جمال العربية

جمال العربية

«رمضان»... في شعر هؤلاء

على كثرة ما كُتب عن رمضان من آثار نثرية وشعرية، فقد اتفق معظم من تناولوا أثره في النفس والوجدان، وجلوْا سمْته الروحي والإيماني، على أهميته موسمًا للعبادة والتأمل، والخشوع ومحاسبة النفس، كما اتفقوا على كونه ضيفًا كريمًا، يحلّ بدنياهم مرة في كل عام، وحقّ الضيف أن يكرم ويحيا في استقباله وإقامته وتوديعه.

لكن التأمل الأعمق في هذه التجليات النثرية والشعرية، يكشف عن مدى تنوّعها واختلافها، فمن بينها الزاهد الخاشع، والمزورُّ الحيِيّ، والمرح الفكِه، ومنها - أيضًا - المتحرر المنطلق الماجن، كما يقول أحد الباحثين الذين شغلوا بهذه الآثار عن رمضان. وهو يستشهد على هذا الرأي ببيت للخبز أرزي يقول فيه:

أرى ليَ في شهر الصيام إذا أتى
لياليَ عيّارٍ، وأيام عابدِ

(والعيّار هو الكثير المجيء والذهاب والكثير التطواف لا يستقر على حال). فهو يصرح بأنه قسم يومه قسمين: نهار يعيش فيه كما يعيش العباد بين صلاة وذكر وتسبيح, وليل يذهب فيه ويجيء بين مسارح اللهو وصنوف المتعة.

أما الشاعر الشيخ عبد الله بن عليّ - من شعراء "هجر" فيقول في وداع رمضان:

خليليَّ شهر الصوم زُمت مطاياهُ
وسارت وفود العاشقين بمسراهُ
فقوما بنا نبكي على حسن عهدهِ
وما فاتنا منه، ونذكرُ حُسْناهُ
ويا حاديىْ أظعانه لو وقفتما
فنقضي من الأوطار ما قد نسيناهُ
على أنه يقضي الزمان جميعهُ
وما وطر من حُبِّ "ليلي" قضيْناهُ
فيا شهر لا تبعد، لك الخيرُ كلُّه
فأنت ربيع الوصل، يا طيب مرعاهُ
مساجدنا معمورة في نهاره
وفي ليله، والليل يحمد مسراهُ

ويقول الشاعر محمد مصطفى حمام، وكان معروفًا بهزلياته ومفاكهاته ومعابثاته في شعره، فلما خطر له أن يكون رمضان "موضوعًا" لشعره، إذا به يظهر وجهًا جادًّا غير مألوف، ويجاري أهل البيان ورجاله فيما يقولونه، وكلامهم - في هذا المقام - هو عادة يستلهم حكمة رمضان وفلسفته وشعائره، يقول:

انفثوا السحْر يا رجال البيانِ
وأطيلوا الحديث عن رمضانِ
العزيز الحبيب أسمحُ من هلَّ
علينا، وأكرم الضّيفانِ
النصيح المُعلّم الواعظ الها
دي، رسول الحنان، والإحسانِ
جامع الشمل، مطفئ الغلّ، مذكي
قبس الحبِّ، موقظ الإيمانِ
حدّثونا عن راحة القيد فيه
حدّثونا عن نعمة الحرمانِ
هو للناس قاهرٌ دون قهرٍ
وهو سلطانهم بلا سلطانِ
قال: جوعوا نهاركم فأطاعوا
خُشّعا، يلهجون بالشكرانِ
قال: أفنوا الدجى بنُسْكٍ وذكرٍ
فتباروا في طاعة الرحمن
أفسحوا لي في الذاكرين مكانًا
ومكانًا في مجلس القرآنِ
هيئوا لي منارةً،أحتفي بالفجْـ
ر فيها، مجلجلاً بالأذانِ

ونصل إلى شاعر شديد المحافظة والتوقر هو محمد الأسمر، الذي يقول عن رمضان؛ شهر الصوم:

رعى الله شهر الصوم، أما نهارهُ
فغافٍ وأما ليله فهو ساهرُ
وحيّا رجالاً حين لاح هلالُه
مشتْ بينهم مشْيَ النسيم البشائرُ
بطان، إذا ما الشمس أرخت قناعها
خماص، إذا ما أقبلت وهي سافِرُ
خضوعًا لمن فوق السماوات عرشهُ
ويعلم منهم ما تُكنُّ السرائرُ
هو الله، فاعبدْهُ العبادةَ كُلّها
إذا راح يلهو بالعبادةِ فاجرُ

أما صورة "رمضان" الزائر الجدير بالحفاوة، والذي يُحيّا بالسلام والسلامة، فنجدها لدى مصطفى صادق الرافعي الذي عرف بكتاباته الإسلامية والوجدانية النثرية، لكن ديوانه يتسع لهذه القصيدة، التي جاءت في لغة مغايرة للغة "الرافعي" الشديدة المحافظة، والملتزمة للنهج البياني الذي كتب به رواد عصر النهضة، فإذا بها لغة شديدة اليسْر والبساطة والتدفق. يقول الرافعي:

