وجهًا لوجه مع : منح الصلح

وجهًا لوجه مع : منح الصلح

  • البلاد العربية تعيش أزمة وعي بالهوية
  • قل لي كيف تفهم لبنان أقل لك مَن أنت أيها العربي
  • لم تكن الشهابية مخلصة تمامًا للعروبة، كانت عروبتها مداراة لمصر وليس تفاعلاً مع الناصرية
  • عباس وحده لا يستطيع ان يحصّل حقوق الفلسطينيين
  • يجب أن يكون الفلسطينيون كلهم موحدين حتى يبقى شيء من فلسطين
  • الدول العربية لم تعط القضية الفلسطينية وقضية المواجهة مع الصهيونية الاهتمام والحزم اللازمين.

أجرى الحوار: الكاتب اللبناني عدنان الساحلي

رهن المفكر منح الصلح نفسه إلى قلمه، ووهب هذا القلم إلى العروبة، بما هي فكرة ومشروع وطموحات. بدأ الكتابة وهو في السادسة عشرة من عمره، كتب في كبريات الصحف والمجلات التي صدرت في بيروت طوال أكثر من خمسة عقود، حمل هم أمته والتزم آمالها ومضى يبشر ويدعو إلى عصر عربي طال ليله ولم يبزغ نوره بعد. لا تثقل عليه سنوات عمره الثمانون بقدر ما تثقل عليه حالة التراجع التي يشهدها حلمه العربي، والأمور التي آلت اليها حال العرب.

هذا الحلم الذي أكلت منه العصبيات والنظرات الضيقة والإقليميات والمذهبيات، على حد قوله.

وبالرغم من سنوات عمره الثمانين، لايزال منح الصلح يكتب، حتى لو قلّت كتاباته عن السابق.

واستطاع، على مدى تلك السنوات أن يؤكد قدرته الكبيرة التي جمع بها بين عمق الفكرة وقوة التحليل والقدرة على نحت مفرداته، بينما كانت أفكاره امتدادًا لإرث أسرة الصلح الفكري والعروبي والقومي.

نشأ المفكر اللبناني والعربي منح الصلح في محلة «البسطة الفوقا» في العاصمة اللبنانية بيروت. وولد عام 1927 في بيت كان يضم جدته ووالده وأعمامه عادل وكاظم وتقي الدين وعماد. دخل في بداياته إلى مدرسة حوض الولاية في البسطة التحتا، وهي مدرسة للبنات والأطفال، أنشاتها جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية، وكانت من أوائل المدارس التي أنشئت لمنافسة مدارس الإرساليات. ومنها انتقل لاحقًا إلى مدرسة أمين الخوري المقدسي الابتدائية في رأس بيروت. ثم دخل القسم الثانوي الفرنسي في الجامعة الأمريكية، لكن سرعان ما طرد منها لأسباب سياسية، فعاد إلى المقاصد (ثانوية المقاصد الحرش)، وكان نقيب الصحافة الراحل رياض طه من زملاء صفه.

يقول: كل مدرسة أعطتني ذكرى مختلفة، في المقاصد فوجئت بتعليم العلوم باللغة العربية، ولفتتني قدرات الأساتذة المصريين الذين كانوا يعلمون هذه المادة، ومستواهم العالي.

في ذلك الوقت مثلت الجامعة الأمريكية للصلح ما يعتبر الحي الجامعي والثقافي في رأس بيروت وفي لبنان. وهي بمنزلة الحي اللاتيني في باريس، من حيث التعدد والانفتاح.

انتمى الصلح إلى الجمعيات الطلابية في الجامعة الأمريكية: العروة الوثقى، النادي الأدبي في الثانوية الفرنسية في الجامعة الأمريكية. وقصد فرنسا لدراسة الدكتوراه. عاش هناك سنة ونصف السنة في باريس، ثم أرسل له أهله بأن يعود إلى لبنان لأن محمود أبو الفتح (صاحب جريدة المصري) قرر نقل جريدته إلى لبنان (أول أيام الثورة المصرية). اتصل به والده وأعمامه، وقالوا له إن أبو الفتح عقله منفتح، وإنها فرصة كي يكتب في جريدته، عاد الصلح لكن أبو الفتح لم يأت إلى لبنان. وكان ذلك سببًا في عدم تقديم الصلح أطروحة الدكتوراه في الآداب العربية في أحد فروع جامعة السوربون.

