عندما يتقاعد العالم.. د. سليمان إبراهيم العسكري

عندما يتقاعد العالم.. د. سليمان إبراهيم العسكري

لسنا استثناء في هذا العالم، وما سيحتاج إليه في المستقبل، لابد أنه واصل إلينا، ولأننا نفتقد - غالبًا - التخطيط للغد ونحيا الحياة يومًا بيوم، فإن تحولات العالم تفاجئنا، ونحن لها غير متأهبين، هكذا دهمتنا أزمة غلاء أسعار الغذاء العالمي، ودهمتنا وتدهمنا تغيرات المناخ. وإذا كان هذان المثالان مما لا نستطيع معه ادعاء القدرة المنفردة على التدبر والتفكر، نظرًا إلى أبعادهما العالمية، فإن هناك أزمة قادمة لم نفكر فيها، أزمة ترتبط بالوضع السكاني العربي المستقبلي، ولأننا لا نملك معطيات عربية واضحة في هذا الشأن، فإننا نفتح هذا الملف المستقبلي الخطير، في ضوء معطيات الآخرين الذين يعيشون اللحظة، ويشغلهم المستقبل.

  • طبقًا لتوقعات الأمم المتحدة سوف يمثل الأشخاص البالغون من العمر خمسة وستين عامًا فأكثر 23 في المائة من السكان بحلول عام 2030 مقابل 16 في المائة في الوقت الحالي
  • الوضع الديموجرافي المتفاقم ليس مجرد تغير عارض بل هو انقلاب حقيقي يحمل في ثناياه أخطار كل الانقلابات في الحياة البشرية، بل الحياة على كوكب الأرض
  • على الرغم من الحسابات الأمريكية المتشائمة لمشكلة التقاعد وعواقبها المستقبلية، فإنهم يضعون حساباتهم لخمسة وسبعين عامًا قادمة ويفكرون في الحلول منذ الآن
  • تأخر سن الزواج وازدياد العنوسة وتقليل عدد الأطفال في الأسر العربية مع ارتفاع متوسط الأعمار ومحدودية التطور الاقتصادي ترجح اصطدامنا بمعضلة التقاعد

«آلان جرينسبان» رجل بدا عجوزًا منذ فترة بعيدة، منذ بدأ يظهر على شاشات التلفاز، ويرتبط بأخبار المال في العالم، بل مركز المال في العالم، فهو شغل منصب رئيس مجلس إدارة بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لمدة عشرين عامًا قبل أن يتقاعد في عام 2006م. وبعد تقاعده - شأن معظم المسئولين وأهل الخبرة في العالم - أصدر كتابًا يحكي فيه عن تجربته، ويمد خيوط هذه التجربة ليتأمل أسئلة المستقبل، وكان مدار التجربة المعيشة وتأملات المستقبل - على السواء - هي أمور الاقتصاد والمال، وهي أمور ثقيلة الظل بالنسبة إلى عموم المثقفين، بل غير مفهومة لغير المتخصصين، لكن هذا العجوز المولود عام 1926م في واشنطن هايتس، بنيويورك، وبمساعدة آليات التأليف والنشر والتحرير الحديثة، التي يحيط فيها فريق كامل من الباحثين والمساعدين والمراجعين بالمؤلف، حوّل الكتابة في موضوع شديد الوطأة كالاقتصاد، إلى قصة بوليسية عبر تعقب الأرقام والتحليلات من خلال قصة حياته وتقلبات العالم الذي عاش ويعيش فيه، وقد أسمى الكتاب ضخم الحجم «عالم في اضطراب» من 621 صفحة، ليصف الفترة التي عايشها والفترة التي يمد بصره إلى آفاقها.

ولقد أثار الكتاب في ذهني شجونًا عربية، بالرغم من أنه لا يكاد يذكر العرب في كتابه، ومن بين ما أثاره موضوع المأزق السكاني الذي أظن أننا غير منتبهين له، أو على الأقل غير منتبهين بالدرجة الكافية التي يستحقها مأزق بهذا التغلغل المحتمل، والضغط الأخلاقي والاقتصادي والاجتماعي الذي لابد أن يصاحبه.

