بحيرات إفريقيا تتبخر

  بحيرات إفريقيا تتبخر
        

          تمتلك إفريقيا أكبر مخزون مائي في بحيراتها بين القارات جميعها, لكنها مهددة بالعطش بسبب مجموعة من العوامل بداية من الاحتباس الحراري على الصعيد الكوني وحتى سوء الإدارة والزيادة السكانية على المستوى القاري.

          الماء هو أساس الحياة. وحول ضفاف الأنهار والبحيرات والوديان, شيد البشر حضاراتهم وأقاموا مدنهم. وعلى موارد المياه, خاضوا أشرس المعارك وأكثرها دموية منذ بدء الخليقة.

          ومن المهم أن ندرك أن المنظومات المائية بارومتر شديد الحساسية يقيس صحة كوكبنا. فبينما تغطي المياه معظم سطح الأرض, فإن أقل من اثنين في المائة من هذه المياه هي مياه عذبة, ومعظم هذه المياه العذبة (محبوس) في صورة ثلج في قطبي الكرة الأرضية, وبالتالي فإن المياه العذبة السائلة مادة شديدة الندرة. ويفاقم من هذه المشكلة أن معظم مياه العالم العذبة تتركز في عدد قليل نسبيا من البحيرات, والعديد من هذه البحيرات تتقاسمه دولتان أو أكثر.

          وبسبب ندرة المياه وشحتها, يجمع المحللون على أنها ستكون السبب الأساسي للنزاعات العسكرية بين العديد من الدول. وتبدو القارة الإفريقية الساحة الأولى المرجحة لهذه النزاعات. فمعظم أنهار وبحيرات إفريقيا تتشارك فيها العديد من دول القارة. وكل من هذه الدول يعتبر حصته من المياه حقا مقدسا لا يقبل المساس به.

          وتساهم عوامل عدة في تفاقم أزمة المياه في القارة السمراء. فالاحترار الكوني المرتبط بانبعاثات غازات الاحتباس الحراري زاد من معدلات البخر وأعاد تشكيل الكثير من تضاريس القارة. وجاءت الضغوط الأكبر على موارد القارة المائية من الزيادة السكانية والامتداد العمراني والأنشطة الاقتصادية.

          ويتبدى هذا التأثير بجلاء على البحيرات الإفريقية, فالقارة السمراء تحتضن في أرضها 677 بحيرة تحتوي معا على نحو 30 ألف كيلومتر مكعب من المياه, وهي تمتلك بالتالي أكبر مخزون مائي بين كل القارات.

          لكن هذه البحيرات تتراجع وتنكمش بمعدلات متسارعة. وقد سلطت دراسة جديدة لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة الضوء على التداعيات البيئية الكبيرة والخطيرة التي تلحق بالبحيرات الإفريقية من جراء التغير المناخي والاستغلال المفرط لمياهها. وقارنت الدراسة الجديدة, التي حملت عنوان (أطلس البحيرات الإفريقية Atlas of African Lakes), بين صور البحيرات التي التقطتها الأقمار الصناعية منذ عقود والصور الحديثة لها.

          والأطلس الجديد صدر في مطلع نوفمبر الماضي بمناسبة انعقاد مؤتمر البحيرات العالمي الحادي عشر الذي نظم أخيرا في العاصمة الكينية نيروبي.

          وقد بين الأطلس الجديد تغيرات مفزعة كنا نعرف بعضها لكننا لم نكن نعرف حجمها ولا خطورتها إلا الآن. ومن بين الأمثلة الأبرز التقلص المتسارع لبحيرة سنجور في غانا, جزئيا بسبب الإنتاج الكثيف للملح, وجزئيا بسبب التغيرات الكبيرة التي حدثت لمجرى نهر الزمبيزي نتيجة لبناء سد كابورا باسا; كذلك أظهر الأطلس اختفاء نحو 90 في المائة من مساحة بحيرة تشاد, واجتثاث الغابات حول بحيرة ناكورو في كينيا وزيادة الكثافة العمرانية حول بحيرة فكتوريا.

          والواقع أن تغيرات مهمة أخرى, بعضها من صنع الطبيعة وبعضها الآخر من صنع الإنسان, لا يمكن قياسها إلا من الفضاء, مثل الاجتثاث الواسع النطاق للغابات حول بحيرة ناكورو في كينيا.