كتب الصلح في كل الجرائد اللبنانية، لكن أغلب مقالاته لم يوقعها. أغلب المقالات التي وقعها نشرت في «النهار» و«السفير». وكتب في الحوادث أيام سليم اللوزي، من دون توقيع، بلا حساب سياسي أو حدود أو سقف سياسي. وكتب من دون مقابل في كل الجرائد ما عدا جريدة النداء، وحدها أخذ منها راتبا. وله عدة إصدارات كتب أبرزها: «الانعزالية الجديدة في لبنان»، «المارونية السياسية»، «الاسلام وحركة التحرر العربي»، «مصر والعروبة» و«الثورة والكيان في العمل الفلسطيني».

من ذلك الميثاق، وبحثًا عن طبيعة الموقف الراهن في جرأة الماضي ودروسه المستفادة، ليس في لبنان وحده، وإنما في المنطقة العربية كلها، بدأ بيننا هذا الحوار:

  • هل جاء الميثاق الوطني اللبناني في السياق ذاته؟ ولماذا قالت حكومة رياض الصلح في بيانها الوزاري إن لبنان ذو وجه عربي ولم تقل إنه عربي؟

- من دون شك، أن لبنان في عام 1943 أكد أن عليه أن يكون لبنانيًا كاملاً وعربيًا كاملاً. وقالت الحكومة في ذلك الوقت، إن لبنان ذو وجه عربي كما قالت إنه عربي في البيان نفسه، هنا يجب أن ندرك أن كلمة وجه يقصد بها معنيان: الحقيقة والدور. يعني أنه ذو حقيقة ودور، وليس انتقاصًا من العروبة، بل تأكيد على حقيقتها ودورها.

  • هل كنت في ذلك الوقت مع هذا الطرح، أي مع الفكرة الصلحية، أم كان لك رأي آخر؟

- كنت أراقب. كنت واثقًا مائة في المائة أن هذا خط عربي كامل، وأن كمال العروبة في كمال إدراك واقع الأوطان. وكنت جزءًا من الفكرة الصلحية لانني كنت واثقًا من أن القول بالوجه يعني الحقيقة والدور.

  • لكن البعض يعتبر أن فكرة الميثاق الوطني ليست فكرة عبقرية جاءت في تلك المرحلة، بل كانت صفقة سياسية -سلطوية؟

- أنا أعتقد أنها نجحت في أحد أصعب الأقطار في الحكم وهو لبنان، بتعدده وقوة النفوذ الغربي فيه وتعدد ثقافاته، بالرغم من كل ذلك لعب لبنان، بسبب سلامة خطه هذا، وسلامة هذا الطريق المفتوح أمامه، دورًا مهمًا في الحياة العربية. ولبنان لعب باستمرار دور الموفق بين الدول العربية والموحد، وأيد كل وحدة نشأت من كل قلبه. لكنه كان يتصور أن الأقطار يجب أن تجد نفسها في هذه الكيانات الواحدة.

  • كنت تقول إنك تؤمن بالعروبة والوحدة العربية، كنت عروبيًا عامًا، وقد تطور فكرك نحو الاقتناع بحقيقة الأقطار، هل مررت بمرحلة من التطور الفكري لتصبح عروبيًا، أم بدأت عروبيًا؟

- كنت مؤمنا بالعروبة والوحدة العربية ولاأزال. لست مؤمنًا بها فقط، بل أنا داعية كرّست حياتي لوحدة العرب، وأنادي بما يجمع العرب. وأنا عربي وعروبي من قبل أن أولد. أنا عربي «سكر زيادة». لكن أنا أقول لو كانت مصر أثناء الوحدة، عرفت كيف تحترم خصوصية سورية لما سقطت الوحدة بينهما، والوحدة ضرورية للعرب، ومن أجل الوحدة يجب أن يؤخذ التنوع بالاعتبار. وقد لاحظت من التجارب أن انتكاسة الوحدة والعروبة كانت ناتجة في معظم الحالات عن عدم الالتفات إلى التنوع داخلها. أنا وطني، وأشعر بأن وطنيتي هي عروبتي، وهي التي تخدم عروبتي. وأنا عربي وأعرف أن مردود عروبتي هو تماسك هذا الوطن الذي أنتمي إليه. وهذه الأفكار ليست جديدة، كل الأحزاب العربية القومية القائمة، قائمة على الاعتراف بحقيقة القطر، حقيقة الوطن وحقيقة الجوامع.