يقول «جرينسبان» في كتابه هذا إن العالم المتقدم بأسره على شفا هوّة ديموجرافية غير مسبوقة، ذلك أن جماعة ضخمة من العمال هم مَن ولدوا في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، على وشك الانتقال من العمل المنتج إلى التقاعد. وعدد العمال الأصغر سنًا أقل من أن يعوّضهم، إذ إنه بالرغم من ارتفاع معدل البطالة بينهم، فإن هناك نقصًا شديدًا في العمال المهرة آخذ في التزايد. وقد صرح مسئول توظيف ألماني لصحيفة «فاينانشال تايمز» في 28 نوفمبر 2006 بقوله: «لقد بدأت بالفعل المعركة على العمال، وفي ظل الاتجاهات الديموجرافية في ألمانيا وفي أجزاء من جنوب وشرق أوربا، فهي توشك أن تزداد سوءًا».

«هذا التحوّل - الأشبه بحركة الطبقات الأرضية المحدثة للزلزال - هو إحدى مشكلات القرن الحادي والعشرين بالفعل. والتقاعد ظاهرة جديدة نسبيًا في التاريخ البشري، فمتوسط العمر منذ قرن مضى في جزء كبير من العالم المتقدم كان ستة وأربعين عاماً فحسب، وكان عدد قليل نسبيًا من الأشخاص يعمِّر إلى ما يكفي لأن يعيش فترة التقاعد».

«كانت نسبة المسنين المعالين إلى السكان الذين هم في سن العمل تتزايد في العالم الصناعي على مدى 150 عامًا على الأقل، وتباطأت سرعة الزيادة على نحو ملحوظ مع مولد الجيل الذي جاء إلى الدنيا في الفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. ولكن من المؤكد تقريبًا أن إعالة المسنين سوف تزداد بسرعة أكبر عندما يصل ذلك الجيل إلى سن التقاعد. وسوف يكون التسارع ضخمًا على نحو خاص في اليابان وأوربا. ففي اليابان زادت شريحة مَن هم في الخامسة والستين على الأقل من 13 إلى 21 في المائة في العقد الماضي، ويتوقع ديموجرافيو الأمم المتحدة أن ترتفع النسبة إلى 31 في المائة بحلول عام 2030م. ومن المنتظر كذلك أن يتراجع عدد سكان أوربا الذين في سن العمل، وإن كان بمعدل أقل في اليابان».

التغيرات المتوقعة بالنسبة للولايات المتحدة ليست بتلك الحدّة، ولكنها تمثل بالرغم من ذلك تحديات مخيفة، فخلال ربع القرن المقبل، من المنتظر أن يتباطأ معدل الزيادة السنوية في عدد السكان الذين هم في سن العمل في الولايات المتحدة من 1 في المائة في الوقت الراهن إلى 0.3 في المائة بحلول عام 2030م. وفي الوقت نفسه ترتفع نسبة السكان الذين هم فوق الخامسة والستين على نحو ملحوظ. لقد حدثت شيخوخة القوة العاملة ببلوغ الجيل الذي ولد في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية سن الشيخوخة، وما أن يبدأ هؤلاء في التقاعد حتى يكون من المتوقع بروز معضلة التقاعد متعددة التأثيرات.

يرى «جرينسبان» أن أمريكا قد تكون في سبيلها إلى الاصطدام بالواقع، فأكبر مواليد فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية سنًا، سيكونون مستحقين للضمان الاجتماعي بحلول هذا العام (2008م)، وطبقًا لتوقعات الأمم المتحدة سوف يمثل الأشخاص البالغون من العمر خمسة وستين عامًا فأكثر، 23 في المائة من السكان البالغين بحلول عام 2030 مقابل 16 في بالمائة في الوقت الحالي.

إنها أرقام ضخمة، وتزداد تضخمًا، في ما يشير إلى أن الوضع الديموجرافي المتفاقم ليس مجرد تغير عارض، بل هو انقلاب حقيقي يحمل في ثناياه أخطار كل الانقلابات في الحياة البشرية، بل الحياة على هذا الكوكب الذي يعمّره البشر، انقلاب لا يقل خطورة عن تغيرات المناخ، أو تآكل الموارد ونضوب الطاقة، فهو إضافة لكونه مرتبطًا بكل هذه الأخطار، يتضمن آثارًا سلبية عالية المخاطر على الاقتصاد والنسيج الاجتماعي والعلاقات الإنسانية. مخاطر لم تخطر على بال البشرية من قبل!