          وقد بينت القياسات بواسطة الأقمار الصناعية تراجع وانخفاض مستويات المياه في بحيرة فكتوريا. ويتضح الآن أن منسوب المياه في أكبر بحيرات المياه العذبة في إفريقيا ومنبع نهر النيل قد انخفض بنحو متر تقريبا مقارنة بمطلع التسعينيات.

          وتقول الأمم المتحدة إن حماية هذه البحيرات أمر حيوي إذا أردنا مكافحة الفقر في القارة نظرا لما تمثله من موارد مهمة للغذاء وفرص العمل. ويقول نيك نوتال المتحدث باسم برنامج الأمم المتحدة للبيئة: (هذا الأطلس يكشف أن تغيرات هائلة تحدث في البحيرات الإفريقية. وهناك ضغوط سكانية ضخمة على كل المنظومات المائية للبحيرات الإفريقية. وما لم يحدث تغيير ما في نمط حياة الناس هناك, فإنها ستتعرض لمزيد من الضغوط).

          ويضيف: (إن البحيرات هي شريان الحياة لملايين وملايين الأفارقة. ولن نحقق أهداف الألفية الإنمائية المتعلقة بالمياه أو الصحة ما لم نحمها).

          وتتضمن أهداف الألفية الإنمائية الثمانية, التي اتفق عليها زعماء العالم في العام 2000, خفض نسبة المحرومين من مياه الشرب النقية إلى النصف بحلول العام 2015.

          وأظهر الأطلس اقتران التأثيرات السلبية للطبيعة والنشاطات الإنسانية على بحيرات إفريقيا على نحو يهدد مستوى اعتمادنا عليها كمصدر للمياه وللغذاء المرتبط بها. وهذه تتضمن التقلبات الموسمية الطبيعية في معدلات سقوط الأمطار; والتغير المناخي; والتلوث; والإفراط في الصيد; والتصحر; وغزو الأنواع وبناء السدود بطريقة غير ملائمة.

          ويقول كلاوس توبفر, المدير التنفيذي لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة: (آمل أن تحفز صور الأقمار الصناعية هذه المشاركين في مؤتمر البحيرات العالمي الحادي عشر من أجل المزيد من العمل والتحرك لصيانة واستعادة هذه المسطحات المائية ذات الأهمية الحيوية. فالبحيرات من الناحية الاقتصادية ذات أهمية هائلة. وفي الولايات المتحدة, على سبيل المثال, يقدرون القيمة الاستجمامية وحدها للمياه العذبة (أي استخدام بحيرات المياه العذبة لأغراض السياحة والاستجمام) بنحو 37 بليون دولار سنويا).

          وإلى جانب هذا, فإن معدلات سقوط الأمطار والتدفقات المائية في المنطقة تتراجع بانتظام على مدى الأعوام الثلاثين الماضية. وهو أمر يرتبط جزئيا بارتفاع معدلات البخر المرتبطة بدورها بالتغير المناخي والاحترار الكوني.  ويقول التقرير إن النماذج الحالية لاستخدام المياه في وادي فولتا قد استنفدت الموارد المتوفرة إلى حدودها الأقصى وسيكون من الصعب جدا توفير أي زيادة أخرى على الطلب الحالي. وأضاف التقرير: (ومع التهديد الذي يحيق باستدامة وادي فولتا, فإن هناك حاجة ماسة إلى تعاون أوثق بين دول الوادي من أجل إدارة أفضل للموارد المائية في الوادي).

          وقدم الأطلس نماذج كثيرة للتدهور الببيئي الذي لحق بالبحيرات الإفريقية. ومن أهم هذه الأمثلة بحيرات سنجور فكتوريا وفكتوريا ودجودجي.

