ثقافة العالم الإسلامي والبحث عن هوية

ثقافة العالم الإسلامي والبحث عن هوية

حاول الأمير شكيب أرسلان قبل سبعين عاماً الإجابة عن السؤال التالي: لماذا تأخر المسلمون, ولماذا تقدم غيرهم? ويلخص السؤال الإشكالية التي شغلت سائر النهضويين والإصلاحيين: إشكالية التقدم, التي سبق أن عالجها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده بين آخرين كثيرين. وتعكس هذه الإشكالية وجهة نظر أولئك الإصلاحيين والتي ترى أنه بالعلم والتنظيم يمكننا اللحاق بأوربا بل التفوق عليها للفضائل التي تتمتع بها ثقافتنا ويتمتع بها اجتماعنا مما لا يملكه الغربيون. وقد أجاب النهضويون عن هذا السؤال إجابات متعددة تقدم فيها المعرفي على التنظيمي أو العكس, لكنها كانت دائما تدور بين هذين الأمرين مع إضافة مسألة ثالثة أحياناً من جانب المحافظين منهم بالقول إن من الأسباب المهمة للغلبة الغربية ترك المسلمين لمقتضيات ومتطلبات دينهم, ومن هذه المتطلبات أو من أهمها طبعاً: المعرفة والتنظيم!

وتصبح المتغيرات التي طرأت على فهم المسألة الحضارية الكبرى هذه واضحة في ضوء كتاب أبي الحسن الندوي منتصف الخمسينيات بعنوان: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين? ففي حين كانت المسؤولية أيام شكيب أرسلان, وأحمد فتحي زغلول (أخ سعد زغلول مترجم: سر تقدم الإنجليز السكسون) عن انحطاط المسلمين, وتقدم الغربيين عليهم تقع على عاتق المسلمين, فإن الندوي يوجه النظر هنا إلى ناحية مختلفة تماما من نواحي أو جوانب هذه الإشكالية: إسهام المسلمين القدامى في حضارة العالم, وانحراف الحضارة العالمية عن المسار الصحيح نتيجة توقف الإسهام الإسلامي في بنائها وتطورها. ورغم الإيجابية البادية لأول وهلة في هذا المنحى, والمتمثلة في تنبيه المسلمين إلى الدور العالمي الذي ينبغي أن يعودوا للقيام به, فإن آثار الانكماشية الإسلامية واضحة في الموضوع والمعالجة: الغرب مسئول مسئولية كبرى عن انحطاط المسلمين. إنها مسئولية تكاد تعادل مسئولية المسلمين أنفسهم. ثم إن الخروج من الانحطاط عند الندوي لا يتمثل بالتعلم والتنظيم بل بالعودة إلى الإسلام وقيمه وأحكامه. وفضيلة العودة لا تتمثل في إقدام المسلمين على التأثير والمشاركة في حضارة العالم من جديد, بل إلى قدرتهم عندها على العيش في ظل حضارتهم ودينهم, مستغنين عن الغرب والتغريب, ومزدهرين, بحيث يتحولون إلى نموذج يُحتذى من جانب الآخرين, ويستطيعون التحرر من سيطرة الشرق والغرب.

نزعة اكتفائية

إن هذه النزعة الاكتفائية التي برزت عشية القطيعة بين القوميين والإسلام, أو بين الإسلاميين والدولة الوطنية الناهضة, تعاصرت مع احداث مشابهة أو منذرة في سائر أنحاء العالم الإسلامي عندما بدا أن موجة جديدة للمتغيرات تتحرك على مستوى العالم الإسلامي, مع بزوغ الحرب الباردة بين الغرب والاتحاد السوفييتي وكان من جوانب هذه الموجة تصاعد العداء بين المسلمين والعالم المعاصر على المستوى الثقافي كما على المستوى السياسي. كانت باكستان قد قامت منفصلة عن الهند في محاولة لتأسيس دولة قوميتها الإسلام على اختلاف مذاهبه هناك, والاختلافات الإثنية بداخل المسلمين. وفي إندونيسيا كان الصراع مع الهولنديين يتصاعد, في الوقت الذي اصطدمت فيه الحركة الوطنية بالمحافظين والإحيائيين المسلمين على حد سواء. وفي الجزائر اتجهت طلائع الشبان المتأثرة باليسار وحركات التحرر إلى أسلوب الحرب الشعبية ضد الاستعمار الفرنسي, دونما دعم قوي من جمعية العلماء الجزائريين النهضوية الطابع في عهد البشير الإبراهيمي خليفة عبدالحميد بن باديس في زعامة الجمعية. وقد غطى الصراع بين القوتين العظميين في المجال العالمي, على الصراع الآخر الذي كان يحصل على المستوى المحلي السياسي والثقافي بين الإسلاميين من جهة والقوميين والدول الوطنية من جهة ثانية, لكن الصراع كان على أشده, وهو لايزال كذلك حتى اليـوم برغم المتغـيرات العالمية العاصفة.

