أما من تكنولوجيا إنسانية؟

أما من تكنولوجيا إنسانية؟

ربما كان صحيحا ما نسب للعلامة ألبرت أينشتين "1879 ـ 1955"، عندما رد على سؤال لأحد الصحفيين عن توقعاته لنوعيات الأسلحة التي ستستخدم في الحرب العالمية الثالثة قائلا إنه ليس في استطاعته أن يشحذ خياله في ذلك الصدد، فالتطور على قدم وساق في مجال أسلحة الدمار، إلا أنه متأكد تماما من أن الأسلحة الرئيسية التي ستستخدم في الحرب العالمية الرابعة ستكون بالضرورة من قطع الحجارة وأفرع الأشجار..!.

وما من شك أن حضارتنا الإنسانية الشامخة آخذة في تحطيم نفسها في ثقة، وبمخططات تتراوح بين الأجل القصير، والمدى البعيد.وما من شك أن أحفادنا من الأجيال القادمة سيصبون لعناتهم علينا، فقد حكمت عليهم سياساتنا التكنولوجية الحالية بأن يحيوا حياة استولينا مقدما على معظم ما فيها من أشياء لن تكون متاحة أمامهم لمدد أطول "سيؤدي نفاد الوقود الأحفوري بالطبع إلى اختفاء السيارات الخاصة، وتقلص خدمات الغاز والكهرباء.. إلخ". وإذا واصلت معدلات النمو الحالي صعودها على هذا النحو، فسيصل النمو على الأرض إلى نهايته خلال 100 عام، وذلك نتيجة لاستنفاد المصادر الطبيعية بنهم وجشع، والخلاصة أنه مهما تعددت الأسباب وراء تقلص الحضارات وانهيارها على مدار التاريخ، سيظل السبب الرئيسي دائما هو التدهور الروحي والأخلاقي، والانحطاط الفكري والثقافي Ethos لجماع الأمة.

قد تكون هناك استحالة في العودة لتكنولوجيا ما قبل الثورة الصناعية "ويطلق عليها التكنولوجيا الأصلية" "Radical Technology فمما لاشك فيه أن تلك الثورة قد وفرت للبشرية حياة مرفهة مريحة، بدءا من المسكن، والملبس، وحتى المنظومة المعلوماتية الهائلة للاتصالات والانتقالات مرورا بالغذاء والدواء والرعاية الصحية المتكاملة. لن تكون هناك عودة للوراء بالطبع، وكون بعض الناس يحاول، ومحاولة البعض منهم أن يعيش بالتكنولوجيا الأصلية، غير معتمد على البترول أو الطاقة النووية، لن يقلل من أهمية العطاء الضخم الذي وفرته الصناعة للحياة البشرية. ولن تكون التكنولوجيا الأصلية حلا مرضيا لمشاكلنا اللهم إلا إذا تراجع التعداد السكاني حتى المستوى الذي كان عليه قبل الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، و"قد ينادي البعض تحت تأثير التدافع اليومي في طلب الرزق، والانسدادات المرورية المزمنة، وتناقص المواد الغذائية المطرد، بأن الحروب هي الحل الأمثل"، ومن جهة أخرى، سنجد أنه كلما زاد معدل تطور التكنولوجيا، تنامى معه الشك في عيشة مرضية للجنس البشري. ويفترض أن ما يعرف باسم التكنولوجيا المتقدمة إنما تقوم على أساس الارتفاع المستمر في مستوى المعيشة، مما يتطلب معه زيادة مناظرة في استهلاك الطاقة للفرد، مع زيادة مناظرة في استخدام المعادن، واعتماد متزايد على الكهرباء.. إلخ.

تحت نير التكنولوجيا

تدور عجلة التكنولوجيا المتقدمة بلا هوادة، ولا تتيح للإنسان أن يلتقط أنفاسه اللاهثة وهو يسعى دوما لتنمية اقتصاده بمعدلات أسية، ولا يكف رجال الاقتصاد عن دفع رجال الصناعة والهندسة والتكنولوجيا نحو زيادة الإنتاجية بمقدار 4% سنويا كي نحافظ على مستوى معيشة يرتفع هو الآخر بلا توقف..!!