استحقاقات الانقلاب

سيزداد عدد المسنين، ولن يكونوا في بلدان العالم المتقدم متهدمي الصحة في نسبة كبيرة من مجموعهم الضخم، كما أن الكثيرين منهم سيتميزون بمراكمة سنوات عدة من الخبرة في مواقعهم، مما يرجح استمرارهم لسنين أكثر في وظائفهم، بينما في الجهة المقابلة ستكون قوة العمل النامية صغيرة السن أقل خبرة وأبطأ نموًا نظرًا إلى تراجع نسبة الخصوبة وتقلص عدد المواليد الجدد في الأسر الحديثة، وهذا يحمل في ثناياه استطالة فترة تقاعد كثير من المسنين، وتقلص الوظائف الخالية أمام العاملين الجدد، مما يزيد من نسب البطالة - المتزايدة أصلاً لأسباب عدة أخرى - لدى العاملين صغار السن. وهذه الزاوية ستخلق نوعًا من الصراع الاجتماعي بين الأجيال ينسف كثيرًا من الأخلاقيات والتقاليد.

وليس هذا إلا الجانب المعنوي من المخاطر، فهناك مخاطر ملموسة يجمعها كتاب جرينسبان تحت لافتة «اقتصاد التقاعد»، فسوف يكون لحقائق الديموجرافيا الصعبة أثرها الشديد على ميزان القوة الاقتصادية العالمي. وربما تقطع الطريقة التي تتصرف بها الدول المتقدمة في مواجهة هذا التحول شوطًا بعيدًا في اتجاه، إما الحد من التغيرات في ميزان القوة الاقتصادي العالمي أو تكثيفها. والمهم هو ما إذا كانت الدول المتقدمة، التي تواجه فقدان القوة والهيبة ستغلق على نفسها وتقيم الحواجز في وجه التجارة مع العالم النامي أم لا. والمرجح أن تكون الطريقة التي تدير بها الحكومات انتقال الموارد الحقيقية من الشرائح المنكمشة من سكانها، التي تمثل قوتها العاملة المنتجة إلى ذلك العدد من السكان المتقاعدين مسألة محددة لربع القرن المقبل. وبالنسبة للمجتمعات الديمقراطية سوف تكون السياسة مخيفة إلى حد بعيد، ذلك أن شريحة متزايدة من الناخبين سوف تكون من المتقاعدين المتلقين للإعانات.

اقتصاد التقاعد واضح وصريح، فلابد من ادّخار الموارد الكافية على امتداد العمر لتمويل الاستهلاك خلال فترة التقاعد. والنقطة المهمة في نجاح أنظمة التقاعد هي توافر الموارد الحقيقية عند التقاعد، وتيسير الترتيبات المالية المرتبطة بالتقاعد. والمعضلة هي أن المجتمع المطلوب منه الوفاء بهذه الالتزامات سيكون واقعًا تحت وطأة أن نسبة متضخمة من سكانه خارج قوة العمل المنتجة، بينما قوة العمل المنتجة ستنوء بحمل عبئها وعبء هذا الانقلاب الديموجرافي غير المسبوق في خبرات البشرية. ومثال لذلك متطلبات الرعاية الصحية للمتقاعدين، فالمقدر أنه خلال 15 عامًا فقط ستتطلب إعانات الرعاية الصحية المقررة حاليًا تحويلات من الأموال العامة في الولايات المتحدة تساوي 25 في المائة من إيرادات ضريبة الدخل الفيدرالية، أي أكثر من ثلاثة أضعاف عبئها المالي عام 2005م، وبعد أقل من عشر سنوات أخرى سوف تساوي حوالى 40 في المائة من إيرادات ضرائب الدخل الفيدرالية.

صورة صادمة، حتى لغير المتخصص في الاقتصاد، وهي صادمة أيضًا لرجل الاقتصاد والمال جرينسبان الذي يعلق على ذلك قائلا: «أخشى أنه بناء على ديموجرافيتنا واحتمال الارتفاع المحدود لزيادة الإنتاجية أن يكون الاحتمال هو أننا تعهدنا بالفعل بمستوى من الموارد الطبية للمتقاعدين من مواليد ما بعد الحرب العالمية الثانية يزيد على ما يمكن للحكومة تقديمه في الواقع».