فديْتك زائرًا في كلِّ عامِ
تُحيّا بالسلامةِ والسلامِ
وتُقبل كالغمامِ يفيضُ حينًا
ويبقى بعده أثر الغمامِ
وكم في الناسِ من كَلِفٍ مشوقٍ
إليكَ، وكم شجيٍّ مستهامِ
رمزْتَ له بألحاظِ الليالي
وقد عيّ الزمان عن الكلامِ
فظلّ يعدّ يومًا بعد يومٍ
كما اعتادوا لأيام السّقامِ
ومدّ له رواق الليل ظلاًّ
ترفّ عليه أجنحةُ الظلامِ
فبات وملء عينيه منامٌ
لتنفض عنهما كسل المنامِ
ولم أرَ قبل حُبّك من حبيبٍ
كفى العشاق لوعات الغرامِ
فلو تدري العوالم ما دريْنا
لَحنّت للصلاة وللصيامِ
بني الإسلام هذا خير ضيف
إذا غَشِيَ الكريمُ ذرَا الكرامِ
يلمُّكمو على خير السّجايا
ويجمعكم على الهممِ العظامِ
فشدُّوا فيه أيديكم بعزمٍ
كما شدّ الكميُّ على الحسامِ
وقوموا في لياليه الغوالي
فما عاجتَ عليكم للمقامِ
وكم نَفرٍ تغرُّهمو الليالي
وما خُلقوا ولا هي للدّوامِ
فتلك عوائدُ القومِ اللّئامِ
يُحلّون الحرام إذا أرادوا
وقد بان الحلال من الحرامِ
وما كلُّ الأنامِ ذوي عقولٍ
إذا عدُّوا البهائم في الأنامِ
ومن روّتْه مُرضعة المعاصي
فقد جاءتْه أيامُ الفطامِ!

يلفت النظر ونحن نتأمل قصيدة مصطفى صادق الرافعي أنها تركت تأثيرًا واضحًا في الشاعر محمود حسن إسماعيل وهو يبدع قصيدته عن رمضان التي سمّاها "الله والزمن" فإذا به يستهل قصيدته كما فعل الرافعي بصورة الضيف أو الزائر الذي يتطلب التحية، ولا يكتفي بمشابهة مطلع القصيدة بل هو يختار البحر الشعري نفسه وزنًا لقصيدته، والقافية الميمية التي يسبقها المدُّ. وهو تشابه يُغري بدراسة تقارن بين القصيدتين، وما تحملهما من معانٍ وأفكار وصور وأحاسيس ولغة شعرية.

يقول محمود حسن إسماعيل:

