هوس الشراء

هوس الشراء

في مقاله الرائع تأريخ النزعة الاستهلاكية المنشور بمجلة «العربي» الغرّاء في العدد (588) الصادر في نوفمبر 2007 ربط الأستاذ الدكتور سليمان إبراهيم العسكري رئيس التحرير بين أعماق التاريخ، في العديد من الحضارات والثقافات، وبين الحاضر المعيش حاليًا في تتبعه لتاريخ النزعة الاستهلاكية عبر حقب التاريخ المختلفة موضحًا أنها تضرب بجذورها في أعماق التاريخ.

وفي تفسير هذه النزعة سيكولوجيا ندرك ما يعرف في علم النفس بـ «هوس الشراء» وهوحالة عقلية مرضية، شأنها في ذلك شأن شتى أنواع الهوس، تشير إلى الولع الشديد والاندفاع القوي للشراء واقتناء الأشياء بصرف النظر عن حاجة صاحبها إليها، ومن ذلك أيضًا هوس التملك والاقتناء.

وفي الولايات المتحدة الأمريكية، الآن، تنتشر هذه النزعة الاستهلاكية المتطرفة.

وتتجلى هذه النزعة بصورة متطرفة لدى بعض النساء في اقتناء كثير من الملابس الفاخرة والحلي والمجوهرات، وحتى قطع الأثاث المنزلي دون حاجة حقيقية إلى هذه السلع، وذلك لإشباع نهم الشراء أو الوقع الشديد بالشراء أو رغبة في التقليد والمحاكاة أو من أجل المباهاة والتفاخر «الكاذب».

ومن هنا وجب على المواطن العربي والمواطنة العربية عدم الخضوع لإغراءات شركات الإنتاج وتضليلات الإعلانات البراقة والمزيفة أحيانًا، وذلك حتى لا تخلق مجتمعًا استهلاكيًا فقط، ذلك لأنه إذا كان الاستهلاك ضروريًا، فلابد وأن يقابله إنتاج، بل يتعين أن يزيد الإنتاج عن حدود الاستهلاك، وبذلك يتحسن نظام المدفوعات ويصبح لمصلحتنا. وإذا كنا نلمس اليوم أن الأثرياء ثراءً فاحشًا يسرفون إسرافًا ممقوتًا في الشراء والاستهلاك أو الاقتناء إلى حد السفه، فإننا، مع الأسف الشديد - نلمس الملايين من الفقراء الذين يعز عليهم توفير لقمة الخبز فقط، والذين ينامون في العراء وهم جوعى، أو ما يعرف باسم أطفال الشوارع أو سكان العشوائيات أو الذين يعانون من أمراض سوء التغذية وتنتشر بينهم الأمراض.

السلوك الاستهلاكي في الوقت الراهن، هو سلوك معد وفي حاجة إلى مزيد من الترشيد، حتى لا تتحول النزعة الاستهلاكية إلى نزعة وسواسية وعبثية، يجد الفرد نفسه مساقًا إليها قهرًا عنه. وعودة هذه النزعة التي استقصى أثرها د. سليمان إبراهيم العسكري، عودتها الآن تفيد أن التاريخ يعيد نفسه أو يكرر نفسه حتى في السلوكيات السلبية أو في الأمراض النفسية والاجتماعية.

إن الفرد المعاصر يواجه ظواهر تقتضي زيادة حاجاته، كما أنه يسعى لإشباع رغباته المتزايدة، ومع الزيادة المطردة في أعداد السكان مع قلة الموارد، فالنتيجة الحتمية هي انخفاض عائدات التنمية.

ويعد الاستعمار أحد مسببات هذه النزعة الاستهلاكية الذي كان ولايزال يعمد إلى جعل بلادنا مجرد أسواق رائجة لمنتجاته ويبقينا مجرد مستهلكين ومستوردين لها، حتى من السلع الضرورية كالقمح وغير الضرورية مثل الرموش الصناعية أو العطور والمساحيق وغيرها. ومما أسهم في تفاقم هذه النزعة انتشار نظام البيع بالأجل أو بالتقسيط ونزعة التقليد والمحاكاة أو شعور المرأة أو الرجل بالنقص وعدم الثقة بالذات. ولذلك فقد يتم اللجوء إلى الاقتناء لتعويض نقص ما في الشخصية، لأن الإنسان السوي يشتري فقط ما يلزمه وفي نطاق حد الكفاية، بل إن المسلم مطالب بعدم الشبع أزيد من اللازم حتى لا يصاب بالتخمة وبأمراض السمنة، فنحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع، والمعدة بيت الداء. وظاهرة حب الشراء تنتقل بطريق العدوى، وقد يقلد الفقراء الأثرياء في شراء العطور وغيرها. ولنا أن نتأمل الزعيم الهندي غاندي الذي قدم نموذجًا رائعًا في التقشف وقدرة الإنسان على التخلي عن الطمع والجشع والشره والاستهلاك الجائر لمصادرة الثروة.

والإنسان حين ينساق وراء هواية الشراء، فإنه يفقد القدرة على ضبط النفس أو التحكم في سلوكه ضد إغراءات الشراء، وهؤلاء المغرمون بشره أوهوس الشراء إنما هم في الحقيقة، يهتمون بالمظهر الخارجي دون المخبر أو دون الجوهر أي جوهر الإنسان وهو إيمانه وأخلاقياته وسلوكياته وعطاؤه. شركات البيع ومؤسسات الإعلانات، إنما «تستغفل» فعلا الإنسان وتدفعه دفعًا للشراء حتى وإن كان مفلسًا وحتى وإن لم يكن في حاجة إلى هذه السلعة أو تلك، وعلى ذلك فإن الإعلانات خطيرة على حياة الإنسان وعلى سلوكه واقتصادياته وهي تغري بنوع خاص الأطفال والنساء.

وفي الآونة الأخيرة ظهرت حركة العولمة والتي تستهدف إغراق أسواقنا بالمنتجات بل وطمس هويتنا الحضارية والثقافية وتغيير عاداتنا وتقاليدنا، ولذلك لا بد من الوقاية من خطورة زيادة الاستهلاك، ومن قلة الإنتاج المحلي. كذلك لا بد من التوعية ضد أخطار السمنة وأمراضها، وتعديل النمط الاستهلاكي لبناء المجتمعات العربية، والعمل ليس فقط على زيادة الإنتاج وإنما تحسين جودته وإتقانه وتجويده والحد من خطورة الإعلانات.

د. عبدالرحمن محمد العيسوي
أستاذ علم النفس - الإسكندرية