كلارك، وبدأت الأجيال التالية تنظر إلى المستقبل من زاوية التفكير الشامل فى كل شيء، خاصة بعد اكتشاف الفضاء والكشوف العلمية فى مجال الوراثة الجينية مع اتساع نطاق الرؤية المستقبلية لكى تحيط بمجالات جديدة تماما مثل البيئة وبعض المجالات الأخرى التى تعتمد على التفكير العقلانى والتجريب والتطورات التكنولوجية المتسارعة. وقد أشبع كتاب توفلر الشهير عن «صدمة المستقبل» الرغبة فى التأمل فى المستقبل وذلك حين ظهر فى عام 1970 وفيه يبشر بأن مايبدو خياليا، أو مجرد وهم، فى الوقت الراهن سوف يتحقق فى المستقبل من خلال الجهد البشرى، ولذا يعتبر الكتاب دعوة للتخلص من أعباء الماضى وعبودية الحاضر، وهو أمر يتطلب وضوح الرؤية عما يمكن اختياره من مختلف أساليب وأنماط الحياة، أو مايسميه Diversity of Lifestyles، وإن كان هناك فى الوقت نفسه من يشككون فى إمكان قيام «علم» للمستقبل على أساس أن المستقبل لم يوجد بعد، وأن الأشياء لاتوجد إلا فى الحاضر.

ومع ذلك فإن كتّاب الخيال العلمى يستلهمون أفكارهم من التطورات الاجتماعية والتكنولوجية التى قلبت الأمور رأسا على عقب، لدرجة أنه يبدو أن المستقبل يسارع نحو الحاضر بخطى واسعة وسريعة تترك الإنسان فى حالة من البلبلة والضياع فى كثير من الاحيان. وهذه التغيرات السريعة هى التى أدت إلى ظهور جماعة المستقبليين The Futurists الشهيرة فى الولايات المتحدة وأنشطتها وإصداراتها العلمية ومجلتها، التى تعرض لكثير جدا من مشكلات المستقبل والتفكير المستقبلى على مستوى علمى رفيع. وقد يذهب بعض هؤلاء المستقبليين إلى أنه إذا كان فى الإمكان التنبؤ بالمستقبل فإن ذلك معناه أن المستقبل غير قابل للتغيير بينما نحن نشغل أنفسنا طيلة الوقت بالبحث عن الطرق والوسائل التى تساعد على تشكيله وصياغته أو اختراعه. فالإنسان لايستسلم تماما للمستقبل، بل إنه يصوغه ويخترعه ويصنعه، ولقد سبق أن ذكرنا أن دنيس جابور صاغ فى ذلك مصطلح اختراع المستقبل. فالمستقبليون يرفضون فكرة أن المستقبل محدد من قبل، لأته يخضع فى آخر الأمر لاختيارات البشر، وأن الجنس البشرى قادر على تشكيله عن طريق الاختيارات الواسعة المتاحة له، وإن كان المفكرون والكتاب الأصوليون يعارضون التجديد والحداثة، ولكن تطورات الأمور تضطرهم فى آخر الأمر إلى التسليم بالواقع.

ولقد وضعت مجلة The Futurist مجموعة من الاحتمالات التى يجب أن تؤخذ فى الاعتبار لاختراع المستقبل الذى يمكن تحقيقه خلال العقدين القادمين، وهى احتمالات تعتمد إلى حد كبير على قراءة الواقع والتغييرات التى تطرأ عليه وما يمكن أن تؤدى إليه هذه التطورات. فثمة احتمال - مثلا - بأن الكرة الأرضية على شفا الاختفاء وأن القرن الحادى والعشرين سوف يشهد اندثار من مائة إلى ألف نوع من التنوع البيولوجى المميز للحياة على سطح هذا الكوكب، وهي أكبر حالة اختفاء منذ بداية البشرية. وذلك إلى جانب التزايد الرهيب فى استهلاك الموارد الطبيعية والتدهور البيئى مما يتطلب وجود وسائل فعالة للسيطرة على تلك الأوضاع الخطيرة. وجانب كبير مما سيحدث فى المستقبل يتوقف على كيف يسلك البشر أنفسهم، لأن المستقبل هو قرار بشرى قبل كل شيء , ففى عالم سريع التغير يحتاج الأمر إلى سرعة اتخاذ القرار المدروس بعناية، مع الأخذ فى الاعتبار الاتجاهات السائدة كما هو الشأن مثلا بالنسبة إلى مشكلة نقص المياه التى سوف تواجه العالم وكذلك بالنسبة إلى الزيادة غير المحسوبة فى السكان، خاصة فى العالم الثالث.

