رمضان المبارك في الصين
رمضان المبارك في الصين
عند حلول رمضان المبارك يلقي كل إمام في خمسة وثلاثين ألف مسجد في الصين خطبة خاصة برمضان في آخر جمعة من شعبان، لحرص العشرين مليون مسلم من القوميات العشر الأقلية على الاستعدادات اللازمة لاستقباله وإحيائه الذي يعد أكثر شهور العام بركة وفرحة ونشاطا. بعد ثبوت هلاله يشعرون بأجواء رمضانية قوية سعيدة، ويتمسك معظمهم - الأغنياء منهم والفقراء، الكبار والصغار (إلا الأطفال الذين لم يبلغوا سن الرشد)، الرجال والنساء - بالصيام وأحكامه وضوابطه وشعائره، ليجعلوا صيامهم كاملا وأعمالهم مقبولة عند الله عز وجل. يعتبرالمسلمون الصينيون أن رمضان ليس شهر الصيام فقط، إنما له وظائف أخرى بفضل مكانته العظيمة وفضائله الكثيرة، فيجعلونه شهر الصالحات والإحسان، وشهر التعليم والثقافة، وشهر الفرحة والبهجة. أولا: رمضان شهر الصالحات والإحسان. ينتهز المسلمون الصينيون فرصة رمضان للمنافسة في الصالحات والإحسان، ليحصلوا على رحمة الله ونعمه وجزائه، إضافة إلى الصيام وطقوسه. يعتادون في رمضان على إخراج الزكاة والصدقات والتبرعات لأداء أمانة الله جل ذكره، ومساعدة الفقراء والمحتاجين أو من يستحقها، كما يفطّر الصائمون وفقا للحديث الشريف، ففي القرى يعد كل بيت أطعمة تقليدية من قلايا صينية، ولحم الخروف، وأطباقًا شهية رائعة لضيافة الإمام وطلبة العلوم في المسجد، وبعض الأقرباء والجيران عند الفطور. أما في المدن فيرسلون الأطعمة إلى المسجد لتقدم الطباخات المتطوعات وجبة الإفطار لجميع الصائمين الذين يحضرون إليه لصلاة المغرب والعشاء مع التراويح. وتكثر الأذكار عند إقامة صلاة التراويح بعشرين ركعة، وهو بذكرالله بين كل أربع ركعات بصوت مرتفع جماعي: « سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان ذي العزة والعظمة والقدرة والكبرياء والجبروت، سبحان الملك الحي الذي لا يموت، سبوح قدوس رب الملائكة والروح، لاإله إلا الله، نستغفرك ونسألك الجنة ونعوذ بك من النار، يا أرحم الراحمين» ثلاث مرات. أما المسلمون التابعون للمذاهب الصوفية النقشبندية منذ عام 1662م فيهتمون بمدح النبي (صلى الله عليه وسلم) اهتماما بالغا وأشد من غيرهم بعد انتهاء الصلوات، وذلك بقراءة قصيدة البردة للإمام البوصيري بالصوت الجهري، أوالخفي بشكل الدائرة، والتي يقدّرها المسلمون الصوفيون الصينيون كل التقدير، ونقلها العالم الكبير المسلم ما آن لى إلى الصينية لأول مرة في عام 1890م (هي أولى القصائد العربية المترجمة في الصين)، ثم ترجمها الأستاذان الكبيران المسلمان ما جين بنغ (إسماعيل،1913-2002م) ولين سونغ (يحيي، 1930م -) إلى الصينية بعد ثمانينيات القرن الماضي على التوالي، لكي يقرأها من لا يعرف العربية أو لم يحفظها. يحرص المسلمون الصينيون على إكثارالعبادات والطاعات في العشر الأواخر من رمضان حيث تعتكف جماعة من المسنين المخلصين وأئمة المساجد في غرف الاعتكاف الخاصة بهم في المساجد بنية التقرب إلى الله عز وجل، كما يلتمس كل مسلم ليلة القدر المذكورة في سورة القدر في الليلة السابعة والعشرين من رمضان، ويتجمع الرجال في المساجد لإحيائها عن طريق استماع الوعظ والنصائح، وتلاوة القرآن الكريم ومدح النبي (صلى الله عليه وسلم)، وإقامة الصلوات المفروضة والصلوات النافلة، والتحميدات والتسبيحات، والاستغفارات والأدعية، وقراءة الكتب الإسلامية الصينية طوال الليلة، وعلى الأخص أن يخرجوا الزكاة في هذه الليلة المباركة لعظمة القدر وكثرة الأجر. أما النساء فيقمن بإحيائها في بيوتهن. علاوة على سفر جماعة من المسلمين في السنوات الأخيرة إلى مكة المكرمة للعمرة في هذه العشر الأواخر تحت إشراف وتنظيم من الجمعية الإسلامية الصينية. ثانيا: رمضان شهر التعليم والثقافة. إن