نهج التأصيل

تطور لدى الصحويين أو الإحيائيين الإسلاميين تدريجياً منهج للنظر إلى سائر المسائل عُرف في الستينيات بمنهج أو نهج التأصيل, أي إعادة الأمور إلى أصولها. وأصول الأمور عند طلائعهم القرآن والسنة, وأحيانا القرآن وحسب. وكانت السلفية الوهابية قد عمدت لذلك منذ مطالع القرن العشرين. بل إن السلفيين الهنود واليمنيين (وبعض المغاربة) الذين عرفوا شيخ الإسلام ابن تيمية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر حققوا إنجازات في مجال الاجتهاد الفقهي بنبذ التقليد, والأعراف الموروثة, والاتجاه إلى القرآن والسنة لإعادة اكتشافهما وتأملهما. بيد أن البيئات والظروف المحيطة وقتها ما أحدثت مشكلة مع العالم الحديث, ولا مع التجربة التاريخية الإسلامية, فقد كانت تلك الدعوة القوية لفتح باب الاجتهاد, ونبذ التقليد, من الممهدات للإصلاحية الإسلامية المنفتحة والمجتهدة.

أما الذي أعطى السلفية الجديدة نكهتها الخاصة فكان الظروف المحيطة التي جرت الاستعانة بها في سياقها. وهي سوء الفهم الشامل بين المثقفين الإسلاميين مع الغرب الإمبريالي, ومع الدولة الوطنية البازغة في ظله وبرعايته, وبالاعتناق لقيمه وتنظيماته. ولذا فقد أتى التأصيل (العودة إلى الأصول) في هذا السياق ليس من أجل التجديد, بل تمسكاً بالهوية خوفاً عليها من الضياع على كل المستويات الشعائرية والاجتماعية والسياسية والثقافية والرمزية. وعندما ازدادت القطيعة صار التأصيل سلاحاً ذا حدين: لإدانة كل جديد باعتباره خارجاً على الأصول, ولعدم الاعتراف بأي شيء ـ وإن لم تظهر مخالفته للمعروف ـ إلا إذا أمكن إعادته نصاً أو استدلالاً إلى أحد الأصلين. ولذا فقد شاع في الستينيات والسبعينيات لدى الإحيائيين الإسلاميين رفض كل شيء من مخرجات العالم الجديد, وقراءة النصوص بطريقة تدين الحضارة المعاصرة, بل والمجتمعات الإسلامية, إدانة شاملة ـ على أساس من منهج التأصيل هذا.

تواصل مع الثقافة الحديثة

بدا مالك بن نبي, المفكر الإسلامي الجزائري اللاجئ إلى مصر في الخمسينيات, مغرداً خارج سربه, حينما أصدر كتابيه: (مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي ـ الصراع الفكري في البلدان المستعمرة), و(مؤتمر باندونغ). بدا مغرداً خارج سربه لأنه اتجه للتواصل مع الثقافة الحديثة, ونُخب الدولة الوطنية, في وقت كان فيه الإحيائيون الإسلاميون بالمشرق كله يتجهون للقطيعة مع الدولة الوطنية, والثقافة الحديثة على حد سواء. كانت الإصلاحية لاتزال حية وقوية في بلدان المغرب العربي, وكان مالك بن نبي كسائر رُفقائه شديد الوعي بالحضارة الأوروبية وقيمها, وفي الوقت نفسه: حاد الوعي بالنزعة الإمبريالية والعدوانية في تلك الحضارة. وشأن الإصلاحيين المشارقة حتى الثلاثينيات, فقد ظل عميق الاقتناع بأن التواصل مع الغرب ممكن بل ضروري, لكن من موقع الند للند, وأن مخاوف الإسلاميين الصحويين من أوربا لا مسوغ لها, إلا إذا بقينا على انحطاطنا ومنازعاتنا وانقساماتنا. حالة الجمود الحضاري التي نُعاني منها هي التي خلقت حالة القابلية للاستعمار. وتجاوزها يكون بالتواصل مع العالم, وبالنهوض الثقافي والعلمي والاقتصادي, وسيلة لإخراج الاستعمار, والانخراط في العصر. ومن هذا المنطلق اشتد اعتزازه باجتماع زعماء آسيا وإفريقيا الكبار عام 1955 في باندونغ إذ رأى في ذلك مبادرة لإعطاء مغزى عالمي للعرب والمسلمين, وللمشاركة في امن العالم ومصائره. وقد عاد لمعالجة الموضوعين: القابلية للاستعمار, والمغزى العالمي وأهميته في كتابه: مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي. لاحظ مالك بن نبي أمائر الانكماش في الحركية الإسلامية, وخشي من تلك الأمائر على مستقبل المسلمين, ومكانتهم في العالم بعد زوال الاستتباع السياسي والاستعمار العسكري. وما رأى حرجاً في التعامل مع الدولة الوطنية. فالمهم ما تقوم به, وليس كيف وصل الحكام إلى السلطة: إن هذه السلطات تسعى لإخراج المستعمرين, وتسعى لإقامة جبهة من المتضررين من الحرب الباردة, وتسعى لإقامة عدالة اجتماعية تخرج المواطنين من جمودهم وعدم اهتمامهم, وتسعى أخيراً لمناضلة الصهاينة في فلسطين.