          فبحيرة سنجور هي بحيرة مياه مالحة ساحلية في غانا, وهي واحدة من أسوأ حالات التدهور البيئي في القارة. وهي بحجمها الكبير كانت موطنا لأنواع عديدة من الأسماك, فضلا عن أنواع من السلاحف البحرية المهددة بالانقراض مثل السلحفاة الخضراء وسلحفاة رايدلي الزيتونية إلى جانب العديد من أنواع الطيور.  وفي صور العام 1990, بدت كتلة مياه زرقاء متماسكة تمتد على مساحة 74 كيلومترا مربعا. وفي صور العام 2000 بدت البحيرة وكأنها ظل متلاشِ لسالفتها. ويعود هذا في جانبه الأكبر إلى الإنتاج الكثيف للملح والتبخر عند طرفها الغربي, ويبدو في الصورة مسطحات زرقاء وخضراء داكنة. وساهم في هذا التدهور لاستغلال الزراعة المفرط لمياه الأنهار التي تصب في البحيرة, مثل نهري سيجي وزانو.

          وبحيرة فكتوريا, التي يعيش حولها نحو 30 مليون إفريقي, توفر سبل الحياة لمنطقة من أفقر مناطق العالم وأكثرها كثافة سكانية. وتبلغ الكثافة السكانية حول البحيرة نحو 1200 شخص للكيلومتر المربع. ومتوسط الدخل السنوي في هذه المنطقة يقل عن 250 دولارًا للفرد الواحد.

          ويبين الأطلس أن ما يقدر بمائة وخمسين ألف كيلومتر مربع, أي ما يوازي مساحة 25 ألف ملعب كرة قدم, من الأراضي الزراعية قد تأثرت بسبب تدهور نوعية التربة, 13 في المائة منها تأثرت على نحو خطير.

          وستتفاقم هذه التأثيرات بسبب الحاجة إلى توفير احتياجات خمسة ملايين إنسان جدد سيجيئون إلى الحياة في المنطقة خلال العقدين القادمين.

          وكان منسوب المياه في البحيرة قد ارتفع في العام 1998 نتيجة للأمطار الكثيفة المرتبطة بظاهرة النينو, لكنه انخفض على مدى العقد الأخير بنحو متر تقريبا وفقا لقياسات القمر الصناعي TOPEX Poseidon.

          وبالإضافة إلى ذلك, ألحقت النباتات المائية الغازية, وخاصة نبات ورد النيل من الزنبقيات المائية water hyacinth, أضرارا فادحة بالملاحة وصناعة الصيد في البحيرة. غير أن إدخال نوع من الحشرات يدمر النباتات المائية الضارة جاء ببعض النتائج الإيجابية.  وتظهر صور الأقمار الصناعية بين العامين 1995 و2001 اختفاء بقع ورد النيل الخضراء من العديد من مناطق الخلجان الأوغندية.

          أما بحيرة دجودج فهي تقع على بعد 60 كيلومترا من سانت لويس في السنغال. وهي موطن لثلاثمائة ملايين طائر مثل البجع الأبيض الكبير والحبارى العربيةArabian Bustard. وكانت في يوم من الأيام عبارة عن سلسلة من البحيرات الصغيرة تحيط بها جداول مائية ومستنقعات ومياه راكدة.

          وتظهر صور الأقمار الصناعية التغير الهائل الذي حدث للبحيرة والمناطق المحيطة بها منذ بناء سد دياما في العام 1986 على بعد 23 كيلومترا من مصب نهر السنغال. ويتم الآن التحكم في كامل كمية المياه حيث تحولت الزراعة في المنطقة من زراعة موسمية تقوم على الاستفادة من مياه الفيضان إلى زراعة منتظمة على مدار العام تقوم على الري الدائم.

          ويسلط الأطلس الضوء أيضا على تغيرات كبيرة مرتبطة ببناء السدود مثل تكوين بحيرة كوبورا باسا على نهر الزمبيزي بعد بناء سد هناك في سبعينيات القرن الماضي.

          ويربط الأطلس العديد من التغيرات الإيكولوجية والتغيرات الأخرى التي حدثت منذ تغيير المجاري الطبيعية للأنهار. ومن بين هذه التغيرات تراجع واختفاء المناطق العشبية المعتمدة على الفيضان, وجفاف مناطق أشجار المنجروف, وانخفاض منسوب المياه في رافد نهر شاير الأمر الذي ألحق تأثيرا خطيرا بحركة الملاحة النهرية.

