في مستقبل العلاقات العربية - الإيرانية.. هل يكون المشترك هو بر الأمان؟ أنور الياسين

في مستقبل العلاقات العربية - الإيرانية.. هل يكون المشترك هو بر الأمان؟

من شاطئ الخليج إلى الشاطئ الآخر تبدو رحلة الطيران أو الإبحار للمتطلع قصيرة، لكن هناك في زمن الغيوم وأوقات الضباب ما يحول دون تقدير هذا الاقتراب. فهل يكون التمسك بأبعاد الرؤية في المناخ الصحو هو المقياس الصحيح لتقدير ما بين العرب وإيران؟ ذلك هو السؤال المحور لتلك الندوة المهمة التي استضافتها العاصمة القطرية، الدوحة. من الكويت إلى قطر انطلقت بنا الطائرة، وكان الموعد في الدوحة، والغاية كانت ندوةٌ تحمل اسم "العلاقات العربية - الإيرانية / الاتجاهات الراهنة وآفاق المستقبل".

كان تنظيم هذه الندوة جهدًا مشتركًا بين جامعة قطر ومركز دراسات الوحدة العربية الذي مقره بيروت، في الفترة من11 إلى14 سبتمبر 1995.

في تلك الساعة من الطيران باتجاه الدوحة، فرض سؤال الجغرافيا نفسه على خواطري، فما بين إيران والوطن العربي، خاصة بلدان الخليج، اقتراب جغرافي واضح، تمخض عنه تاريخ، وتفاعلات جيوسياسية، ومن ثم جيواستراتيجية، هذا إضافة إلى البعد الديني الذي يجمع بروابط الإسلام ما بين العرب والإيرانيين. لهذا بدت لي قطر نقطة مناسبة تمامًا بموقعها الجغرافي لبحث الراهن وآفاق القادم في العلاقات ما بين ساحلي الخليج، وامتدادًا حتى أعماق الوطن العربي. فقطر بموقعها في منتصف الساحل الغربي من الخليج، شرقي شبه الجزيرة العربية، وبتكوينها كشبه جزيرة تمتد باتجاه الشمال في مياه الخليج تبدو رمزًا عربيا يمد يده لمصافحة الساحل الإيراني، أو على الأقل تبدو رمزًا عربيا يواجه مثيله الإيراني لفتح صفحة الحوار ولتبادل الأسئلة والبحث عن إجابات لما ينبغي أن يجاب عنه، فالجوار الجغرافي، وأعماق الروح الإسلامي، ومتغيرات العالم الراهن المتسارعة، لم تعد تسمح للعاقلين بترك الأسئلة الحيوية معلقة. وليس أكثر حيوية من أسئلة الراهن والمستقبل في العلاقات العربية - الإيرانية. وحسنًا فعلت قطرٌ باستضافة هذه الندوة - المؤتمر.

وهبطت طائرتنا في مطار الدوحة، فأوحى لي اسم العاصمة القطرية بالسؤال : "هل تكون هذه الفرصة دوحة لطرح الأسئلة العربية - الإيرانية الصعبة دون أن يذهب ذلك للود قضية ؟"

منتصف المنتصف

في الدوحة، وفي أبهاء فندق شيراتون الذي استضافت فيه جامعة قطر فعاليات الندوة، عادت الجغرافيا لتطرح رموزها، فالدوحة تقع في منتصف الساحل الشرقي لشبه جزيرة قطر التي ذكرنا أنها تقع في منتصف الساحل الغربي للخليج، فكأنها إيحاءات بضرورة الأخذ بالوسطية حتى يتيسر اللقاء، ويصل المتحاورون إلى نقاط التلاقي، فالمؤتمرات لا تعقد للاختلاف المفضي إلى التنافر، بل تعقد للحوار المؤدي إلى الالتقاء.

كان المشاركون في الندوة -المؤتمر (71) مفكرًا وباحثًا من العرب والإيرانيين، إضافة إلى أكثر من (70) إعلاميا ومراقبًا.

ولقد لفت انتباهي الكتيب الذي وزعته جامعة قطر على الحضور وتصدرته الآية الكريمة : بسم الله الرحمن الرحيم. "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين". فكأن هذه تذكرة للجميع بأنه إذا كان المشترك الأعظم بيننا -عربا وإيرانيين- هو الإسلام العظيم، وما دام إسلامنا يجعل من أنشطتنا جميعًا -من البداية حتى المنتهى- ابتغاء مرضاة رب العالمين فإن حوارنا لا بد واصل إلى نقطة اتفاق، أو هكذا ينبغي.