لذا فقد رأى ان اقامة الدولة في المشرق, ضرورة وفرصة ينبغي ألا نفوتها حتى لا نُسيء بذلك إلى مواطنينا وبالتالي إلى مستقبلنا.

بيد أن فشل برامج الدولة الوطنية دفع مالك بن نبي إلى صفوف الصحويين أيضـاً. فعندما قابلته في مطلع السبعينيات من أجل اجراء مقابـلة معه لمجلة (الفكر الإسلامي) التي كانت تصدرها دار الفتوى بلبنان, كان همه منصباً على مهاجمة المستشرقين والمبشرين, دون أن يقول كلمة عن مشكلة الافكار, وكيف ان الإسلاميين يستعيرون (بتعبيرات مختلفة) مصطلحات وتكتيكات وسياسات اليساريين والقوميين الذين فشلوا في تحقيق ما وعدوا به.

أزمة متعددة الوجوه

هكذا نطل على القرن الواحد والعشرين, ونحن نحاول الخروج من أزمة متعددة الوجوه, اعمقها الوجه الثقافي, الذي استولى عليه الإسلاميون بعد اليساريين, فما كانوا فيه أكفأ منهم بكثير. بيد أن الفوارق بين الأربعينيات حينما بدأ الإسلاميون يدخلون الى المجال الثقافي والتسعينيات كثيرة وكبيرة. ومن أهمها أن المشهد الثقافي الاسلامي ما عاد موحداً في مشكلاته ولا في أطروحاته, وأن مأزق الصحويين المتمثل في اجتراح قطيعة كاملة مع الثقافة الغربية, أعمق وأكثر سلبية من تأزم الإصلاحيين المنقضي والناجم عن الاقتناع العميق بامكان التواصل مع الغرب من دون حدود.

كان التحول الإسلامي عن القطيعة على المستوى الثقافي قد بدأ أواخر السبعينيات على يد المرحوم الأستاذ اسماعيل راجي الفاروقي وزملائه, الذين أقاموا مؤسسة بأمريكا لإسلامية المعرفة (المعهد العالي للفكر الإسلامي). بذلك حاولوا مخلصين العودة للتواصل دون التخلي عن إشكالية الهوية, وهي المميز للفكر الإسلامي المعاصر منذ لحظة ولادته في العشرينيات من هذا القرن. ولأن المعرفة بحد ذاتها (حتى في العلوم الاجتماعية!) لا هوية لها بالمعني الذي قصدوه, فقد كانوا يحاولون اجتراح المستحيل. ذلك أن الاحساس بهول القطيعة الثقافية مع العصر على الفكر الإسلامي, كان ينبغي ان يدفعهم الى قراءة الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر قراءة نقدية لتبين مشكلاته, ووجوه خطله وخطره, بدلاً من نقد الثقافة الغربية دونما كفاءة او استعداد لذلك. والمعروف ان التوصل الى نقد البرادغمات يتطلب تراكماً لا تملكه الثقافة الاسلامية المعاصرة, ويتطلب أفقاً ثقافياً منفتحاً مستعداً لتقبل غير المألوف او مناقشته دونما خوف او وجل وهو ما لا نملكه ايضاً.

لا يبدو الوضع الثقافي العربي الإسلامي مطمئناً إذن. وتفاقم من أزمته المتغيرات على المستويين السياسي والاقتصادي ـ بمعنى أن البيئات المحيطة لا تساعد على تراكم سريع أو القيام بنقدية جذرية من الداخل. بيد أن المطمئن والواعد أمران: عودة مسائل النظر والتفكير والنقاش الى الواجهة, وأن هناك قناعة عميقة لدى الإسلاميين بضرورات التغير والتجدد والتواصل مع العالم من أجل الاستمرار, ومن أجل المستقبل.

 

رضوان السيد