أضَيْفٌ أنت حلَّ على الأنامِ
وأقسمَ أن يُحيّا بالصيام؟
قطعْتَ الدهر جوّابًا وفيًّا
يعود مزاره في كلِّ عامِ
تُخيّم لا يحدُّ حماكَ ركنٌ
فكلُّ الأرض مهدٌ للخيام
نسخْتَ شعائر الضيفان، لمّا
قنعْتَ من الضيافة بالمقامِ
ورحت تسُنُّ للأجوادِ شرْعًا
من الإحساس عُلْويَّ النظامِ
بأنّ الجود حرمانٌ وزهدٌ
أعزٌ من الشرابِ أو الطعامِ!
أشهرٌ أنت أم رُؤيا متابِ
تألّق طيْفها مثل الشِّهاب؟
تمّرغَ في ظلالك كلُّ عاصٍ
وكلُّ مُرجّسٍ دنسِ الإهابِ
فأنت مُحيّرُ الآثامِ.. تجري
فتلْحقُها بأحلامِ العذابِ
تراك شفيع توْبتها، فَتخْزى
وتُوأدُ تحت أجنحةِ الشّبابِ!
وأنت منارةُ الغفرانِ، يأوي
إليك اليائسون من المتابِ
وعند الله سُؤْلُكَ مُستجابٌ
ولو حُمِّلْتَ أوزارَ التُّرابِ
وقفْتَ خطاكَ عند البائسينا
فكنْتَ لليلهم فلقًا مُبينا
تساقُ إليك أمواجُ التحايا
فتدفعها لبابِ المُعْوزينا
فكم آهاتِ محرومٍ حداها
إليك البؤس، فانقلبتْ رنينا
فأنت مُفزّعُ البخّالِ، تجري
خُطاكَ على حجارتهم مَعينا
وأنت مُلقّنُ الأيدي نداها
ومُكْسبُها التراحمَ والحنينا
يخافُك كلُّ قارونٍ شحيح
فيخجل أن يردَّ السّائلينا
ومُنْذُ تهلّ ترهُبكَ الذُّنوبُ
وتختشع السّرائرُ والقلوبُ
وتفزع أن تقابلك المعاصي
فتُهرع، أو تُقنّعُ، أو تذوبُ
ويُجفل أن يراك أخو هواها
ولو قتلت مشاعرهُ العيوبُ
كأنك فارسُ الأيام، تبدو
فيصعقُها مُهنَّدك الغضوبُ
كأنّ بكفِّك البيضاءِ سرًّا
من النجوى تكتَّمهُ الغيوبُ
تُجابهُ كلَّ غيّانٍ عنيدٍ
فيكتتمُ الغَوايةَ، أو يتوبُ
جعلْتَ الناس في وقتِ المغيبِ
عبيد ندائك العاتي الرّهيبِ
كم ارتقبوا الأذانَ كأنَّ جُرحًا
يُعذّبُهم تلفَّتَ للطبيبِ
وأتلعت الرقاب بهم، فلاحوا
كركبانٍ على بلدٍ غريبِ
عُتاةُ الإنْسِ، أنت نسخْتَ منهم
تذلّلَ أوجُهٍ، وضنى جُنوبِ
فَيَا مِنْ لقمةٍ وحفيفِ ماءٍ
يُقلّبُ روحه فوق اللهيبِ
علام البغْيُ والطغيان؟ إني
كَفرْتُ بمنطق الدنيا العجيبِ!
تلفّتْ للمآذنِ حالياتِ
كحوريّات خُلْدٍ سافراتِ
تفوح مباخرُ النسَّاكِ منها
فتحسبُها غُصونًا عاطراتِ
كأنك حامل وحْيًا إليها
وقفْن لسحْرهِ مُتلهفاتِ
إذا صاح الأذانُ بها أَرنّت
بإلهامٍ، كموج البحر، عاتِ
يذكّر بالهداية كلَّ ناسٍ
ويوقظُ كلَّ غافٍ في الحياةِ!
وهذا المُعجز العالي الرّخيمُ
أذانُ الله، والذكْرُ الحكيمُ
تلاهُ في سكون الليلِ تالٍ
فكاد لهوْلهِ تهوي النجُومُ
نداء تفزعُ الأفلاكُ منهُ
ويخشعُ في مساربه السّديم
على سمْع الهداة يضوعُ عطرًا
وتُقذفُ منه للغاوي رجومُ
أصاخ الكونُ مسحورًا إليه
وخرّ لبأسهِ الأزلُ القديمُ
تنزّل فوق صدرك من علاهُ
بشيرُ الوحي، والدّينُ القويمُ
سلامًا ناسكَ الزمنِ القويِّ
من القلب الحزينِ الشاعريِّ
حملتُ إليك أشواقي وسرّي
لتحملها إلى الأفُقِ العليِّ
تمائميَ التعبُّد بالأغاني
على نَغماتِ قيثارٍ شقيِّ
أمرُّ بها على زمني غريبًا
كطيْرٍ تاه في ظُلَم العشيِّ
وأعزف للصبائح والأماسي
فينتفض الغناء لكلِّ حيّ
كأني ما ذرفْتُ أسى زماني
ولا أفضي صداي بأي شيّ
طلعْتَ مُنوّرا فوق العبادِ
فأيقظ من تشبّثَ بالرقادِ
وقل للشرق: إن الكون يمشي
على سُبلٍ مُغيّبة الرّشادِ
فخذْ لزمانكَ الزّادَ المُرجّى
من الخُلقِ القويم والاتحادِ
ولا يُوقفْك في التيار هوْلٌ
فنارُ الهوْلِ، نورٌ للجهادِ
لقد ملّتْ تقلُّبنَا الليالي
على وَضر التنعّم والفسادِ
شدا لك بالأذانِ خميلُ مصرٍ
فقُمْ، وانشرْ صداهُ على البوادي!

واللافت للانتباه - بعد هذا التطواف في عديد النماذج الشعرية التي شغل أصحابها بشهر رمضان - أن هذا الشعر وغيره مما يدخل في بابه، لم يحلق إلى الأفق الذي بلغه شعر العشق الإلهي أو الوجد الصوفي عند محيي الدين بن عربي وعمر بن الفارض والسهروردي والشهرزوري والحلاج وغيرهم، ولم يبلغ المدى الذي بلغه شعر المدائح النبوية في كثير من نماذجه العالية. وربما كان انشطار كثير من الشعراء - في موقفهم من رمضان - بين انطلاقٍ مُقيّدٍ، وجموح غير مرغوب فيه، هو السبب في أن وهج الإبداع لم يبلغ مداه وعنفوان الشاعرية لم يكن في أحسن حالاته. لذا، يظلّ بيتا البحتري في تهنئته المتوكل بانقضاء شهر رمضان: شهر الصوم، وقدوم يوم الفطر: يوم العيد، جديريْن بالتأمل، بوصفهما من إبداع الزمن الشعري الموفور البهاء والجلال:

بالبرّ صمْتَ، وأنتَ أفضل صائمٍ
وبسنّة الله الرضية تُفطُر
فانعم بيوم الفطر عيدًا، إنه
يوم أغرُّ من الزمان مُشهّرُ!

 

 

فاروق شوشة