هموم عربية

  • هل ترى لنفسك دورًا «صلحيًا» ممتًدا في إيجاد حل لأزمة لبنان؟

- أنا منشغل، ليس فقط بالأزمة اللبنانية، أنا منشغل بهموم البلاد العربية في الساحة العربية كلها. وأحس أن هذه البلاد العربية هي ايضًا في أزمة كبيرة، هي أزمة الوعي بالهوية. هناك نقص في الوعي بالهوية الوطنية، خذ مثلا العراق، تشعر وأنت تتابع أموره الراهنة أن طحالب كثيرة نمت على هذه الهوية الوطنية وشوّهتها.

مشكلة العراق إنه كان عربيًا أكثر من اللازم، حتى أصبحت عروبته مضرة ومسببة لمشاكل مع البعض. هذه الهوية أعطت الحاكم العراقي السابق طيشًا. ودفعته إلى مغامرات. الآن انتقل العراق من بلد عيبه في زهوه بهويته الوطنية، إلى وطن، إذا التفتّ اليه من البعيد، يبدو كأنه «مشتل» للطائفيات والمذهبيات والعصبيات، فالهوية العراقية هي رمز يجب أن يرى فيه الفرد ما يمكن أن يصاب البلد به من نزعات التفتيت ونزعات التمزيق والتفرقة. ومن كان يرى العراق سكرانا بالحلم العربي وحلم الوحدة العربية، أصبح الآن يراه موضع تجاذب بين النزعات الموجودة فيه.

  • هل ما آل اليه العراق، هو فشل للأمة كلها، أم فشل للحزب الذي قاده في تلك المرحلة؟

- لا شك أن العنصرين تعاونا في إضعاف العراق وإعطائه هذا الوجه. ولاشك أن أخطاء كثيرة حصلت في العراق السابق.

  • هل الفشل كان لصدام أم لتجربة البعث بالكامل؟

- لم يكن حكم صدام ناجحًا، لكن لفت نظري أن مقتدى الصدر، الذي هو أحد قادة الشيعة في العراق، قال: «أنا عراقي.. أنا عراقي». وحتى يضطر شخص بهذه المكانة وهذا الموقع، إلى القول أنا عراقي، كأنه أدرك أن الهوية الوطنية العراقية الآن مهددة.

  • ما هو سبب الخوف على الهوية العربية والهويات الوطنية، ولماذا كان العرب يعيشون نزوعًا نحو التوحد، والآن يعيشون أزمة هوية؟

- الهوية الواحدة حقيقة، وكل حكم لم يعترف بهذه الهوية الواحدة أخطأ. لكن لا يجوز استعمال الهوية، كما كان، ضد مطالب أخرى للشعوب أو حاجات أخرى للمجتمعات، لكن هذه الناحية، الهوية، كان تأكيدهم عليها سليمًا، وإن كان مخلوطًا بسكرة السلطة. هذا الشيء حقيقي، كان يجب أن يراعى ولا يزال. ولا يجوز الانتقال من أخطاء حاكم أو مبالغاته، إلى إنكار موضوع الهوية الواحدة.

  • لماذا فشل العرب في تحقيق وحدتهم القومية، فيما الشعوب الأخرى أنجزت هذا الأمر، علمًا أن عمر المشروع العربي حوالي قرن، وعلى العكس، لقد تراجعنا إلى ما قبل ذلك العصر؟

- أنا لا أعتقد أن المواطن العربي العادي، لايرى المخاطر من إهمال وحدة الهوية العربية. انتقلنا من التأكيد على الهوية إلى درجة احتكارها واستغلالها، إلى شرّ آخر هو التفتيتية والمذهبية.

  • لماذا برأيك؟

- المبالغات أو الأخطاء التي لحقت بطريقة عمل صدام حسين وغيره بوحدة الهوية، فتحت المجال للآخرين ليذهبوا إلى الخطأ المعاكس، ويسيروا نحو التفتيت والمذهبية والتشدد.