ولعل في دعوة اللجنة التحضيرية للندوة ما يؤكد على ذلك الهدف الذي توجه إليه الآية الكريمة، فقد تضمنت كلمة التقديم هذا المعنى عندما قالت إنه تحكم العلاقات العربية - الإيرانية روابط تاريخية وجيواستراتيجية ومصالح مشتركة، وتحديات النهوض المعاصرة. ولا شك أن المعطيات العالمية الجديدة والسعي إلى صياغة نظام دولي جديد، ذلك كله يلقي بتداعياته على المنطقتين العربية والإيرانية ويجعل هدف التقارب في وجهات النظر وآليات التحليل بين العرب والإيرانيين ضرورة ملحة.

ومن أجل استشراف مستقبل الوطن العربي، وأهمية العلاقة مع الجوار الجغرافي، وأهمية التلاقي الاستراتيجي، فإن الندوة تكتسب أهمية ملحةٌ من أجل تقريب وجهات النظر وتعميق فهم كل طرف للآخر، وإيجاد روابط قوية بين مختلف النخبتين الثقافيتين العربية والإيرانية، كذلك بين الشعوب، واستكشاف إمكانات توحيد الجهود والمساعي المؤدية إلى تقارب فكري وتعاون استراتيجي في مواجهة تحول الأوضاع العالمية الراهنة والمتحولة، والمساهمة في إزالة أسباب التوتر وتخفيفه عبر إيجاد قنوات أو مؤسسات تواصل بين النخب والشعوب.

ولعل ذلك التوجه لدى اللجنة التحضيرية للندوة هو مما حدا بأن يكون المشاركون فيها حاضرين بصفتهم الشخصية وبعيدًا عن أي ارتباط حكومي أو رسمي، وأن تكون الندوة ذات تطلع مستقبلي. لهذا فإن المأمول المطروح كان يتلخص في أن تصير هذه الندوة بداية، تساهم في توسيع اهتمام النخب الفكرية بالعلاقات بين الطرفين، وأن تخرج الندوة ببرنامج عمل على مستويات مختلفة لتحسين العلاقات المتبادلة وتطويرها وليستفيد صانعوا القرار العرب والإيرانيون من وقائع هذه الندوة وما يتمخض عنها من توصيات. فهل سارت الأمور كما تشتهي سفن اللجنة التحضيرية للندوة ؟ ذلك سؤال تجيب عنه فعاليات الندوة، لهذا وجب تتبعها...

يمكن القول إن أوراق البحث والمناقشات التي دارت في الندوة تمحورت حول نقطتين أساسيتين، هما : الروابط التاريخية للعلاقات العربية - الإيرانية من جهة، والأوضاع الراهنة وآفاق المستقبل من جهة أخرى.

ولعل ما قدمه عبدالعزيز الدوريو أحمد لواساتي خير ما يمثل المحور الأول، إذ ركز الدوري على الجانب التاريخي السياسي موضحًا رفضه لتراث مرير لا يدلنا نحن المعاصرين فيه، ولاسيما أننا نتطلع إلى مستقبل أكثر إشراقًا وازدهارًا، وينبغي أن نلتفت إلى ما هو إيجابي من تراثنا ونغض أبصارنا عن "جزئيات سلبية سياسية" لكيلا نغرق فيها.

أما أحمد لواساتي فقد ركز على الجانب التاريخي الحضاري، حيث طالب بالنظر إلى التاريخ من خلال خلفيته الحضارية الفنية، وإلى المستقبل من خلال تحديات التحولات الدولية الجديدة المطروحة على العرب والإيرانيين.

ولقد نجح رضوان السيد فيما قدمه تحت عنوان "العرب وإيران.. الدولة والإسلام والمجتمع المدني" فقد استطاع تحليل الواقع الإيراني بعد الثورة الإسلامية مركزًا على التجربة السياسية، وقد اكتملت الصورة تمامًا حين شرع يقارن بين إيران ومصر مظهرا التشابه بينهما.

كثيرة هي الأبحاث التي قدمت في الندوة، وتمحورت حول العلاقات العربية - الإيرانية والكل تناولها من جهة معينة، فقد أبرز وجيه كوثراني و"حجة الإسلام هادي خسرو شاهي "دور الإدراك المتبادل في الحالة الإيرانية - العربية مبينًا أن الإدراك انعكاس لعملية تفاعل بين وعيين تاريخيين لدى شعبين أو أمتين ويشمل تعبير الوعي التاريخي عناصر الحاضر أيضًا وتحدياته وحتى أهداف المستقبل.