هذه الصورة المليئة بالإحباط تجاه مستقبل المجتمعات المثقلة بالتقاعد، لا تعبر إلا عن جزء من استحقاقات التقاعد، وهو الرعاية الصحية للمتقاعدين، وهي آتية من أمريكا، أكبر الاقتصادات العالمية، ومن أكبر رأس ظل يدبر مالية هذا الاقتصاد على امتداد عشرين عامًا. فما بالنا بالمجتمعات النامية والفقيرة ومنها مجتمعات عدة في عالمنا العربي.

فهل من سبيل للخروج مما لم نرتب له؟

حساباتهم وحساباتنا!

على الرغم من الحسابات الأمريكية المتشائمة سابقة الذكر لمشكلة التقاعد وعواقبها المستقبلية، فإنهم يضعون حساباتهم على المستوى طويل المدى، فهم ينظرون على امتداد خمسة وسبعين عامًا في المستقبل، وهو المدى الذي يبحث فيه أمناء نظام التضامن الاجتماعي الأمريكي، وهم يبحثون في مخارج مختلفة على الرغم من كل ما يرونه من إحباط، فيفترضون - بحسابات قائمة على أرقام حقيقية - أن الأمر سوف يتطلب إما زيادة فورية في ضريبة كسب العمل من نسبتها الحالية ومقدارها 12.4 في المائة إلى 14.4 في المائة، أو تخفيض شامل لإعانات 13 في المائة، أو توليفة من الاثنين «لسد عجز التمويل على مدى السنوات الخمس والسبعين المقبلة».

إذن هم يرون المعضلة، ويحسبون لها ويتحسبون مستقبليًا - على الرغم من كل الرؤى المتشائمة - لمدى يقارب القرن، فأين نحن؟

قد يقول قائل إن مجتمعاتنا بعيدة عن هذا المأزق نتيجة نسبة المواليد المرتفعة في الأسرة العربية مقارنة بالأسرة الغربية، ومن ثم فإننا مجتمعات شابة لن تثقلها مشكلة التقاعد. لكن هذه الفرضيات المرسلة، والمستندة إلى إحصاءات قديمة، وغير دقيقة في معظم الأحيان، لن توفر لنا صورة حقيقية عن الوضع الديموجرافي العربي المستقبلي.

والأرجح أننا نسير على خطى هذه المجتمعات التي نحسبها في مأزق ونحن منه ناجون. فالضغوط الاقتصادية والاجتماعية المتزايدة في المجتمعات العربية، وعبور القيم خلال وسائل الإعلام العابرة للمجتمعات، ونظم التعليم، كل هذه معطيات تؤشر إلى اختلاف ما كان قائمًا من تقاليد أسرية واجتماعية. والأرجح أن التوازن الديموجرافي العربي في اختلال غير مرصود. ونحن نلمس بروز مشكلة التقاعد الآن وإن بأشكال ليست صارخة. لكننا لا نستطيع الجزم بما ستكون عليه في المستقبل، في ظل ميل الأسر العربية للتقليل من عدد الأبناء في الأسرة، إضافة إلى تأخر سن الزواج وارتفاع نسب العنوسة. فإذا أضفنا إلى هذا أفق التطور الاقتصادي المحدود في عالنا العربي طبقًا للطريقة التي يسير عليها الآن، فإننا سنواجه معضلة التقاعد، وسنكون مطالبين بتسديد فاتورته، سواء تجاه مجتمعاتنا المرشحة لبعض هذا التقاعد المستقبلي، أو تجاه المجتمعات المتقدمة التي ستحل مشكلات تقاعدها بدفع اقتصاداتها نحو تطورات تقنية هائلة تعوض تآكل قواها العاملة، وتزيد من عدوانيتها تجاه مواردنا، بينما ترفع من أسوار وجدران حمايتها ضد التفاعل الإيجابي معنا، سواء على مستوى المعرفة والتقنية أو حتى استيراد بعض من شباب قوانا العاملة.

لقد أراد الرأس العجوز لرأسمال العالم، آلان جرينسبان، أن يروي تجربته ويعرض استشرافاته من خلال خبرته الأمريكية العالمية، لكنه من حيث لا يدري قرع ناقوسًا في واشنطن، لتتردد رناته في كل الانحاء.

فهل نسمع هذا الرنين، ونفكر في المستقبل.. مستقبلنا، أو بعض ما ينتظرنا في المستقبل?.

 

 

سليمان إبراهيم العسكري