  • هل ينسحب ذلك على الناصرية، وماذا بقي من مصر الناصرية ومن تجربة عبد الناصر؟

- أيضًا عبد الناصر، وليس البعث وحده، استفاد من هذه الحاجة التي يشعر بها كل عربي حاليا، وهي التأكيد على الهوية الوطنية والقومية، كان نصف الحقيقة عنده، والنصف الثاني عند آخرين، عند الذين كانوا يشيرون إلى نقائص معينة في حكمه. كان هو والبعث معًا يغرفان من شوق العربي إلى الهوية الواحدة.

  • أي عروبة تصلح لهذه الأيام؟

- العروبة التي توفق بين الوطنية والقومية، والاثنتان ضروريتان. الاستقلال الوطني في إطار العروبة الجامعة.

  • كيف تتصور صيغة الوحدة العربية في هذه الحالة؟

- أقطار مرتبطة برباط وحدوي وقومي، على أساس أن الأقطار حقائق، وأيضًا العروبة الجامعة حقيقة، والاثنتان يجب أن تتم مراعاتهما، كي لا نصل إلى ما وصلا إليه العراق اليوم وغيره من استفاقة المذهبيات ونزعات التفتيت.

  • ماذا تقصد بالأقطار الحقائق؟

- العرب أمة، والعرب أوطان أيضًا، والاثنان يجب أن يكون لهما حساب بحيث يتكاملان ولا يلغي بعضهما بعضًا.

  • هل ترى أن الفكر القومي العربي بغاياته المعروفة، لا يزال صالحًا للحاضر والمستقبل، أم يحتاج إلى تطوير وتجديد؟

- لا شك أنه ملهم لشيء أساسي هو التماسك والتمسك بالعروبة الجامعة، الوطنية حقيقة والعروبة حقيقة والاثنتان يجب أن تكون لهما طرقهما الرسمية الجامعة.

  • نعود إلى لبنان، ما رأيك بالحركة اللبنانية الحديثة التي انطلقت في الخمسينيات والستينيات، ولماذا انتكست؟

- لأنها لم تكن عربية، فكما أن العروبة الكاملة هي التي تدرك التنوع وألا تكون عروبة ناقصة، لأن العروبة ليست عمى، بل هي نظر وتحليل ورأي يتنبه للخصوصيات، والعروبة حنو على كل ضعف، التجربة اللبنانية الحديثة انتكست لضعف في عروبتها. لكن يجب الوفاء والإدراك الكاملان لحقيقة الأقطار وحقيقة الأمة، أمة واحدة وأقطار عدة، وطن واحد بأوطان عدة.

المرحلة الشهابية

  • تعتبر أحد الشهود المقربين على «التجربة الشهابية» في لبنان، فلم تكن مجرد مراقب لهذه التجربة، وإنما شاهد من الداخل حيث عملت مديرًا عامًا في القصر الجمهوري في الفترة الشهابية، فكيف كانت طبيعة تلك المرحلة وما ملابسات تعيينك في القصر الجمهوري آنذاك؟

- عندما جاء فؤاد شهاب إلى الحكم جرى تعييني مديرًا عامًا في القصر الجمهوري، ضمن صفقة مع عمي تقي الدين، الذي كان صديقا لفؤاد شهاب. كان عمي تقي الدين أقرب السياسيين اللبنانيين إلى شهاب، وكان من مُنظّري الشهابية. بقيت في القصر أقل من ثلاث سنوات، وشاركت أكثر مما هو معروف وأكثر مما هو ظاهر في النصوص التي صدرت عن فؤاد شهاب، كنّا عمي وأنا نكتب خطابات فؤاد شهاب.

أعتقد أن التجربة الشهابية ناجحة بشكل عام ولو كانت لها عيوب كثيرة. لكن نجاحها جاء من وعيها لضرورة البقاء تحت مظلة العروبة والتمسك بها والعمل وفق الاستقلال والعروبة. لذلك نجحت قياسًا لغيرها.

