نظريّة الأدب المعاصرة وقراءة الشعر عبدالمقصود عبدالكريم

المؤلف: دافيد بشبندر

"نص آخر عن نظرية الأدب؟.. من المؤكد أن أرفف المكتبات تنوء بما تحمله من مؤلفات في هذا الموضوع.."ربما يكون القارىء على صواب ولكن ليس مع هذا الكتاب.. فهو يقدم تطبيقاً جديداً لتلك النظرية ومفهوماً مختلفاً لقراءة الشعر.

شهد العقد الأخير- في الغرب- نموًّا غير متوازٍ في تطور مختلف النظريات وفي إنتاج الكتب التي تشرجها وتطبقها وتوسعها. أما نحن فقد عانينا الأمرَّين من تلعثم كثير من الكتاب والمترجمين العرب وهم يتعاملون مع هذه النظريات، حتى ناءت الخريطة العربية بها تحمله من تهتهات في هذا المجال، وهي تهتهات تُصَّنف تحت بند التأليف أو الترجمة، وهما في أحيان كثيرة من صورة من صور الترجمة- التهتهة. وقد أدّتْ هذه الترجمات في كثير من الأحيان إلى تشويش في المفاهيم وصعوبة في الفهم، صعوبة جعلتنا- كقراء ودارسين- في أحيان كثيرة نشك في قدراتنا وربما ترجع صعوبة فهم هذه الترجمات والمؤلفات باللغة العربية إلى عدة أسباب لعل من أهمها:

1 - إننا لم نساهم في إنتاج هذه النظريات، ونقوم فقط- في معظم الأحيان- بدور القارئ أو الدارس السلبي.

2- عدم الاتفاق على ترجمة المصطلح بين كتاب يعتقدون- ومن المفترض أن اعتقادهم صحيح- أنهم يتكلمون لغة واحدة.

3- إن كثيرًا من الترجمات يقوم بها أناس، اللغة العربية لغة ثانية بالنسبة لهم، وربما يكون هذا مسئولاً عن تلعثم الكثير من هذه الترجمات والمؤلفات- الترجمات.

والسبب الأخير يرتبط بنظريات الأدب في لغاتها الأصلية، حيث تودي الكثافة اللغوية إلى صعوبة الفهم، وربما نتج عن هذا- كما يقول دافيد بشبندر- يأس الدارس أو القارئ من التفكير الحقيقي في استيعابها.

قراءة الشعر

إن التحول عن النقد الجديد والذي ساد لفترة تزيد على نصف قرن صاحبه تحول من التركيز على النص الشعري- الموضوع المفضَّل للتحليل في النقد الجديد- إلى التأكيد على النص القصصي أو الدرامي أو النص السينمائي. ومن ثم يأتي هذا الكتاب "نظرية الأدب المعاصرة وقراءة الشعر" ليركز على قراءة الشعر والكتاب من تأليف الاسترالي دافيد بشبندر (1947 ) وظهرت طبعته الأولى سنة 1991 عن دار ماك ميلان MacMillan باستراليا، وساهمت باربارا ه. ملتش Barbara H. Milech في الكتاب بفصل عن الشعر والجنس Poetry and gender. وبينما تتعامل معظم الدراسات مع النظرية بطريقة عامة ومجردة، وقد تطبق النظرية على نصوص غير الشعر، يركز هذا الكتاب على الكيفية التي تنتج بها النظرية نوعًا معينا من قراءة الشعر. وقد اختيرت القصائد التي تطبق عليها النظرية تبعا لعدة معايير تشمل:

1- الإيجاز: ليس فقط لأنه يؤدي إلى التمثيل الأوضح والأكثر إحكامًا للنظرية موضوع البحث، ولكن أيضًا لأن القصائد الأطول تميل إلى التحرك في اتجاه القصصي، ومن ثّم ينشأ عنها تحول في القراءة وفي التوجُّه النظري .

2- الألفة النسبية مع القصائد و/ أو مؤلفيها.

3- تفضيل الأشكال الشعرية المألوفة والمعروفة على الأشكال الشاذة أو التجريبية، وهذا يفسِّر الظهور المتكرر للسوينتات.