وعلى الصعيد نفسه يقرأ خسرو شاهي الإدراك ولكنها قراءةٌ إسلاميةٌ. ولقد ركز الكثير من الباحثين على رابطة الدين الإسلامي التي تعتبر أمتن رابطةً بين العرب والإيرانيين سواء في الماضي أو في الحاضر، فالفريقان وعلى حد تعبير على آذرشب : يمثلان السدى واللحمة في صرح الحضارة الإسلامية، ومن هنا فإنهما يقفان على أرضية صلبة قد لا تتوافر لأي لقاء بين جانبين في المنظومة الإسلامية. وأضاف بعض المشاركين في الندوة روابط أخرى بين العرب والإيرانيين ولها أهميتها كروابط التاريخ والجغرافيا والتي يجب أن تؤدي دورها، ولا سيما في وقتنا الراهن حيث انهار نظام القطبية الثنائية.

أما عن معوقات التقارب العربي - الإيراني فقد أشار الباحث" محمود سريع" إلى عدة مقولات أساسية أهمها الصراع العربي - الإسرائيلي والتشعبات السياسية والأمنية الناشئة عن صناعة النفط.

ولكن الصوت المنبه هو صوت محمد السيد سليم الذي أكد على أن العرب والإيرانيين يواجهون تحديات متشابهةً تقريبًا، وأن استمرار التضارب في السياسات العربية والإيرانية تجاه الخليج لا يفيد الطرفين، لذا ينبغي أن يتم الأمن التعاوني بين الطرفين.

وإذا كانت العلاقات الاقتصادية مما ينطوي في ثنايا المحور الثاني فإنه يمكننا القول إن جاسم السعدون قد قدم مسحًا رقميا للواقع الاقتصادي في إيران والدول العربية، ثم تعمق في تحليل هذا الواقع في ضوء انحسار عائدات النفط، ومن اللافت للنظر حقا تساؤلات السعدون حول إمكان العرب وإيران الاستفادة من علاقات أفضل في تخفيف أثر تداعيات واقع الحال؟

وأكد الباحث السعدون على أن لدى عرب الجوار استعدادًا لبدء خطوات التعاون ولكن ما تحتاج إليه حقا هو التشجيع من إيران. ولا ريب أن التحسن التدريجي المحتمل على الصعيدين السياسي والاقتصادي سينعكس على مناخ الاستثمار في الاقتصاد المحلي، وقد يجذب الرأسمال العام والخاص المهاجر، وهو عنصر حساس في بناء الاقتصاد.

وقد أبرزت بعض البحوث التي كانت مثار نقاشات أثناء الندوة أهمية التعاون النفطي من خلال الأوبك موضحة أن ذلك التعاون هو الوسيلة إلى رفع أسعار النفط.

ومما زاد في نجاح هذه الندوة أن للمرأة -وهي النصف الثاني في مجتمعنا- أهمية خاصة تبدت من خلال ما قدمته كل من"معصومة ابتكار ومريم سليم اللتين درستا وبدقة عناصر التشابه والاختلاف بين المرأة العربية والمرأة الإيرانية، ولكن ومع الأسف حقا أن الصفة المشتركة بين الطرفين هي "القصور" وهذا ما أظهرته مؤشرات التعليم والعمل، وقد نشأ هذا القصور بسبب صراع جهات ثلاث من أجل تحديد علاقة الرجل بالمرأة وهذه الجهات هي: الروحية من جهة، وأوضاعنا الاجتماعية من جهة ثانية، وما وفد إلينا من الغرب من جهة ثالثة.

والجدير بالذكر ما قدمه كل من الباحثين فهمي هويدي وما شاء الله شمس الواعظين اللذين دار بحثهما حول الخطاب السياسي والإعلامي لدى الحكومات والنخبات وتأثير ذلك في العلاقات العربية - الإيرانية، ولقد بدا اهتمامهما مركزًا حول سطوة الإعلام ولا سيما في عصر ثورة المعلومات والاتصالات، وحول ارتباط الإعلام بالسياسة، ولقد أرادا من خلال ما قدماه التنبيه إلى أن كلا الخطابين الإعلامي والسياسي في المنطقتين تصوغهما اعتبارات ومصالح الدولة ورؤى نخباتها الحاكمة الاستراتيجية.

المناهج أم العلاقات ؟

وسعيًا من الباحثين في جلاء صورة كل من البلدين لدى الآخر قام طلال عتريسي بدراسة معمقة لصورة الإيرانيين في الكتب المدرسية العربية في حين قام نظيره الإيراني غلام على حداد عادل بدراسة صورة العرب في الكتب المدرسية الإيرانية، وخرجًا بنتائج تستحق الوقوف عندها، إذ اتضح للأستاذ عتريسي أن الكتب المدرسية العربية لا تقدم صورةٌ واحدةٌ لإيران.. إذ تختلف عناصر هذه الصورة بين دولة وأخرى تبعًا للسياسات العامة لهذه الدولة محليا وإقليميا، وتبعًا لعلاقاتها المباشرة وغير المباشرة مع إيران وبناءً على ذلك فصورة إيران في الكتب المدرسية العربية -باستثناء سوريا- تحتاج إلى إعادة نظر وتعديل. والطريف في البحث تساؤله: ولكن من يسبق الآخر؟ تعديل المناهج أم تحسين العلاقات؟ ويجيب بلا تردد "بالتأكيد الثاني هو الذي يجب أن يسبق".