البحيرات الإفريقية حقائق وأرقام

          - العدد الدقيق للبحيرات الإفريقية, الطبيعية والتي من صنع الإنسان (نتيجة لبناء السدود وخزانات المياه), غير معلوم بدقة. لكن قاعدة بيانات البحيرات العالمية WORLDLAKE database تقدر الرقم بـ677 بحيرة.

          - كونيا هناك ما يقدر بخمسين ألف بحيرة طبيعية, وسبعة آلاف وخمسمائة بحيرة من صنع الإنسان.

          - تمتلك أوغندا أكبر عدد من البحيرات في القارة الإفريقية ( 69 بحيرة), تليها كينيا (64 بحيرة), والكاميرون (59 بحيرة), وتنزانيا (49 بحيرة) وإثيوبيا (46 بحيرة).

          - أما الدول التي تمتلك أقل عدد من البحيرات فهي الجابون 8 بحيرات), وبوتسوانا 12 بحيرة) ومالاوي (13 بحيرة).

          - عربيا يجيء المغرب في المركز الأول في عدد البحيرات (26 بحيرة), ثم مصر (16 بحيرة), وتونس (15 بحيرة).

          - تحتفظ إفريقيا في بحيراتها بنحو 30 ألف كيلومتر مكعب من المياه في بحيراتها الكبيرة, وهي أكبر كمية في قارات الأرض كلها.

          - الحصاد السنوي لصيد الأسماك في إفريقيا يقدر بنحو 4ر1 مليون طن, 14 في المائة منها تأتي من مصر وحدها.

          - البحيرات والأنهار الإفريقية تغل من الأسماك أكثر مما يغل البحران المتوسط والأسود معا.

          - ومع ذلك فإن تدهور نوعية المياه في مجاري الأنهار الإفريقية نتيجة صرف مياه المجاري غير المعالجة والتلوث الصناعي أدى إلى تراجع حصيلة الصيد خاصة في دلتا نهر النيل وبحيرة تشاد.

          - المستنقعات, التي ترتبط عادة بالبحيرات وشبكات الأنهار, مهمة جدا للحياة البرية, ولإمدادات المياه وتنقية المواد الملوثة.

          - أهم هذه المستنقعات توجد في دلتا أوكافانجو, وفي أعالي النيل في السودان, وفي حوضي بحيرتي فكتوريا وتشاد, وسهول الفيضان في دلتا أنهار الكونغو, والنيجر والزمبيزي.

          - ومع ذلك فإن هذه المستنقعات يجري تجفيفها على نطاق واسع من أجل الزراعة أو التحكم في هدر المياه. وقد فقدت النيجر, على سبيل المثال, أكثر من 80 في المائة من مستنقعات المياه العذبة فيها خلال السنوات العشرين الأخيرة.

          - يستخدم نحو 90 في المائة من المياه في إفريقيا لأغراض الزراعة, يضيع منها ما يتراوح بين 40 و60 في المائة من خلال التسرب والبخر.

          - هناك 15 بحيرة إفريقية تمتد في أراضي دولتين أو أكثر في القارة السمراء.

          - بعض بحيرات وسط إفريقيا تسمى (البحيرات القاتلة) بسبب الكوارث الواسعة النطاق التي سببتها. فبحيرات مثل موناون ونيوس وكيفو تقع في مناطق نشطة بركانيا. وعلى سبيل المثال, أدت الانبعاثات الخطيرة لغاز ثاني أكسيد الكربون من قاع بحيرتي موناون ونيوس إلى قتل 37 شخصا ثم 1746 شخصا في العامين 1984 و1986 على التوالي.

 

أحمد الشربيني   

 
  




القارة السمراء تحتضن في أرضها 677 بحيرة تحتوي على أكبر مخزون مائي بين كل القارات





بحيرة فكتوريا أكبر بحيرات المياه العذبة في إفريقيا ومنبع نهر النيل, قل منسوب المياه فيها بنحو متر مقارنة بمطلع التسعينيات





بحيرة سنجور واحدة من أسوأ حالات التدهور البيئي في القارة





بحيرة تشاد اقتربت من الاختفاء بعد جفاف أكثر من تسعين في المائة من مساحتها





نبات ورد النيل يلحق ضررا بالغا ببحيرة فكتوريا





البحيرات والأنهار الإفريقية تغل من الأسماك أكثر مما يغل البحران المتوسط والأسود معا