صعوبة الشعر

حين نتناول قصيدة يظن معظمنا أن النص سيكون صعبا إن لم يكن مبهما تماما، وهكذا ربما نرفض قراءة الشعر. وتنشأ فرضية الصعوبة عن افتراضين: أولاً، إن لغة الشعر صعبة في ذاتها، وثانيا، أنه توجد "رسالة" مختبئة فى مكان ما ضمن هذه اللغة الصعبة، ولا يمكن رؤيتها بالعين المجردة. ويرى بشبندر أنه كر مجدٍ أن ننكر أن لغة الشعر صعبة غالبا: فقط يُكتب النَّظم الهزلي ونظم الترحيب في لغة مألوفة ومنتظمة يمكن القبض عليها بسهولة. ومع هذا يمكننا بالاهتمام والدأب أن نفهم القصيدة بيقين نسبيٍّ إن لم يكن بسهولة تامة. ويرى المؤلف أن الاطلاع على نظريات الأدب إحدى الوسائل لبلوغ هذه الغاية.

إن فكرة وجود "رسالة" مطمورة في اللغة تثير أسئلة عديدة. إنها تفترض أن الشاعر لديه شيء ما يمكن أن يقوله في نثر بسيط ومباشر، لكنه اختار- وربما بعنادٍ- أن يخِّبئه في لغة زخرفية محيِّرة، لى حدٍّ ما مثل مضايقات الأطفال حين يطلبون منك أن تعدٍّ الكلاب والأوجه غير الواضحة في الصورة. ومهما يكن، فإن نظرية الأدب المعاصرة تبرهن على أن المعنى، "الرسالة"، لا يوجد قبل أن يوجد النص نفسه، لكنه يخُلق بواسطة النص. إذا كتب الشاعر قصيدته بكلمات أخرى، فإن معنى النص سيختلف في الجوهر، وليس فقط في الزخرفة. وطبقا لهذه النظرية يشارك القارئ في المسئولية عن المعنى في النص، حيث إن المعنى ينتج عن نشاطه في القراءة.

النظرية والقراءة

نفترض غالبا أن ثمة طريقة "طبيعية" للقراءة، يمكن للاطلاع على النظرية أن يجعلها أكثر تكلفا وربما تغيرها النظرية أو تعقدها بلا مبرِّر. ومهما يكن فربما تبدو الطريقة التي نقرأ بها طبيعيةً فقط لأنها الطريقة التي تعلمناها، وإذا لم نعرف طرقا أخرى، فلن نستطيع افتراض أن طريقتنا هي "الطبيعية" أو "الوحيدة" أو "أفضل" طريقة لقراءة النصوص. وإذا فكرنا في الأمر ندرك أن طريقتنا الخاصة- مهما بدت طبيعية- تحمل فرضيات معينة عن النص المقروء وعن علاقة كل من المؤلف والقارئ بمعنى النص. إن هذه الفرضيات تكون خفية غالبا ونحن نمارس القراءة، ويخلق اختباؤها شعورًا بأن القراءة طبيعية.

إن نظريات الأدب نظريات عن كيفية قراءة النصوص الأدبية. إنها تضع افتراضات عن هذه النصوص وتناقشها صراحة. إن معرفة هذه النظريات تكشف لنا عن الطريقة التي نقرأ بها، ويمكن أن نتعلم منها نقاط القوة والضعف في الطريقة التي نقرأ بها، وقد تقدم قراءات بديلة تكتشف في النص معاني مختلفة ربما نراها جذابة أو مفيدة.

إننا حين نكتشف نظريات الأدب، نكتشف أيضًا لماذا نقرأ. حين يقول شخص ما: "أقرأ للمتعة" أو "أقرأ لأهرب"، فإن كل مقولة تتضمن نظرية عن القراءة والأدب. وسيعتمد "معنى" النص على درجة المتعة التي يشعر بها القارئ. وحين يقرأ العمل نفسه قارىُ آخر بافتراضات مختلفة فإنه يستنتج "معنى" آخر.

