في مواجهة النسيان أنور الياسين

"وثائق الاحتلال وحقائق التحرير.."
المؤلف: وفائي دياب

لم يحدث من قبل أن استأثرت أزمة معاصرة بمثل هذا الاهتمام البالغ الذي استأثرت به أزمة الخليج. ولم تحث حرب في المنطقة، على كثرة ما شهدت من حروب وأزمات، على إصدار الكتب كما فعلت حرب الخليج. فقد شهدت الساحة السياسية والفكرية، ودور النشر الأجنبية والعربية رواجًا وانتشارًا للكتب الصادرة والدراسات المتنوعة عن تلك الحرب التي بدأت بالجنون والنزق والصلف وانتهت بالانتصار للحق والعدل والشرعية.

عشرات الكتب، باللغة الإنجليزية، وغيرها من الكتب باللغات الفرنسية والإيطالية والألمانية والإسبانية، فضلاً عن مثيلاتها باللغة العربية، كلها صدرت محللة متناولة أبعاد وآفاق هذه الأزمة التي أخذت بخناق العالم في الثاني من أغسطس عام 1990.

وهناك أيضًا توقعات بأن يصدر المزيد من الكتب والدراسات ومذكرات الحرب، ولعل أبرزها، أو أخطرها، الكتاب المنتظر لقائد القوات الحليفة "نورمان شوارزكوف" الذي شرع بتسجيل ذكرياته بمساعدة اثنين من كبار الصحفيين الأمريكيين.

ولقد صدر في لندن، أخيرًا، كتاب جديد بعنوان: [ وثائق الاحتلال وحقائق التحرير، بقلم الكاتب الصحفي وفائي دياب أمين تحرير الأخبار بصحيفة صوت الكويت الدولي. والكتاب يعد أول متابعة صحفية يومية لمجريات حرب تحرير الكويت. وضعها الكاتب في إطار وثائقي لتكون سجلاً تاريخًا لأبشع وصمة عار في تاريخ العرب الحديث.

الكاتب.. والكتاب

والكاتب وفائي دياب ليس غريبًا عن الكويت، فقد عرفه القارئ، وعرفته صحافتها قلمًا بارزًا لأكثر من عشر سنوات، أسهم خلالها بالعديد من الكتابات والدراسات القيمة. لكنه هنا لا يطل بشخصيته الصحفية بل بشخصية الباحث المدقق في الوقائع. النافذ خلال تفاصيلها إلى نتائج وأسباب ومقدمات. والمنقب المتتبع لخيوطها الخفية والظاهرة. كل هذا في أسلوب سهل ممتنع. يعتمد الحوار المقنع والتحليل المنطقي، موفرًا لقارئه من خلال وثائق وحقائق دامغة، كتابًا مرجعيًا، في موضوع مازالت تكتنفه الكثير من الخفايا والأسرار التي يتكفل المستقبل بإماطة اللثام عنها.

والكتاب، وثائق الاحتلال وحقائق التحرير، على حد ما جاء بالمقدمة، يسعى لأن يلم بكل الجوانب ويقدم عرضًا منطقيًا للأحداث كما وقعت، من خلال متابعة الكاتب اليومية لفصولها وتفاصيلها الدقيقة بأسلوب هادئ رشيق. وهو في هذا الصدد يعتبر وثيقة متكاملة تقرأ اليوم.. وكل يوم. وهو يتفرد، متميزًا، عن الكتب الصادرة في هذا الحقل. بالعديد من الوثائق والصور التي أثبتها المؤلف مرجعًا للباحثين وللدارسين، ومما تجدر الإشارة إليه. أن الكاتب بأسلوبه في سرد الوقائع بدقة تفاصيلها بعث الحرارة والحيوية في السطور النابضة بدفء الواقع- على مرارة ما فيه- حيث كان على خط تماسٍ مباشر مع القارئ، وأكثر اقترابًا وحميمية إليه.

