اللغة حياة

اللغة حياة

الفَرَس ليس أنثى الحِصان

لا أعرف من كان أوّل الجناة على كلمة «فَرَس» فزعم أنّها تدلّ على أنثى الحِصان، وبثّ زعمه في كتب الصرف التعليميّة المختلفة، عند الاستشهاد لما يكون لفظ مؤنّثه مختلفاً عن لفظ مذكّره، كالمرأة التي هي مؤنّث الرجل (علماً أنّ المرأة مشتقّة من المرء، فهي مؤنّثُه كما استنتج بعض اللغويّين)؛ وكالنعجة التي هي مؤنّث الخَروف (علماً أنّ الخروف هو الذكر من الضأن الذي لم يتجاوز عشرة أشهر، ومؤنّثه عند اللغويّين خروفة، وأنّ النعجة هي أنثى الضأن والظِباء والبقر الوحشيّ عامّة) وكالبقرة التي هي أنثى الثور.

وقد جهدتُ في تنبيه طلابي في الجامعة على خطأ ذلك الزعم، لكنّ جهدي لم يكن دائماً ينفع، فمن الطلاّب من لا يحضر كلّ الدروس، ومنهم من يصرّ على ما تعلّمه قبل المرحلة الجامعيّة، ولو كان النصّ الذي يتناوله صريح الدلالة على المذكّر، كقول المتنبي : «فَرَسٌ سابِقٌ ورُمْحٌ طَويلُ، الخ».

والحقيقة أنّ غاية ما يذهب إليه أهل اللغة والأدب هو التسوية بين تذكير الفَرَس وتأنيثه، كقول الجاحظ: «يقولون فَرَس للأنثى والذكر» وكقول ابن الأنباريّ: «الفَرَس تقع على المذكّر والمؤنّث»؛ وإن كان في هذه التسوية نفسها نظر، والأصحّ، في رأينا، أن يقال إنّ الفَرَس مذكّر، وقد يقع على الأنثى، وأنّ الغالب أن يقال حينئذ فَرَس أنثى؛ وربّما اكتفي بعضهم بكناية أنثى، كالجاحظ حين قال: «كان قيس بن عاصِم المِنْقَريّ على أنثى، وكان الحَوْفَزان على حِصان»، وينسب كتاب «الأغاني» إلى عُيَيْنة بن حِصن أنّه قال لغلامه الذي أسرج له فرساً أنثى: «وَيْحَكَ، أرأيتَني ركبتُ أُنثى في الجاهليّة فأركبها في الإسلام؟». وزعم اللغويّ المشهور يونس بن حبيب أنّه سمع «العرب تقول: فَرَسة»، أي أنّ الفَرَس مذكّر عندهم، وأنهم يؤنّثونه بزيادة التاء.

وبكلام آخر، قلّما يدلّ الفَرَس على الأنثى إلاّ بقرينةٍ: تاء التأنيث أو صفةٍ مؤنّثة أو ما أشبه ذلك؛ لأنّ المذكّر، كما يقول سيبويه «أوّلُ «...» وإنّما يخرج التأنيث من التذكير». فكلّ ما يستوي فيه التذكير والتأنيث الحقيقيّان ينبغي أن يكون مذكّره هو الأصل، ومؤنّثه هو الفرع. وإن كان سيبويه قد اضطرب في أمر الفَرَس بعض الاضطراب؛ إذ أكّد، ابتداءً، أنّ الكلمة للمذكّر فجعلوها للمذكّر والمؤنّث، واستشهد برأي الخليل في أنّ الفَرَس مذكّر شاركه المؤنّث في لفظه، وأشار في كلامه على العدد والمعدود إلى أنّنا نقول «خمسة أفراس، إذا كان الواحد مذكّراً» يعني إذا كان الواحد فَرَساً ذَكَراً؛ لكنّه أشار بعد ذلك إلى أنّك «تقول: ثلاث أفراس إذا أردت المذكّر؛ لأنّ الفَرَس قد ألزموه التأنيث وصار في كلامهم للمؤنّث أكثر منه للمذكّر»؛ وهو كلام ملتبس، ولاسيّما أنّ إرادة المنشئ تذكيرَ المعدود تقتضي تأنيث العدد المفرد، ولو كان المعدود مؤنّثاً في الأصل، فكيف إذا كان أصله مذكّراً؟ والعادة اللغويّة لا تلغي إرادة المنشئ، فهو قد يخالفها فيخالف الأحكام الصرفيّة التي تقتضيها.