النظرية ولغة الشعر

إن أحد العناصر الأساسية في معظم النظريات هو الطريقة التي تعرف بها لغة الشعر بالمقارنة مع المستويات الأخرى للغة المتداولة في الثقافة. تمنح بعض النظريات لغة الشعر امتيازًا مؤكدة على اختلافها عن اللغة اليومية وربما تفوفها عليها. وتقلل نظريات أخرى من الاختلافات ومع ذلك تسلم بأن لغة الشعر تختلف إلى حدّ ما عن اللغة اليومية.

يعرف ميشيل ريفاتر القصيدة بأنها شىء ما "يقول شيئًا ويعني شيئًا آخر". ويوضح هذا المفهوم أن هذين المعنيين في القصيدة هما تمثيل الواقع (المحاكاة) وتنطيم العناصر في النص إلى أنظمة دالة. وهكذا فإن المعنى السطحي للنص الشعري يشير ظاهريًا إلى الواقع.

ومهما يكن، فإنه بالتركيز على النص نفسه يتضح أنه بنية تتكون من عناصر متنوعة تمكن القارئ من القبض على معنى ليست من الضروري أدى يكون له علاقة بأي واقع خارجها.

ربما لا يكون هذا التمييز بين المستويات الدالة في النص الشعري جديدًا عليك كقارئ للشعر. حتى القارئ المبتدئ يدرك أن معنى القصيدة (إلا إذا كانت بسيطة بصورة استثنائية) يكون في الغالب مراوغًا وغامضًا، مما يوحي بقوة بأن ما تقوله القصيدة ليس بالضرورة هو ما تعنيه ويرى خطاب نظريات الشعر أن الشعر يتكون من عناصر خاصة تشمل: النص نفسه، أي اللغة التي تكون القصيدة في الصفحة، الأحداث أو الظروف الحقيقية أو المتخيلة التي تشير إليها القصيدة أو تصفها، دور الشاعر في كتابة القصيدة، وفي القصيدة نفسها( هل الشاعر هو المتحدث الحقيقي في النص؟)، دور القارىء والتأثيرات التاريخية والثقافية على المعنى المحتمل. ويناقش بشبندر النظريات التي تتناول هذه العناصر بطرق مختلفة.

النقد الجديد

يتناول الكتاب عددًا من النظريات، واختار المؤلف النقد الجديد كنقطة بداية لأسباب عديدة، (مع أنه لم يعد سائدًا في حلقات النقد المعاصرة):

1- لحوالي ستين عاما وتأثيره قوي على النقد الأدبي والتعليم الأكاديمي، وما زالت تعاليمه ومناهجه تدرس إلى الآن، ولأنه مازال يؤدي وظيفته فإنه لا يمكن إهماله أو تجاهله.

2- تخاصم النقد الجديد مع نظريات الأدب القديمة التي ركزت على استجابة القاريء الذاتية، ونصّب النقد الجديد نظرية تركز على أهمية النص لفظًا ومفهومًا، وفي هذا يعكس النقد الجديد الاهتمام المعاصر باللغة.

وقد تم استخدام مصطلح النقد الجديد New Criticism للإشارة إلى مجموعة خاصة من النقاد والمنظِّرين في العشرينيات والثلاثينيات بعد ظهور كتاب النقد الجديد لجون كرورانسومJohn Crowe Ronsom . وقد نشأ النقد الجديد كرد فعل لثلاث ممارسات للقراءة انتقلت إلينا من القرن التاسع عشر وهي: الآداب الرفيعة belle- lettrism والانطباعية impressionism والتاريخية hostoricism، وهي ممارسات اجتماعية (الآداب الرفيعة) ونفسية (الانطباعية)، وأرشفية (التاريخية)، لم تهتم أي منها بالنص نفسه بصورة خاصة. وجاءت الحرب الأولي بكثير من التغيرات الاجتماعية والتصورية بما في ذلك تغير رؤية إنتاج وقراءة نصوص الأدب، وظهر النقد الجديد وطالب مؤيدوه الأوائل بالكثير وبمرور الزمن عدلت هذه المطالب وأصبحت أكثر براعة وصارت النظرية أكثر قبولا، ولم تعد في حاجة للكفاح من أجل البقاء.