بقي أن نقول إن الكتاب يقع في حوالي 400 صفحة من القطع المتوسط ويضم أحد عشر فصلاً، فضلاً عن فصل خاص بقرارات مجلس الأمن المتعاقبة والتي صدرت تباعًا إبان الاجتياح وخلال فترة الاحتلال البغيض. وفصل آخر عن المؤتمر الوطني الشعبي الذي عقد في جدَّة خلال أكتوبر/ تشرين الأول 1991.

كما يشتمل الكتاب على مجموعة من الوثائق التي تنشر للمرة الأولى ولعل أهمها وأبرزها تلك الرسالة/ النداء التي وجهها أمير البلاد الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح إلى الكويتيين بعد أن كان قد رحل إلى الطائف، ليتخذها نقطة انقضاض وانطلاق لكتائب التحرير، مقاتلاً من أجل تراب الكويت المقدس.

والرسالة/ النداء- التي يقدمها الكتاب بخط يد الأمير- التي يدعو فيها أولاده، أبناء الكويت البررة إلى مقاومة الاحتلال والصمود. تنشر لأول مرة هنا، كما أسلفنا، ولعلها كانت الشرارة الأولى التي أشعلت جحيم المقاومة الكويتية في وجه الغاصب المحتل لمنعه من إسقاط الشرعية وفرض أمر واقع.. أثيم..

للتاريخ عيون.. وذاكرة

عبر منهجه الواعي في إبقاء هذا الحدث حيًا في الوجدان العربي، حتى لا ينسى العرب القريب منهم والبعيد، الكبير فيهم والصغير، القادم منهم والراحل، أن همجية المعتدي العراقي قضت باجتياحها الكويت واحتلالها على بقايا الحلم العربي الذي طالما غزا الوجدان المشبوب. عبر هذا المنهج يأتي الفصل الأول من الكتاب تحت عنوان: (فجر الاحتلال) يروي الكاتب، بدقة، تفاصيل التحرك العسكري وبدايات الاحتلال، ويفند من خلال السرد التاريخي والتحليل العلمي والمنطقي الذرائع التي قام عليها هذا العدوان الغاشم، وفي تسلسل دقيق يستعرض الخطوات والجهود العربية والدولية التي حفلت بها تلك المرحلة، وردود الأفعال الأولى لنبأ الاجتياح. وفي ختام هذا الفصل المدعوم بالصور يعرض لنا المؤلف وثيقتين: الأولى للعدد الأول من (القبس الدولي) حين استؤنف صدورها في لندن بتاريخ 12 آب/ أغسطس 1990، والثانية لنص اتفاقية الحدود العراقية/ الكويتية والموقعة بتاريخ 4 تشرين الأول/ أكتوبر 1963. والتي تنص على أن:

1- تعترف الجمهورية العراقية باستقلال دولة الكويت وسيادتها التامة بحدودها المبينة بكتاب رئيس وزراء العراق بتاريخ 7/12/ 1932 والذي وافق عليه حاكم الكويت بكتابه المؤرخ 10/ 8/ 1932

2- تعمل الحكومتان على توطيد العلاقات الأخوية بين البلدين الشقيقين، يحدوهما في ذلك الواجب القومي والمصالح المشتركة والتطلع إلى وحدة عربية شاملة..

3- تعمل الحكومتان على إقامة تعاون ثقافي وتجاري واقتصادي بين البلدين وعلى تبادل المعلومات الفنية بينهما..

كما نصت الاتفاقية على تبادل التمثيل الدبلوماسي بين البلدين.. وأقر ذلك الاتفاق في حينه اللواء أحمد حسن البكر رئيسًا للوفد العراقي.. وكان الشيخ صباح السالم الصباح رئيسًا للوفد الكويتي..

.. وجاء صدام ليطيح بهذه الاتفاقية، وقبل ذلك بكل الأعراف والمواثيق الإنسانية.. ويبدأ عدوانه الغاشم المدحور.

