الفحص بالمنظار أهم تطور طبي معاصر.. د. منذر الدقاق

الفحص بالمنظار أهم تطور طبي معاصر.. د. منذر الدقاق

عرف الطب في النصف الثاني من القرن الماضي تطورًا سريعًا مذهلاً، كان من نتائجه إقامة التشخيص الباكر مما سمح بشفاء سريع، أعقبه إطالة متوسط العمر لحياة الإنسان من (50 - 60) عامًا إلى (70 - 80) عامًا.

كان من أهم أدوات هذا التطور السريع المتتابع، استعمال التنظير الباطني في التشخيص والمعالجة، وقد عرفه الطب في القرن التاسع عشر بشكل بدائي محدود، ليرقى في القرن العشرين إلى وسيلة مهمة وفعّالة في التشخيص والمعالجة والشفاء الكامل السريع.وكان أول من أشار إلى الشخيص الدقيق من خلال التنظير الباطني (هيبو كرات) Hippocrates (40)عامًا قبل المسيح، حين أشار إلى إمكان استعمال جهاز قصير يدخل عن طريق الشرج لرؤية الإصابة الداخلية، وتحديدها مباشرة... وكم هو طريف أن يعود هذا العالم التاريخي ليشاهد ما وصل إليه التنظير، وكيف أنه يدخل الآن كل أطراف جسم الإنسان من خلال فوهات طبيعية (الفم، الأنف، الشرج)، أو من خلال فوهات صغيرة يصنعها مبضع الجراح في البطن والصدر، يدخل من خلالها لرؤية مباشرة لأي إصابة مرضية، بعد أن كانت الأشعة تقدم الرؤية بصورة غير مباشرة ولا تسمح بتحديد مؤكد لنوع وعمق الإصابة.

وأتى (أديسون) في القرن التاسع عشر ليكتشف المصباح الكهربائي لاستعماله في تأمين رؤية واضحة من خلال المنظار، وأتى من بعده (هوبكنز) Harold Hopkins لوضع الضوء داخل المنظار ليسمح بالرؤية الكاملة للإصابة.

كيف تطور التنظير؟

سمح اكتشاف الألياف الضوئية في اليابان في منتصف القرن الماضي بصنع أجهزة التنظير من ألياف ضوئية بدل المعدن الصلب، مما شكّل مرحلة مهمة في تطوير التنظير الداخلي، وقد سمح ذلك بالدخول السهل إلى الأجواء غير المنتظمة من خلال مرونة الألياف الضوئية والانحناء بكل الاتجاهات.

وسمح هذا الاكتشاف بدخول أجواء الأعضاء ورؤية الإصابة المرضية مباشرة في التنظير الهضمي، وأصبح دخول المنظار المرن عن طريق الفم (وأخيرًا الأنف) سهلا لعبور المريء ودخول المعدة ومنها الأمعاء. وغدا تنظير القولون المتعرج ممكنًا من خلال المنظار المرن، وإدخاله عن طريق الشرج، وأمكن بسهولة رؤية القرحات والالتهابات بأشكالها والأورام بأنواعها، وسمح هذا التشخيص السريع والمباشر بمعالجة فعالة دقيقة، وعديدة هي الأورام التي يتم استئصالها من خلال المنظار دون اللجوء إلى فتح البطن جراحيًا.

وتطورت أجهزة التنظير لتسمح بدخول الأقنية الضيقة في الطرق الصفراوية والمعثكلة (البنكرياس) لاستئصال الحصيات، وتوسيع التضيق بسهولة بشكل لم يكن يحلم به الطب في القرون الغابرة. وكان التنظير من خلال أجهزة صلبة صعبًا ومحدودًا عن طريق الفم لرؤية المريء وبعض أطراف المعدة أو عن طريق الشرج لرؤية المستقيم والسين، وأتت أجهزة الألياف الضوئية المرنة ليسمح بالدخول عميقًا عن طريق الفم إلى الأمعاء والأقنية الصفراوية والمعثكلة، أو عن طريق الشرج لرؤية كل أطراف القولون حتى الدقاق (نهاية الأمعاء الدقيقة) وسمح تنظير البطن من خلال فوهة صغيرة يفتحها الجراح بالمبضع برؤية الأحشاء من خارجها، وأخذ خزعات مباشرة من الإصابات التي قد يراها.