وبالإضافة إلى النقد الجديد يناقش المؤلف البنيوية، والتفكيكية، والشكلية الروسية، والشعر والتاريخ، بالإضافة إلى الفصل الذي كتبته زميلته باربارا ه. ملتش عن الشعر والجنس Poetry and gender . ويذكر المؤلف أن اطلاع باربارا على نظرية الجنس gender theory يفوق اطلاعه مما جعلها المؤلف الأفضل لهذا الفصل.

ويؤكد الفصل الخاص بالشكلية الروسية على الخلفية التاريخية، وذلك لأن المؤلف يرى أن تاريخ الشكلية الروسية ونظريتها مازالا غير معروفين نسبيا على الرغم من أن عددا من الدراسات الحديثة عن نظرية الأدب المعاصرة تتضمن إشارات للنظرية الشكلية. ومع أن بعض كتابات الشكليين تمت ترجمتها إلى الإنجليزية خلال العقد الأخير فإنه يبقى أن غير المترجم أكثر بكثير. ولأن المؤلف ليس كل دراية بالروسية واللغات السلافية الأخرى فقد اعتمد على الدراسات الأكاديمية مثل دراسة Victor Erlich لتقديم صورة أكثر اكتمالا عن الشكلية الروسية مما قد تقدمه مجموعة الترجمات المتداولة.

وبينما يلحُ نقاد الأدب ومؤرِّخوه في مجمل الممارسات الشائعة على الاختلافات بين مختلف النظريات، ويقللِّون من شأن الاستمرار المهم والجدير بالاهتمام من نظرية إلى أخرى. في هذا الكتاب، يهتم المؤلف أكثر بهذا الاستمرار كوسيلة لتحقيق مفتوح في خطاب نظرية الأدب، ويمكن فقط لهذا التحقيق أن يحتل موقعًا مهمًّا إذا واقفنا على أنه يوجد خطاب، أي هيكل لأفكار واهتمامات تشترك فيها النظريات المختلفة.

إننا لا نقرأ النصوص دائما للأسباب نفسها. قد نتناول قصيدة لنكتشف كيف تعمل، وأخرى لنرى كيف تتواءم مع المشروع العام لتطور مؤلفها كشاعر، وثالثة لنري كيف انبعثت أفكار الشاعر أو خيالاته، ورابعة لنتعلم أو نتأكد من شيء ما عن الثقافة أو العصر الذي كتبت فيه القصيدة. إنها كلها صالحة لقراءة قصيدة، لكن منهجًا وحيدا للقراءة لن يشبع كل الأغراض بالتساوي. ولكنه من الخداع التحدث عن تبني نظريات مختلفة، كما لو كانت أطفالا بلا مأوى. إن الإطلاع عليها أكثر فائدة وليس من الضروري أن تستخدم كلها عمليا. إن قيمة الاطلاع عليها تكمن غالبا في إتاحة المقارنة. ويحذر المؤلف من أن معرفته الكثير من النظريات قد تؤدي إلى انتقائية في الممارسة. ومع أنه من المرغوب فيه أن يكون تناولنا لنصوص الأدب متماسكا فإن هذا لا يعني استخدام النظرية نفسها للأبد، ولكنه يعني أننا حين نتبنى نظرية خاصة فإننا نفهم لماذا تلائم نصّا معينا وعلينا أن نتقبل محدوديتها.

خاتمة

يجب أن يكون واضحا من الآن أننا- كقراء- نتبني نظرية على الأقل، مع أنها قد تكون ضمنية:إننا نقرأ بطرق خاصة، ولأسباب خاصة، وعلينا أن نعرف أن كل نظرية من النظريات التي تمت مناقشتها في هذا الكتاب تواجه صعوبات خاصة، وبها مميزات ونقاط ضعف،وليست كلها أدبية أو أكاديمية خالصة. لكنّ كلاًّ منها تقدم وسيلة مختلفة لفهم النص فهماً مختلفًا. وتحمل بعضها لا محالة وزنًا سياسيًا وهكذا ربما تصبح القصيدة، بمساعدة النظرية، فعالة ليس فقط في المعني، ولكن في القيمة أيضًا، سواء كانت أدبية أو اجتماعية أو سياسية.