وكتاباتي كلها وتفكيري كله متركز على هذه النقطة. مثلا أنا كتبت كتابًا اسمه «مصر والعروبة» قلت فيه: إن هناك وضعية خاصة لمصر، وإنها القطر الأساسي العربي الكبير، وأن مصر ليست قطرًا مثل لبنان أو الأردن أو سورية، ولا مثل الكويت، مصر «قطر ممتاز» يحمل كل مواصفات الأمة، لكنه قطر من نوع خاص، أكثر من قطر وأقل من أمة.

  • لكنك اتهمت الشهابية بأنها انعزالية مقنعة؟

- في ذلك الوقت، لأن الشهابيين لم يكونوا مخلصين تمامًا للعروبة، كانوا يعتبرون العروبة مجرد سياسة خارجية، والعروبة ليست كذلك. الشهابيون بنظرتهم إلى مصر وسورية كانوا يدارون مصر ويجاملونها أكثر مما كانوا يتفاعلون مع الجو الجديد الذي أوجدته حركة عبد الناصر.

  • كيف ترى تجربتك الشخصية مع الشهابية بمنظار اليوم؟

- الشهابية حركة كانت متقدمة على بقية التجارب التي جرت في لبنان من بعض النواحي. ولعبت شخصية رئيسها (فؤاد شهاب) دورًا إيجابيًا. كانت متقدمة على غيرها، لكنها لم تكن النظام المطلوب والملائم، خصوصًا أن المخابرات لعبت دورًا مبالغًا فيه. وغلبت الجانب العسكري على الجانب السياسي، وهذه عيوب.

  • تميز منح الصلح بعلاقته بالشخصيتين الصلحيتين البارزتين: رياض الصلح وعمه تقي الدين الصلح، وكلاهما كان رئيسًا للحكومة في لبنان. هل كانت هذه العلاقة مجرد رباط عائلي أم رباطًا فكريًا جمعك بهما، وهل كان لك دور في ما قدمته العائلة الصلحية، وهل كانت لك علاقة بحزب «النداء القومي»؟

- لم اكن عضوًا في حزب «النداء القومي». كنت أشارك في تحرير جريدة «النداء» ولم أجد نفسي في ذلك الحزب. عمي تقي الدين كان مفكرًا وسياسيًا وشخصًا واسع النظرة بكل معنى الكلمة. وكنت أحبه. كما أنني أعتبر رياض الصلح رجل الاستقلال اللبناني الأول، وهو رجل تحرير لبنان من الأجنبي، ورجل تقديم لبنان على أنه أحد الأقطار العربية الأساسية، أي باعتباره قاطرة وليس مقطورة، قاطرة في العمل العربي، أنا متأثر كثيرًا ومعجب برياض الصلح وفكره.

الأزمة اللبنانية

  • كيف تنظر إلى الوضع اللبناني الحالي والمأزق الذي يعانيه، وما هي أسبابه؟

- لبنان استقلالي بالنسبة للحكم السوري، لبنان عربي مستقل، من دون وصاية على فكره. هو شريك في القرار، هكذا كان. وسورية شقيقة للبنان، ويجب ألا تنفصل عنه ولا ينفصل عنها.

  • لنتحدث عن الدور والتجربة اللبنانية في المنطقة العربية.

- قل لي كيف تفهم لبنان، أقل لك من أنت أيها العربي، أيها الرئيس العربي، أيها الحاكم العربي، لأنني أعتقد أن فهم القضية اللبنانية هو رتبة في العروبة. هو شهادة رقي عربي. لبنان الحريات، لبنان المعاصرة، تحمل الفكر الآخر، تعدد الديانات، تعدد الثقافات، لبنان بلد صغير، لكنه عندما أحب كلمة إشعاع كان ذلك نتيجة شعوره، وهو البلد الصغير، بقدرته على أن يضيف إلى المجموعة العربية، بل أن يضيف حتى إلى الأقطار العربية المهمة والضخمة، التي لا يوازيها من ناحية الإمكانات ومن ناحية الدور العام.