في الفصل الثاني من الكتاب بعنوان (جذور الأزمة) يوغل المؤلف في التاريخ القريب، وقبل العاصفة، ويورد من الأحداث والوقائع، ما يعجب منه القارئ، وما يؤكد نوايا العدوان الراسخة في ضمير النظام العراقي. فيقول:

(يذكر محققون صحفيون وخبراء أسلحة أن العراق قام قبل ثلاثة أشهر من غزوه الكويت بشراء صور التقطتها أقمار صناعية تجارية بالغة الوضوح للكويت والسعودية من شركة فرنسية تدعى Spot "سبوت" للتصدير وتتخصص في الاستطلاع التصويري.

.. ويقول المحققون إنه في الثاني من مايو/ آيار 1990 طلب العراق- الذي كان قد تعاقد مع شركة "سبوت" للتصدير في عام 1988 للحصول على في مواجهة النسيان معلومات من الأقمار الصناعية- صورًا لمناطق في الكويت والسعودية التقطت من زاويتين مختلفتين..

... واستنادًا ل (ليونيل باربر) مراسل صحيفة (فايننشيال تايمز) اللندنية في واشنطون، كان بالإمكان استخدام هذه الصور التي تبرز ملامح التضاريس وتزيد من قدرة التعرف على المنشآت لتحديد الدفاعات والنقاط المحتملة للمقاومة الكويتية في وضع الخطط لمسار الغزو. وهي معلومات لا تطلب عادة لاستخدامات مدنية.... وكتب الصحفي البريطاني مقالاً في صحيفة الفايننشيال تايمز في 11 كانون الثاني/ يناير قال فيه إن الطلب العراقي لمعلومات عن الكويت والسعودية آثار خشية شركة "سبوت" لدرجة أنها أوقفت تزويد معلوماتها لعميلها وهو مؤسسة حكومية عراقية تدعى: "المركز القومي للاستشعار عن بعد..

ويمضي المؤلف في هذا الفصل في تقصي جذور الأزمة والأحداث التي سبقتها ونوايا النظام العراقي المبيتة والإعداد لتنفيذها. واستنادًا إلى مصادر يوردها المؤلف في كتابه يتضح أن خطة الاجتياح كانت معدَّة منذ وقت غير قصير. بل إن القوات العراقية قامت بمناورة عسكرية ضخمة تمهيدًا لهذا الاجتياح قبل شهر واحد من الغزو. وقد كان تمرينًا عمليًا على خطة الغزو كما حدثت فيما بعد.

وعلى منهجه في إثبات الوثائق يورد المؤلف في هذا الفصل بيان الملك فهد الذي أعلنه على الشعب السعودي في 6 آب/ أغسطس والذي أعرب فيه عن رغبة المملكة في اشتراك قوات عربية شقيقة وأخرى صديقة في التصدي للمخطط العراقي بالتهام الكويت. كما يورد مجموعة من النداءات التي توجه بها سمو الأمير جابر الأحمد الصباح إلى الكويتيين البررة بضرورة الصمود والكفاح.

فصول.. قبل ساعة الصفر

ويحمل الفصل الثالث عنوان (مسلسل التعذيب والقتل) وفي هذا العنوان ما يدل على ما يحوي الفصل من بشائع وجرائم ارتكبها النظام العراقي وقواته المحتلة وتحملها ببسالة ونبل الصامدون من أبناء شعب الكويت المسالم. إن هذه الممارسات التي يندى لها جبين البشر أكدت سوْرة الحقد وهيمنة الوحشية على تصرفات القوات العراقية التي لا تنتمي إلى العروبة والإنسانية بأوهى رباط.. والفصل الرابع في الكتاب تحت عنوان (أيام الكويت) يتناول التحركات والجهود الكويتية، موثقة مصورة، في إطار قرار الشرعية الدولية والتمهيد لحل عسكري بعد فشل كل المساعي والتحذيرات التي طالبته بخروج المحتل من الكويت بدون قيد أو شرط.. ذهبت كل تلك المساعي أدراج الرياح أمام عنت وعناد النظام العراقي الذي أضاع (الفرصة الأخيرة) وهو عنوان الفصل الخامس في الكتاب. وفيه يورد المؤلف التحركات الديبلوماسية والجهود الدولية. وسفر رؤساء الدول وأمين عام الأمم المتحدة ومساعي جيمس بيكر.. وما إلى ذلك من محاولات الإنقاذ، التي فهمها النظام العراقي، بغطرسته العمياء، فهمًا قاصرًا فأصرَّ على موقفه الذي أودى به إلى الجحيم.