والاستعمال لا يؤيّد ما ذهب إليه سيبويه في قوله الأخير ذاك. فمن أصل أربع وعشرين مرّة ذُكر فيها الفَرَس، في «صحيح مُسْلم»، جاءت تلك الكلمة مذكّرة عشرين مرّة، ومؤنّثة أربع مرات؛ أي بلغت نسبة تذكيرها أكثر من ثمانين في المائة، بعد ترك المكرّرات. ونجد النسبة نفسها تقريباً في رسائل الجاحظ، ونسبة سبعين بالمئة تقريباً في كتاب «الكامل» للمبرّد، ونحو ست وتسعين بالمئة في أكثر من ثلث كتاب «الأغاني». والمثل العربيّ يقول: «من أبوك يا بغل؟ قال خالي الفَرَس» والخال ذَكَر. ولذلك من حقّنا أن نستغرب ما رواه أبو داوود، في باب الجهاد، عن أبي هُرَيْرة، وهو أنّ الرسول كان يسمّي الأنثى من الخيل فَرَساً، وإنْ كانت الرواية المذكورة لا تعني أنّ الرسول لم يكن يسمى الذَكَر بمثل ذلك. هذا ما يتّصل بالفَرَس؛ أمّا الحِصان فهو الذَكَر الكريم من الخيل، ثمّ أُطلق على كل فَرَس ذَكَر؛ فهو مرادف للفَرَس وليس الفَرَس أنثاه، مع الفرق أنّ الفَرَس لفظ يدلّ على عامّة الخيل، على حين أنّ الحِصان يختصّ بذكورها، ولا يشمل الإناث؛ ولذلك قالوا للحاذق في ركوب الخيل، ولاسيّما في الحرب، فارِس، واشتقوا الفروسيّة من ذلك، ولم يقولوا حاصِن، لأنّ الفارس قد يمتطي الذكر والأنثى من الخيل. ويُفهم من كلام للجاحظ أنّ العرب إذا أرادت تفريق ذكَر الخيل من أنثاها قالت: حِصان؛ وفي بقية خبر عُيَيْنة بن حصن المذكور آنفاً، والذي فيه استنكار لركوب الأنثى «فأسرَجَ له حِصاناً، فركبه». ولذلك نجدهم يقرنون كلمة الفَرَس أحياناً بالحِصان، كقول الطبريّ: «وخرج فِرعون على فَرَسٍ حِصانٍ أدهم»؛ وكأنّ الحِصان صفة دالّة على الذكورة، وأنّ عبارة «فَرَس حِصان» تعني الفَرَس الذَكَر، وتقابل عبارة «فَرَس أنثى».

واللافت أنّ القدماء قلّما استعملوا كلمة الحِصان وجمعَها حُصُناً، بل فضّلوا عليهما فَرَساً وأفراساً، وجَواداً وجِياداً. فنحن لا نجد إلاّ حديثين نبويّين ذُكر فيهما الحِصان، وخلا كتاب سيبويه من ذكر الحِصان كليّة؛ وفي كل ما رواه الجاحظ وقاله في «البيان والتبيين» لا ذكر للحِصان إلاّ مرّتين، وكذلك في كتابه «البُرصان والعُرجان والعُميان والحُولان»؛ وحتى في كتابه «الحيوان» لم يذكر الحِصان إلاّ ثلاث مرّات؛ ولم يذكر المبرّد الحصان في كتاب «الكامل» إلاّ مرّة واحدة، وكذلك ابن عبد ربّه في كتاب «العقد»؛ ويذكر الطبريّ الحصان في تفسيره كلّه اثنتي عشرة مرّة، لكنْ في الكلام على خيل فرعون فحسب، أمّا في سائر الكلام فيذكر الفَرَس؛ على أنّ كتاب «الأغاني» ذكر الحِصان ست عشرة مرّة (ولكنّه ذكر الفَرَس كثيراً، اثنتين وعشرين مرّة في قرابة ثلث صفحاته فحسب).

وقد ساوى أبو الطيّب المتنبّي، وهو من الشعراء المحْدثين كما هو معروف، بين كلمة حِصان وجمعِها، وبين كلمة فَرَس وجمعها أيضاً، فاستعمل كلاً منهما عشر مرّات. وهو بذلك قد طوّر الاستعمال، وآذن هو وأمثاله، على ما يبدو، بشيوع كلمة حِصان من بعد، حتى كادت تغلب، في عصرنا الحديث، على كلمتي الفَرَس والخيل.

لكن ما هي أنثى الحِصان أو الفَرَس؟ ذاك هو السؤال الأهمّ! إنّها الحِجْر، وجمعها حُجور؛ قال الجاحظ مثلاً، في بعض رسائله :«وما يحمي الفَرسُ الحِصانُ الحُجورَ في المروج»؛ وبيّن أيضاً أنّ الكلمة تستعمل لتفريق أنثى الخيل من ذكرها. لكنّ هذه الكلمة تبدو من الغريب النادر الاستعمال، ولا ريب في أنّ العرب فضّلوا عليها عبارة «فَرَس أنثى».

 

 

مصطفى عليّ الجوزو