  • هل بإمكان لبنان أن يؤدي دور في المنطقة العربية في هذه المرحلة، وهل ما زال لديه دور يؤديه؟

- لبنان تضرر من أن العرب لم يدرسوا قدراته. يعني القضية الفلسطينية حمل لبنان ثلاثة أرباع عبئها، ولبنان أصغر بلد عربي. أخطأ العرب مع لبنان، وهو أخطأ بدوره. وتصحيح الخطأ يكون بالانفتاح والتكامل، والخطوة الأولى عادة تأتي من الجهة القوية. ويجب أن تأتي منها. عبد الناصر كان من العرب الذين فهموا أنك حتى تعرف قيمة بلد لا يكفي أن تقيس حجمه. لبنان مع مصر كانا وجه النهضة العربية، منذ أيام الملكية وقبل قيام الجمهورية. لبنان يجب ألا يموت ولا يعتل ولا يضعف، فهذا إضعاف للعرب كلهم، لأنه حر واستقلالي وفيه ديموقراطية وفيه تعايش أديان، وهذا ينعكس على العرب كلهم. ودور لبنان أن يقنع العرب أن سيادته الكاملة واستقلاله الكامل ضروري لهم. وأن يقنعهم أن عروبته من النوع الأصيل والمعطاء الذي يفيدهم. وأنه منارة شاهقة في الحياة العربية.

  • ما رأيك بالانقسام اللبناني السائد طائفيًا ومذهبيًا؟

- أعتقد أن الأصل هو عدم إمكان الاتفاق على لبنان بأنه بلد مستقل وعربي. وهو إذا عومل على هذا الأساس، يكون من الأقطار الفاعلة جدًا في الكيان العربي العام. أما الانقسام المذهبي والطائفي فهو خطر على لبنان وعلى كل عناصره، ويجب ألا تتناقض شيعية الشيعي مع هوية البلد الوطنية والعربية، وكذلك سنية السني ومسيحية المسيحي، لا يجوز أن تتناقض مع هذه الهوية، على قادة المذاهب، السياسيين وغير السياسيين بصورة خاصة، أن يكونوا واسعي النظرة في ما يتعلق بلبنان المتعدد. لبنان ليس مسألة أرقام بين مكوناته، هي قصة قرار بصناعة وحدة من التنوع. أما تحكيم العصبيات والقوة المسلحة وتحكيم الحسابات الضيقة، فهذا يؤذي النمو اللبناني ويضر بقيام الوطن.

  • - ما هي «الوصفة» التي تقترحها ليخرج لبنان من أزمته؟

- الوصفة الفكرية الوطنية من خلال العودة إلى الأسس- الهويات: أنا بلد وطني مستقل وأنا عربي. هاتان حقيقتان. وكوني مسيحيًا ومسلمًا، هذه حقيقة ثانية، يجب أن تنضوي تحت راية هاتين الكلمتين الكبيرتين: عربي ولبناني.

  • ألا يرى الصلح أن للصراع العربي - الاسرائيلي دورًا في محاربة وإضعاف الفكرة القومية وفي إثارة النزعات التفتيتية؟

- أولا اللبناني... لاسيما المسيحي، فوجيء بالتصرف مع لبنان من قبل بعض الدول العربية، ومن قبل بعض اللبنانيين، بأنه مقصر في القضايا العربية، سواء في فلسطين أو غيرها. فوجيء اللبناني العادي المسيحي قبل المسلم بالتعامل مع لبنان على أنه مقصر وغير مشارك في هذا الصراع. التطرف الموجود وتقديم لبنان على أنه يجب أن يحرر فلسطين، أوحى إلى بعض اللبنانيين أن هذا تعامل مع لبنان كما لو كان في الماضي مقصرًا.

الصراع العربي- الإسرائيلي خلق غلوًا في تحميل لبنان فوق طاقته، وأنا أعتقد أن الدول العربية لم تعط القضية الفلسطينية وقضية المواجهة مع الصهيونية الاهتمام اللازم والحزم اللازم.

  • أين أصبحت قضية فلسطين؟

- الذي يرسم قضية فلسطين إلى حد بعيد هم العرب. كل عربي، لاسيما العروبي، يفترض في ألف باء تفكيره إدراك أولوية القضية الفلسطينية. والسؤال هو: هل سيبقى شيء من فلسطين؟ والسؤال الثاني هو: هل ستنجح نظرية التفاهم الإسلامي - المسيحي في لبنان، هذان هما السؤالان الأساسيان، أجبني عن هذين السؤالين أقل لك أي عربي أنت؟ وأي عمق في نظرتك العربية؟ والجواب عن السؤالين يحدد المصير العربي.