وليس ثمة شك فى أن اختراع المستقبل يعطى للوجود الإنسانى معنى، حيث يشعر الإنسان بأنه يسهم فى صنع عالم الغد بشكل إيجابي، يتفق مع الطبيعة البشرية، وأن فى استطاعته خلق عالم أفضل من العالم القائم بالفعل وأنه مسئول عن توجيه الغد نحو آفاق مثيرة تدعو إلى الدهشة. كذلك يحتاج اختراع المستقبل إلى وقت وجهد وتفكير وثقافة واتساع أفق وقدرة على التخيل والإبداع وإحاطة بأوضاع العالم وسير الأمور وإدراك للمتطلبات المستقبلية. ومع ذلك فإن كثيرين من الكتاب يرون أن ما يمكن للإنسان الواعى المدرك المبدع أن يحققه فى فترة قصيرة نسبيا قد يفوق الخيال. ففى أربع سنوات فقط أمكن إطلاق عقال قوة الذرة وخلال ثمانية أعوام أمكن للإنسان الوصول إلى القمر، وذلك بفضل حسن التخطيط والمثابرة والتصميم على النجاح ووضوح الرؤية والهدف، ومافعله بيل جيتس يستحق التفكير وإمعان النظر وفقاً لما فى إحدى نشرات «جمعية مستقبل العالم» وهى تشرح أهداف الجمعية. وهذا لايعنى أبدا التنكر تماما للماضى الذى يعتبر موجها رائعا للمستقبل، إذا عرفنا كيف نستفيد منه فى تحديد خطواتنا نحو التقدم. والواقع أن كل فرد من البلايين الستة الذين يسكنون هذا الكوكب يشارك بشكل أو بآخر فى تشكيل المستقبل من خلال سلوكه وأفعاله حتى وإن بدت ضئيلة وثانوية. ولذا يرى المستقبليون أنه إذا كان التسليم بالقدر فيه نوع من الراحة النفسية فإنه يدفع إلى السلبية. وقد ذهب ولز خطوة أبعد من استشراف المستقيل حين تكلم عن اختراع آلة الزمنThe Time Machine التى تتيح للإنسان الانتقال لرؤية هذا الزمن بالفعل وإن كان ذلك على مستوى الخيال.

إلا أن ذلك لم يمنع كثيرين من الشعور بعدم الراحة إزاء انتشار فكرة إمكان الإنسان «اختراع» المستقبل، وليس الاكتفاء باستشرافه أو التنبؤ، به ويرون أن الإنسان يتجاوز حدوده مما قد تكون له نتائج سلبية على فكرة التقدم ذاتها. وقد عبرت مبني هايت ميدي عن ذلك الشعور فى كتابها Once Again in Chicago (1933) حين قالت: «لست أشعر بالراحة حين أرى النظام القديم يتغير». ولكن ولز يقول فى المقابل: « ليس الماضى سوى بداية البداية، وكل ما هو كائن الآن وما كان موجودا من قبل ليس سوى بشائر الفجر الجديد» وذلك فى كتابه The Outline of History، بينما يقول جيمس أوثمر James P. Othmer فى كتابه The Futurist: «للعلم قلب وللتقدم ضمير، والمهم هو أن ينظر الإنسان إلى التقدم الذى تم إحرازه حتى الآن ويدرك ان هذا التقدم لايزال يحظى باهتمام وعناية أشخاص يشعرون بالمسئولية نحو الأجيال القادمة».

فهل يمكن لنا نحن أن نعى الدرس فى عالمنا العربى المتخلف, الذى لايزال يرسف فى قيود الماضى ويستمرئ الارتكان إليه، ويرى فيه الراحة وهدوء البال، ويترك للآخرين عبء ومشقة اختراع المستقبل، على أن ننعم نحن فى آخر الأمر بنتائج هذا الاختراع?!.
-----------------------------------------

إِذا المَرءُ لا يَرعاكَ إِلاّ تَكَلُّفاً
فَدَعهُ وَلا تُكثِر عَلَيهِ التَأَسُّفا
فَفِي النَّاسِ أبْدَالٌ وَفي التَّرْكِ رَاحة
وفي القلبِ صبرٌ للحبيب ولو جفا
فَمَا كُلُّ مَنْ تَهْوَاهُ يَهْوَاكَ قلبهُ
وَلا كلُّ مَنْ صَافَيْتَه لَكَ قَدْ صَفَا
إذا لم يكن صفو الوداد طبيعةً
فلا خيرَ في ودٍ يجيءُ تكلُّفا
ولا خيرَ في خلٍّ يخونُ خليلهُ
ويلقاهُ من بعدِ المودَّة ِ بالجفا
وَيُنْكِرُ عَيْشاً قَدْ تَقَادَمَ عَهْدُهُ
وَيُظْهِرُ سِرًّا كان بِالأَمْسِ قَدْ خَفَا
فسَلامٌ عَلَى الدُّنْيَا إذا لَمْ يَكُنْ بِهَا
صديقٌ صدوقٌ صادقٌ الوعدِ منصفا

الإمام الشافعي

 

 

أحمد أبوزيد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات