رينوار.. الجسر الجديد

رينوار.. الجسر الجديد

عندما رسم رينوار هذه اللوحة في العام 1872م، وصفها الناقد المعروف إميل كادرون بأنها «تخلو من أبسط قواعد الرسم والتلوين».

ويمكننا أن نتخيل ما الذي دفع هذا الناقد وغيره إلى مثل هذا الهجوم المنطلق من المقاييس والمبادئ الأكاديمية، التي لم تكن الانطباعية قد تطاولت عليها حتى ذلك الوقت.

فالظلال تشير إلى أنها رسمت ظهرًا، وهو أسوأ وقت ممكن لرسم مشهد طبيعي، حتى التصوير الفوتوغرافي يخضع لهذه القاعدة. والناس يبدون بألوان المباني نفسها. والغيوم لا تبدو خاضعة لأي إضاءة، والثلث الأيمن من اللوحة داكن جدًا بحيث يهدد توازنها.. ولكن هناك قراءة مختلفة لهذه اللوحة تنطلق من مقاييس غير تلك المعتمدة أكاديميًا.

لقد أحب رينوار باريس والباريسيين. وعندما أراد أن يرسم «الجسر الجديد»، تموضع في غرفة تقع في الدور الثاني من مقهى يطل على الجسر، وراح يتأمل صخب الحياة والنشاط الحركي عليه.

عربات خيل من مختلف الطرز، مشاة يسيرون مجموعات وأفرادًا، ولما تعذر على الرسام أن يسجل في ذهنه صورة واضحة للناس وهم في حركة لا تهدأ، أرسل أخاه إلى الجسر ليستوقف بعض المارة بذرائع مختلفة مثل السؤال عن الوقت أو عن عنوان محدد. وخلال تلك الثواني القليلة، كان رينوار في غرفته يلتقط من مشهد الشخص الواقف مايكفي من الخطوط ليرسمها فورًا على الورق، ولينقلها لاحقًا إلى اللوحة. فقد أراد الفنان أن تعبر لوحته عما يتجاوز المشهد العام الذي كان يمكن لبعض الفنانين من أمثال بيسارو (Pissaro) ومونيه (Monet) أن يكتفوا به. وهذه الخصوصية المتمثلة بالإحساس بحيوية الحركة والتقاطها بشكل مباشر، هي الميزة الرئيسية لهذه اللوحة. وهذا ما يتطلب وقتًا كبيرًا من النقاد والمؤرخين ليدركوا كنهه في أوقات لاحقة، أي بعد ظهور الانطباعية كمدرسة. وهنا، لابأس في شيء من التاريخ:

في عام 1875، نظم رينوار وسيسلي وبيرت موريزو (Morisot) مزادًا علنيًا في «أوتيل درووه» لبيع عشرين لوحة كانوا يرون أنها من أفضل أعمالهم.

فكانت حصيلة المزاد كله نحو 20 ألف فرنك فقط. وقال رينوار لصديقه أمبرواز فولار (Ambroise Vollard) لاحقًا بشأن ماجرى: «بعد المزاد، بقينا ندين لدار المزاد العلني ببعض المال. لقد ظهر رجل شجاع اسمه هازار اشترى «الجسر الجديد» بمبلغ 300 فرنك، ولكن لا أحد حذا حذوه».

في تلك الفترة نفسها، دفع أحد الأمريكيين مبلغ 300 ألف فرنك ثمنًا للوحة بريشة الأكاديمي ميسونيه Messonier أي أكثر بألف مرة من ثمن لوحة رينوار.

أما اليوم، فلو أعيد بيع لوحة ميسونيه نفسها لحصلت على السعر نفسه (رقمًا)، أي 300 ألف فرنك، أي حوالي 60 ألف يورو. أما لوحة رينوار،فلو طرحناها بالمزاد العلني في أيامنا هذه، لحققت عوائد يمكنها أن تصل إلى ما يوازي 40 ألف فرنك لكل فرنك من ثمنها الأول، أي إلى حوالي 3 ملايين يورو على أقل تقدير. لأن الإضاءة التي حظيت بها هذه اللوحة بعد ظهور الانطباعية تختلف تمامًا عن تلك التي سبقت ذلك. فما كان مرفوضًا بالمقاييس الأكاديمية مطلع السبعينيات من القرن التاسع عشر، أصبح مقبولاً في نهاية ذلك العقد، وحظي باعتراف عالمي بتميزه وعبقريته في القرن العشرين.

 

 

عبود عطية 




أوغست رينوار (1841 - 1919)، «الجسر الجديد»، (75 × 94سم)، 1872، ناشيونال غاليري، واشنطن