أبعاد التنظير

ولا يقتصر التنظير على جهاز الهضم، بل هو مطبق في الأجهزة الأخرى، والتنظير ممكن ومطبق في المثانة والطرق البولية، وفي الرحم وفي الصدر، حيث يدخل القصبات، ومن الممكن أن يدخل المفاصل ليصلح الأربطة، وأصبحت أجهزة التنظير المختلفة مربوطة بجهاز فيديو ليسمح بالرؤية المباشرة على الشاشة، وفي الوقت نفسه يلتقط صور كل إصابة مرضية يصادفها الطبيب.

ويجدر أن نضيف أن أجهزة التنظير تسمح بنفخ الهواء لتوسيع الجوف، وتوضيح الرؤية، كما أنه يسمح بإدخال الماء لغسل وتنظيف ساحة التنظير، إذا كانت مغطاة بمفرزات في المعدة أو بقايا البراز في القولون، كما أن الأجهزة ذات أقنية يمر منها ملقط الخزعة لأخذ خزغة، أو مقص لاستئصال الأورام الصغيرة، ومنها المرجلات (البوليب).

تنظير البطن

أما تنظير البطن فيمكن أن يتم من خلال جهاز صلب يسمح برؤية الأحشاء: الكبد، الطحال، الباريطوان. والتنظير الباطني يسمح، كما أوضحنا، بتشخيص الإصابة من خلال رؤيتها مباشرة، ويتأكد من نوعيتها من خلال أخذ خزعة، وفي الوقت نفسه يسمح بالمعالجة من خلال استئصال الإصابة عبر المنظار في كثير من الحالات.

وأتت أخيرًا الجراحة التنظيرية التي بدأها الطبيب الجراح الفرنسي (فيليب موري)، وقد أجرى أول مداخلة في الجراحة التنظيرية عام (1987) ونجح في استئصال مرارة مريض عن طريق منظار البطن، وانتشرت الفكرة في أرجاء العالم، وتوسعت استطبابات هذا النوع من الجراحة لتشمل الزائدة الدودية وأمراض اتصال المعدة بالمريء، وأهمها الفتق الحجابي، واستئصال الرحم وإصلاح الفتوق. ووصل الأمر أخيرًا إلى حد استئصال ورم في القولون، ولابد من نفخ البطن بغاز Carbon Dioxide لتوسيع جوف البطن بحيث يتمكن الجراح من العمل في حقل جراحي واسع، ويقوم بشق صغير قرب سرة البطن لإدخال جهاز التنظير ويفتح ثلاثة ثقوب صغيرة في أنحاء البطن لإدخال الأدوات الجراحية لاستعمالها في عملية النفخ والتسليخ والاستئصال والربط. ويقدر الأدب الطبي أنه (70 - 75)% من العمليات الجراحية في أطراف العالم تتم الآن عن طريق منظار البطن.

وتكمن فائدة الجراحة التنظيرية في أنها لا تتطلب سوى إقامة قصيرة في المستشفى قد لا تتعدى اليومين، وأنها أقل رضا من الجراحة التقليدية، والاختلاطات الإنتانية نادرة وتختص بسرعة الشفاء. ولا تقف الجراحة التنظيرية عند البطن، بل إن أطباء المفاصل (وخاصة الركبة والكتف والمرفق) يستخدمون الجراحة التنظيرية في معالجة أمراض المفاصل، وذلك بإدخال منظار في المفصل، ومن خلاله يقوم بإصلاح الأربطة. أما أطباء الأمراض النسائية، فيقومون بمداخلات الرحم والمبيض والبوق من ربط أو استئصال ويمكن أن يستعينوا بالفيديو للعمل على شاشة واسعة تساعد على الدقة في إنجاز العمل الجراحي.