ورصد "غلام عادل" بذكاء واضح الصورة الواردة في الكتب المدرسية الإيرانية قبل الثورة وبعدها وبذلك أوضح أوجه التغيير في تلك الصور كما بين الحضور الفعال لمسألة العرب في الكتب المدرسية الإيرانية اليوم. وتناول من ناحية أخرى العرب ليس بصفتهم أمة، ولكن باعتبارهم مهد الرسالة الإسلامية.

وفي نهاية الندوة قدم المتابعون التعقيبات والمداخلات التي أتت مكملة للحلقات البحثية، وفي الوقت نفسه زادت في إبراز أهمية المسائل المطروحة وأضفت على البحوث بعدًا آخر في التحليل واستخلاص النتائج وهذا ما جعل الجلسة الختامية تنتهي باقتراحات وتوصيات ممكنة التنفيذ. ودفعتها لتتجسد على أرض الواقع فيما لو أتيح لها بعض المخلصين من الجانبين. ومما يزيد في أهمية هذه الندوة هو سيرها وفق نظام معين، بحيث لم تجنح عن الطريق التي رسمت لها، والدليل على ذلك وقفة الدكتور خير الدين حسيب ليذكر الحاضرين قائلًا: "نحن في ندوة حوار أكاديمي ولسنا فريقي تفاوض يمثلان إيران والبلدان العربية، فالصفة التي تسم المنتديين جميعًا هي خارج الإطار الرسمي لحكوماتهم".

ويؤكد هذا التذكير أن الهدف من أعمال الندوة هو البحث عن قواسم مشتركة بين الجانبين العربي والإيراني واكتشاف مساحات التقاء وتفاهم بينهما.

وجاءت هذه اللفتة التنبيهية لما استرسل أحد الباحثين فخرج عن جدول الأعمال المحدد وعاد إلى الحرب العراقية - الإيرانية.

صحيح أن كثافة الجلسات التي وصلت إلى خمس جلسات يوميا سربت الإرهاق إلى الحاضرين، ولكن لا يمكن إخفاء النتائج الباهرة التي خرج بها المندوبون والتي لا بد أن تكون نقاطًا مضيئةً على طريق اللقاء بين العرب والإيرانيين، هذا فيما لو لم يكتب لها أن تكون بذاتها نقاط التقاء ومساحات تفاهم على أرضية اللقاء.

وإذا كان قد تقرر إقامة ندوة ثانية وكمتابعة لهذه الندوة، فلا بد أنها ستكون ذات فائدة أكبر لأنها ستستفيد من هذه الندوة ومن التعقيبات والاقتراحات التي اجتهد الباحثون في تقديمها أثناء الجلسة الختامية. والمعروف أن هذه الندوة التي عقدت في قطر حول العلاقات العربية - الإيرانية نبعت من أهمية هذه العلاقة، فالمصالح المشتركة بين الطرفين موجودة، ويضاف إليها الحضارة العربية الإسلامية التي ساهم فيها الإيرانيون بشكل فعال، فالذي يجمع بين العرب والإيرانيين كثير.

انتهت ندوة المؤتمر، ولعل ما دار فيها من أخذ ورد على مستوى الكلمات هو أحد وجهي العملة الطيبة في مثل هذه اللقاءات فالوجه الآخر كان يتمثل في الروابط الإنسانية التي أنشأها اللقاء بين البشر في إطار هذه الندوة. والعلاقات الإنسانية، لا شك، هي عامل ودي ينزع فتيل أي انفجار مهما احتدم النقاش وتباينت وجهات النظر. ولقد تذاكرت كثيرًا من الوجوه التي كانت تتلاقى بمودة إنسانية في أروقة المؤتمر وبرغم تباين ما يحمله أصحابها من وجهات نظر شتى.

 

أنور الياسين

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




لقطة من إحدى جلسات ندوة العلاقات العربية - الإيرانية





وزير الإعلام القطري د. حمد بن عبدالعزيز الكواري.





مدير جامعة قطر د. إبراهيم النعيمي





د. غلام علي





د. صالح عبدالرحمن المانع





د. خير الدين حسيب مدير عام مركز دراسات الوحدة العربية يتابع جلسات الندوة مع بقية المشاركين





مدينة الدوحة العاصمة القطرية التي احتضنت الندوة