المسلمين الصينيين لا يكتفون بالصيام والصالحات والإحسان ببذل أقصى جهودهم في تصفية النفس والقلب من كل الشهوات، وتخليتهما من كل الضلالات، وتحليتهما بكل الأوصاف السنية فقط، بل يغتنمون فرصة رمضان لاقترانه بالتعليم الإسلامي وثقافته لكي يحثوا أكثر أهل الإسلام خاصة الشباب والبنات والأطفال إلى معرفة الإسلام وعقائده وأركانه ومبادئه على حد أبعد، لذلك يعتبرون أنه شهر التعليم والثقافة للإسلام الصيني أيضا، والذي أصبح أسلوبا مهما للتربية الإسلامية ونشر الإسلام في الصين جيلا بعد جيل من ناحية، ويعكس الحياة الدينية والروحية والثقافية لهم من ناحية أخرى. يلقي الأئمة محاضرات خاصة لبيان أحكام الصيام وفضائله، والمعارف الإسلامية الأساسية بعد صلاة الفجر أو قبل صلاة العشاء مع التراويح، إضافة إلى خطبة الجمعة. ويرسل بعض أئمة المساجد في شمال غرب الصين طلابهم إلى بيوت المسلمين لتعليم الذين لا يستطيعون الذهاب إلى المسجد. أما المساجد الكبيرة في معظم المناطق فتقيم صفوفا متنوعة من بداية رمضان إلى نهايته، للنساء بعد صلاة الفجر، وللمسنين قبل صلاة الظهر، وللشباب بعد صلاة العصر، وللأطفال في نهاية الأسبوع، لتدريس اللغة العربية، وتعليم تلاوة القرآن الكريم مع الشرح الوجيز للمعاني والدلالات القرآنية، ومسائل العقيدة الإسلامية والفقهية الأساسية، ومبادئ الأخلاق الإسلامية... إلخ. مع ذلك تنظم نشاطات دينية أخرى مثل مسابقة تلاوة القرآن الكريم، والخطابة والمعلومات الإسلامية باللغة الصينية لتشجيع الأبناء والبنات على تعلم المعارف الإسلامية بجد واجتهاد فيتنافسون في الاشتراك فيها. بلا شك تقدم المساجد في رمضان فرصة طلب العلوم الإسلامية لكل مسلم، ويكثرعدد قراء القرآن الكريم عاما بعد عام، سواء في الماضي أو الحاضر كما قال الأستاذ الشهير المسلم المتخصص في العلوم العربية والثقافة الإسلامية في جامعة بكين ليو لين روى (1917 - 1995م) في مقالته - ذكرياتي - المنشورة في مجلة - دراسات العالم العربي - في عام 1991م، إنه تعلم كيفية الصلاة، وحفظ سورتي الفاتحة سورتي والإخلاص وغيرهما في طفولته في المسجد. بمناسبة رمضان تنشر المجلات الحكومية مثل المسلم الصيني، والأديان الصينية، والمجلات التابعة للجمعيات الإسلامية المحلية، أو المجلات الأهلية مثل: الفتح، وآمين، أو جريدة أخبار المسلمين، أو شبكة الإنترنت الإسلامية، تنشر بحوثا علمية ومقالات معلوماتية حول رمضان ليقرأها أكثرالمسلمين وغيرهم من المثقفين. ثالثا: رمضان شهر الفرحة والبهجة. إن رمضان المبارك في أذهان المسلمين الصينيين شهر الفرحة والبهجة لا مثيل له في الشهور الأخرى. إن المساجد في رمضان تزين وتزخرف بالمصابيح الملونة (الفوانيس الملونة في الزمن الماضي)، والأعلام الخفاقة الملونة، واللافتات المكتوبة من الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة أو الحكم الصينية. خاصة تجعل إعلانات السحور، والنشاطات التعليمية، والأصوات المسرورة من أطفال منتظمي الفطور، وأصوات الأذكارالمرتفعة من صلاة التراويح، تجعل المساجد مملوءة بالأجواء النشيطة والبهيجة. أما بيوت المسلمين فتنظف تنظيفًا شديدًا، وتعلق بعض البيوت صورة الكعبة المكرمة أو المسجد النبوي على الجدار الأبيض الناصع لتزيين البيت. الجدير بالذكر أن يعلق المسلمون في شرق الصين في عيد الفطر ورقة خاصة بالكلمة الطيبة أوالبسملة أوالدعاء مثل «اللهم افتح لنا أبواب رحمتك» على جدار البيت أو واجهة الباب للتبرك والتعبير عن الاحتفال بعيد الفطر، متأثرين بما فعله معظم الصينيين في عيد الربيع التقليدي الصيني، فينعكس هذا الأسلوب الاحتفالي بالعيد المعبر عن حكمة المسلمين الصينيين انعكاسا عميقا للانسجام بين الثقافة الإسلامية والثقافة الصينية، وتطوير