  • ما نظرتك لمسار الصراع العربي - الاسرائيلي، والصراع الفلسطيني - الاسرائيلي؟

- أنا أعتقد أن العمل الفلسطيني والنشاط والنضال الفلسطيني يجب أن ينظر إليهما على أنهما مسائل طليعية في الحياة العربية وفي مصير القضية العربية. ولا يجوز أن تفعل إسرائيل ما تشاء على أرض فلسطين. وقد استبشر العرب كثيرًا من مؤتمر مكة الذي عقده الملك عبدالله، بهدف توحيد صف الفلسطينيين في وجه إسرائيل، هناك «وعد مكة المكرمة» للشعب الفلسطيني ولا يجوز أن يزول هذا الوعد.

  • .. وماذا أعطاهم «هذا الوعد»؟

- وعدهم بوحدتهم، لكن هم لم يتوحدوا، ولم يستطيعوا حماية وحدتهم. ومادام أحد الطرفين غلب الطرف الآخر، وبالمختصر، عباس وحده لا يستطيع أن يحصّل حقوق الفلسطينيين، يجب أن يكون الفلسطينيون كلهم موحدين حتى يبقى شيء اسمه فلسطين أو شيء من فلسطين.

  • أين العرب من هذا الصراع مع إسرائيل؟

- العرب يملكون التقدير الحقيقي للخطر الإسرائيلي عليهم، مع الأسف يتصورون أن المشكلة بين الفلسطينيين وبين إسرائيل. والواقع أن المشكلة ليست هكذا فقط، بل هي في وجود هجمة مستمرة ودائمة على المنطقة، تكبر شيئًا فشيئًا.

  • ألا تلمس أن هناك إغفالا لدور أمريكا والغرب في هذا الصراع وفي دعمهما لإسرائيل؟

- العرب يرون دعم أمريكا لإسرائيل، لكن الأساس هو النجاح الميداني في المنطقة، إذا استطاع العرب توحيد الفلسطينيين، وإذا اتخذوا موقفًا واضحًا من قضية فلسطين ومن إسرائيل، من الممكن في ذلك الوقت أن يكون للغرب حساب آخر.

أما الآن فلا يوجد سبب في الأوضاع القائمة يدفع الغرب وأمريكا إلى الخوف على مصالحهم أو على مستقبل علاقاتهم مع العرب.

إسرائيل تبدو ناجحة في إقناع الغرب بأن لا خلاف بين مصالحها ومصالحه. وكل الدلائل تدل على أنها ناجحة في إقناع الغرب بأنها تأخذ مغانم ومكاسب، وتحرز تقدمًا في البلاد العربية، وإن ذلك يشكّل مصلحة لأمريكا. والسؤال: هل يستطيع العرب عكس هذه الأطروحة بالنجاح داخل فلسطين وفي بلادهم، وإقناع أمريكا والغرب بأن الضرر الأكبر عليهم هو بتوحيد سياساتهم مع إسرائيل؟.

إرث سياسي

يناديه أصحابه ومعارفه بلقب «البك»، فهو من عائلة الصلح المعروفة في لبنان. ابن عادل الصلح شقيق الرئيس الراحل تقي الدين الصلح، وقريب رجل الاستقلال رئيس الوزراء اللبناني الراحل رياض الصلح. لكن ما لا يعرفه كثيرون أن منح الصلح هو حفيد باشا تركي لجهة الأم، هو رشدي فهيم بك، الذي هو بدوره حفيد والي دمشق درويش باشا.

يعلل سبب بقائه عازبًا وهو الذي بلغ الثمانين من العمر بالقول: «كل عازب فيلسوف، ولو أن كل فيلسوف ليس بالضرورة عازبا».

يروي أن سليم اللوزي قصده مرة ومعه أحد الأثرياء العرب، وقالا له: رصدنا اثني عشر مليون ليرة لإصدار مجلة الحوادث بشكل جديد ومطور، على أن يكون أصحابها ثلاثة: ثلث للوزي، وثلث للثري العربي وهو سوري الجنسية موجود الآن في الولايات المتحدة، وأنت الثالث (أي الصلح). قالا: إن المشروع يكلف اثني عشر مليون ليرة، الاثنان يدفعان كامل المبلغ وإن له حصة الثلث مقابل الكتابة. ويقول: لم يخطر ببالي أبدًا ولم أتصور نفسي أكتب مقابل المال. قالا: نحن ندفع كل رأسمال المجلة ونعطيك ثلث ملكيتها بلا مقابل، مقابل التعاون والكتابة، فرفضت.