وفي هذا الفصل يثبت المؤلف، كعادته كلمة ولي العهد الشيخ سعد العبدالله التي ألقاها في مقر قيادة القوات الكويتية في منطقة حفر الباطن في السعودية والتي يقول في ختامها:

" إنني أعرف أن المعركة المقبلة تحتاج منا جميعًا إلى مزيد من التضحيات وإنني واثق بأنكم جميعًا على أتم الاستعداد للتضحية في سبيل تحرير أرضنا ولتبقى الكويت.. الله أكبر.. ".

كما يورد بعد ذلك، خطاب الأمير جابر الأحمد الصباح الذي وجهه فى الشعب الكويتي بمناسبة مرور أربعة أشهر على احتلال الكويت والذي أشار فيه إلى أن (شمس التحرير ستشرق على أرض الكويت الطاهرة.. قريبًا..)..

وكانت كلماته تعكس الأمل وتؤكد الحقيقة التي لا مراء فيها..

ويمضي الفصل السادس بعنوان (موعد في جنيف)، والفصل السابع بعنوان (ساعة الصفر) على النهج نفسه من سد للوقائع مشفوع بوثائق التاريخ. حتى يصل المؤلف إلى الفصل الثامن (الرصاصة الأولى) وفيه يتتبع المؤلف الأحداث منذ الساعات الأولى لصباح السابع عشر من كانون الثاني/ يناير حين بدأت حرب تحرير الكويت، ولا يفوته في أثناء صد الوقائع والمعارك، أن يورد التصريحات والبيانات والكلمات والرسائل الموجهة ويوثقها في تسلسلها التاريخي الذي يؤكد أبعادها وتأثيرها.

وتمضي الفصول الأخيرة من الكتاب وهي (استراتيجية الهزيمة) و (الضربة القاضية) و (كويت الحرة).. لتكمل الصورة في أدق أبعادها، تاركة بين يدي القارئ والباحث ثبتًا مرجعيًا وشاهدًا موثقًا على تلك الجريمة النكراء، عاكسة الوجه الآخر من الصورة في معاني الصمود والإصرار على عودة الحق إلى أهله في الكويت الحرة.

وكما أسلفنا في المقدمة، ينتهي الكتاب بمجموعة من الوثائق المهمة تبدأ بقرارات مجلس الأمن المتعاقبة طوال الأزمة وحرب التحرير. وتضم أيضًا ملحقًا عن المؤتمر الوطني الشعبي الذي عقد في جدة في 13 تشرين الأول/ أكتوبر والكلمات التي ألقيت فيه..

يؤكد الكتاب أن هدف صدام حسين من احتلال الكويت كان ضمها وسرقة ثرواتها وكل ما تمتلكه داخل حدودها أو لدى العالم. إضافة إلى جلوسه على عرش ثلث نفط العالم. وأن المرحلة الأولى من الخطة- المؤامرة كانت تقضي بإلقاء القبض على العائلة الحاكمة وعلى رأسها أمير الكويت. ومحاولة إرغامه على التنازل عن الحكم وتملكه كل ما لدى الكويت من ممتلكات واستثمارات.

كتاب "وثائق الاحتلال وحقائق التحرير" هو في النهاية مرجع مهم. سجل تاريخي ليوميات أخطر حرب شهدها العرب في تاريخهم الحديث. ولا شك أن المكتبة العربية عمومًا والمكتبة الكويتية والخليجية خصوصًا تحتاج إلى مثل هذه الإضافة الغنية بالمعلومات المعززة بالأدلة الثابتة.

لقد كان تحرير الكويت حدثًا رائعًا في حياة العالم، أعاد كتابة التاريخ كما يعيد هذا الكتاب تسجيل الوقائع بالوثائق والحقائق.