تطورات حديثة

ومن ملحقات التنظير الباطني استعماله مقرونًا بأمواج فوق الصوت، وقد انطلق هذا الجمع في اليابان عام (1987) ثم انتشر في أطراف العالم وأصبح أحد الفحوص الأساسية في استقصاء الإصابات العضوية في جهاز الهضم وخاصة الأورام في بدئها، ويحدد ضخامة العقد اللمفاوية، إذ يكشف جمع هذين الجهازين في جهاز واحد، جدران الأعضاء وداخلها، بالإضافة إلى صورة ذات ثلاثة أبعاد لداخل الجسم.

مكاسب طبية

وهكذا نرى أن التشخيص في الطب كان يعتمد على ما تقدمه الأشعة في مختلف الاختصاصات، من صور لداخل الجسم، إنما ينقصها تحديد عمق الإصابة ومداها، ومن خلال التنظير دخل الطب إلى داخل جسم الإنسان يطوف في أرجائه ويكشف كل علة قد تمتد إليه.

ولابد أن نلاحظ أن الاختلاطات قليلة جدًا وتظهر فقط لدى من تنقصه الخبرة في استعمال التنظير، ومن خلال عشرات الألوف من التنظير الهضمي التي تمت خلال 38 عامًا - بدأت عام 1970 - لا أذكر أي تأثير جانبي لشتى أشكال التنظير الهضمي، وكانت أكثرها - بل كلها - تتم من دون استشفاء المريض، وما أندر الحالات التي تمت مع التخدير، وكل ما نستعمله هو إعطاء حقنة وريدية مهدئة للمريض تجعله يتحمل التنظير كاملاً.

وفي السنين العشر الأخيرة، أصبح لدينا أجهزة تنظير خاصة بالأطفال تساعد كليًا في تشخيص ومعالجة أمراضهم الصعبة، وأخيرًا ظهرت في السوق الطبي أجهزة تنظير تدخل عن طريق الأنف، حين يتعذر المرور عن طريق الفم وهي حالات نادرة جدًا.

هذا ومازال التنظير الباطني يأخذ دورًا أساسيًا في مسيرة تطور الطب في أرجاء العالم، وبعد أن تم ربط التنظير بالفيديو، فالعمل جار لربط الفيديو بالحاسوب (كمبيوتر) لتسجيل وحفظ كل ما نراه في التنظير الباطني من خلال الممارسة.

لقد دخل الطب من خلال التنظير الباطني عصرًا علميًا جديدًا، بعد أن أقام التشخيص الدقيق ووفر المعالجة السريعة الفعالة، وأتت الجراحة التنظيرية لتذهب باختلاطات الجراحة التقليدية، من خلال شقوق صغيرة أو اختصار الاستشفاء ليومين، بعد أن كان أسبوعًا أو أسبوعين. وهذا ما يفسر لنا إطالة عمر الإنسان في العقود الثلاث الأخيرة.

 

 

منذر الدقاق
 




أقسام الجهاز الهضمي





تقرح سرطاني في جدار المعدة





طريقة سحب أجسام أجنبية دخلت المعدة بواسطة ملقط التنظير والصورة توضح التقاط سن من قاعدته





مختلف الأمراض التي قد تصادف إحداها من خلال تنظير الشرج والمستقيم





أمواج ما فوق الصوت من خلال التنظير حين نكشف ورما في المريء





منظر القولون من خلال التنظير





قرحة المعدة كما تبدو في التنظير والملقط يأخذ من أطرافها خزعة للتأكد من سلامتها وعدم خبثها





جهاز التنظير داخل المعدة