ثقافتهم وفقا للعقائد الإسلامية منذ دخول الإسلام أراضي الصين في عام 651م. يبتهج الأطفال النشطاء في رمضان بتعلم كيفية الصلاة، وجمع التمور والحلويات في وقت الفطور حتى أصبح الكيس الصغير بأيديهم مملوءا قبل الرجوع إلى البيت، وارتداء الملابس الجديدة، وتناول الأطعمة اللذيذة بعد الجوع الشديد عند الفطور، وقبول الهدايا المحبوبة في عيد الفطر. وفي الحقيقة فإن رمضان ترك في أذهانهم انطباعا عميقا حتى لا ينسى في عمرهم كله. تفرح النساء بإعداد الأطعمة الشهية المتنوعة لأهل البيت وضيافة الصائمين، والاحتفال بعيد فاطمة الزهراء بنت النبي (صلى الله عليه وسلم) في اليوم الرابع عشر من رمضان باعتباره يوم وفاتها، وبمناسبة اليوم يتوجهن إلى المساجد لاستماع المحاضرة التي يخصصها الأئمة للحديث عن مثاليتها وأسوتها لتشجيعهن على الاستفادة منها والاقتداء بها، وكذلك يحتفلن به بقراءة القرآن الكريم، ومدح النبي (صلى الله عليه وسلم)، ويتصدقن على الأئمة وطلبة العلوم في المساجد والفقراء، أو يقمن المهرجان الديني (بفضل عظمة اليوم يعتبرنه عيد المسلمات الصينيات في رمضان). يسر المسنون بتجمع أفراد العائلة، والترحيب الحار بزيارة أقربائهم، وإكثار العبادات، كما يفرح الأبناء والبنات ببر الوالدين وصلة الأرحام، وتعلم العلوم الإسلامية، وزيارة الأصدقاء والأساتذة بالهدايا القيمة. أما أئمة المساجد فيفرحون بإلقاء المحاضرات لنشر المعلومات الإسلامية الأساسية، كما يبتهج طلبة العلوم في المساجد بقبول الزكاة وخدمة المسلمين المتعلمين. ويبتهج أصحاب الدكاكين الخاصة بالكتب الإسلامية الصينية والحاجات اليومية للمسلمين بزيادة تجارتها السريعة، كما يبتهج الفقراء بالمعونات اللازمة من الأغنياء الأسخياء السعداء. أما عيد الفطر فهو يوم سعيد يفرح فيه المسلمون الصينيون غاية الفرحة والبهجة بعد قضاء رمضان المبارك في السعادة والمودة، حيث يعد كل بيت مأكولات مقلية تقليدية من سانتسي (شرائط عجين مقلية)، وماهوا(زلابية)، وفطاير مقلية بالزيت، ولفائف الربيع المحشوة باللحم والخضر، مع تقديمها إلى الجيران والأقرباء والأصدقاء لتبادل التحية معهم. ويجتمع الرجال والأطفال المتمتعون بالإجازة الرسمية لمدة يوم من الحكومة (خاصة تقرر حكومة منطقة نينغشيا ذات الحكم الذاتي لقومية هوي عيد الفطر عيدا رسميا لجميع أهل المنطقة) في المساجد لإخراج صدقة الفطر، واستماع خطبة العيد مع صلاته، وزيارة مقابر الآباء والأمهات لاستغفار والدعاء لهم. مما يجدر بالإشارة أنهم يفرحون بأن يأتي كبار مسئولي الحكومات على المستويات المختلفة في بعض المقاطعات إلى المساجد قبل صلاة العيد لتهنئة المسلمين بعيدهم والمشاركة في فرحتهم، ويزورون بعض المسلمين في بيوتهم للاحتفال معهم بعيدهم السعيد. في العيد يتبادل المسلمون الصينيون التحية والتزاور، ويستقبلون زيارة أصدقائهم من غير المسلمين لتهنئتهم، كما يزورون أصدقاءهم من غير المسلمين في عيد الربيع التلقيدي الصيني، فإن هذه التزاورات تعمق العلاقات الودية الحميمة بين المسلمين وغيرهم. يبتهجون بإقامة النشاطات الترفيهية للاحتفال بالعيد السعيد إضافة إلى طقوسه اللازمة، مثلا يرقص الشباب رقصة الأسد ويمشون على الطوالات في مدينة آنشان بمقاطعة لياونينغ، بينما يقدم المسلمون عروضا رياضية (ووشو) في مدينة تسانغتشو بمقاطعة خبى، وتقيم القومية الويغورية والقازاقية في منطقة شيتجانغ الويغورية ذات الحكم الذاتى مهرجانات احتفالية رائعة تعرض فيها فعاليات الرقص والغناء القومي، وسباقات الخيول والمصارعة واختبار القوى، وألعابا ترفيهية أخرى. أما الشباب الذين يختارون عيد الفطر يوما لزفافهم فيجعلون رمضان المبارك شهر الفرحة والبهجة للغاية. دَعِ الأَيَّامَ تَفْعَل مَا تَشَاءُ الإمام الشافعي
|