يصف الصلح نفسه بأنه راهب: حتى الآن أنا راهب لا أسعى وراء المال. ويضيف: أنا من عائلة ميسورة كثيرًا من ناحية الأم، أمي ابنة رشدي بك ابن فهيم باشا ابن درويش باشا الذي كان يملك عدة بلدات في البقاع مثل: الأسطبل (الروضة)، حوش الحريمة، الدكوة، عنجر والخيارة. وكانت تسمى «الجفتلك» ويمر فيها «نهر الغزيل». كما كانت لهم أراضٍ في غزة (البقاع).

يضيف: «الجفتلك» درويش باشا كان واليًا على الشام، لعله اشترى تلك المنطقة أو وهبت إليه من قبل السلطات العثمانية. وتتحدر العائلة من «قوجاطنا» نسبة إلى نهر الطونا في رومانيا، بعد أن فرض عليهم أتاتورك التسمي باسم عائلات. يضيف: زوج خالتي صبحي بركات وهو من عرب أنطاكيا، تولى رئاسة مجلس النواب في سورية، وكان قبل دخول فرنسا إلى سورية من مناوئيها، قاومها وكان من كبار الثوار، ثم تعاون معها وترأس مجلس النواب السوري، وأصبح ممثل أنطاكيا والإسكندرونة في مجلس النواب السوري قبل إلحاقهما بتركيا.

يتابع: لي أخ واحد في إنجلترا هو هشام الصلح، وأخت متزوجة من شامي والآن هي تعيش في أمريكا. وعندما ضمت مقاطعة إسكندرونة إلى تركيا، تعرض الأرمن لهجرة ثانية منها، هاجروا إلى لبنان خلال وجود فرنسا وصادروا أملاك جدي باعتباره تركيا. أخذ الأرمن عنجر وباع جدي بقية الأملاك. كان جدي يعيش وعائلته في تركيا عند انهيار السلطنة، تذكر أن له املاكًا في البقاع، فجاء إلى الروضة وسكن هناك.

يحلو للصلح تذكر تلك الأيام في مزارع جده: كان لكل صنعة ناس وبلدة، الزحالنة (من مدينة زحلة) كانوا يضمنون الأرض، وكان الشركس متخصصين بأمر الخيل ورعايتها والاهتمام بها وركوبها في السباقات التي كانت تجري. كما كانت لهم إدارة «النوطرة». وكان النواطير من عائلات عنجر والقرى المجاورة، والأرمن تخصصوا في الأعمال الحرفية كالحدادة والنجارة. في حين كان المكلفون بأعمال المحاسبة (الشئون المالية) من المصريين والزحالنة. أما الفلاحون فكانوا من أهالي تلك القرى أي العرب. وقد انتقل معظم الشراكسة فيما بعد إلى الكويت بسبب وجود الأرمن في عنجر، وسعيًا وراء نعم البترول هناك.

يتذكر الصلح إحدى أهم المناسبات الاجتماعية التقليدية التي كان يتم إحياؤها خلال طفولته، إنها «خميس الدعسة» التي كانت تقام في أكثر من منطقة بقاعية مثل بعلبك وعنجر. في عنجر كان «خميس الدعسة» يقام على تلة يقال لها «تلة الجماز»، حيث توجد مقبرة قديمة تضم رفات والدة منح الصلح ورفات والدتها وأقارب لها.

وكان خيالة من آل الرفاعي من بعلبك يقرأون في أذن الخيول ثم يعتلونها ويسيرون بها فوق صفوف من الناس متمددة على الأرض، من دون أن يتضرر المتمددون.

يرى الصلح أن أزمة لبنان الراهنة سببها عدم الاستفادة من دروس التاريخ، وخصوصًا ميثاق عام 1943 الذي جسّد مقاربة فكرية سياسية نجحت في المواءمة بين استقلالية الوطن وبين العروبة كفكرة جامعة.

 

 



أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




 





 





منح الصلح متحدثًا إلى عدنان الساحلي