لقد أصبح الإنسان بفضل ذلك التسارع الأبدي وترا مشدودا على هاوية. ولنأخذ مثالا بسيطا من واقع حياتنا اليومية، فطوابير السيارات التي تمخر عباب الشوارع ـ وسط بحر متلاطم الأمواج من البشر، والذي يكافح هو الآخر للبقاء وسط أبخرة العادم من رصاص وأكاسيد الكربون، والكبريت ـ ما هي إلا أدوات للهلاك اليومي يترصد الناس في المدن المكتظة الآن بوسائل الرفاهية المزعومة، ومظاهر الحضارة المادية الكاذبة، وهو هلاك يمتد بلا استحياء نحو المناطق الزراعية، حيث يترسب ثاني أكسيد الكبريت على شكل حامض كبريتيك، على التربة الخضراء، ويحولها إلى تربة حامضية تبيد الخضرة، ناهيك عما تنفثه المصانع في المجاري المائية مما "لذ وطاب" من فينولات، وسيانيدات، وكبريتات، ونتريدات، وكلوريدات، وفلوريدات، ورصاص، وزنك، وكروم، وزئبق، وزرنيخ "الزرنيخ سم تراكمي يظهر تأثيره المميت في الجسم بعد سنوات، والنسبة المسموح بها في مياه الشرب حسب قوانين إدارة الصحة بالولايات المتحدة هي 10 أجزاء في البليون "0.11 ملجم/لتر"، بينما قد تصل في بعض المنظفات الصناعية إلى 41 جزءا في المليون، أما عنصر الزئبق الكيل الذي تتعاطاه الأسماك كوجبة مقررة مما تجود به المصانع الخيرة من مياه الصرف الصناعي، فحدث ولا حرج، فما نسب إليه من أنه يسبب بعض أنواع التخلف العقلي الخلقي لا تعتبر من قبيل المبالغة في شيء. ويهدد التلوث البحار والمحيطات أيضا. والمثال القريب منا هو البحر الأبيض المتوسط، والذي يتدفق فيه 80% من الصرف الصحي والصناعي ـ دون معالجة من شواطىء 120 مدينة مطلة عليه "وتدعي كل منها أنها عروسه"، الأمر الذي تفاقمت معه إصابات الالتهاب الكبدي الفيروسي، والدوسنتاريا، والحمى التيفودية، وشلل الأطفال، في المناطق المجاورة، كما وجد أن معدلات تركيز الزئبق في سمك التونة بالبحر الأبيض أعلى بثلاث مرات عن نظيره في الأطلنطي.

ولا تفوتنا ملاحظة أن كمية البترول المراق على سطح البحر الأبيض تمثل 1 الى 8 من الكمية الكلية "المسفوحة" منه على مستوى العالم.

وهناك مشكلة أكثر خطورة، وهي ما يعرف بالتلوث الحراري، ففي مشاريع توليد الكهرباء بالطرق التقليدية باستخدام الوقود الأحفوري أو الطاقة النووية، يفقد الوقود من 60 ـ 70% من طاقته الحرارية على شكل غازات عادم، ويستخدم المهندسون، وهم مطمئنو البال هذه الغازات الساخنة في تسخين المياه على نطاق واسع، ليتم تبريدها فيما بعد في أبراج التبريد، حيث يتم تفريغ بخار الماء والهواء الساخن من المجمعات، وفي كثير من الأحوال، إلى الأنهار ومجاري المياه "أمريكا" مما يرفع درجة حرارة الماء حوالي 8 درجات مئوية، وهذا يفقد المياه 18% من قدرتها على امتصاص الأكسجين، وهو كما نعلم عنصر حيوي في الماء لأكسدة المواد العضوية التي تشكل خطورة على حياة الأسماك.

لن نتعرض لموضوع السدود العملاقة التي يشيدها المهندسون بحماس، ويقلبون معها ـ بحسن نية ـ التوزان الطبيعي للبيئة "إملأ بحيرة، تبدأ هزة أرضية"، وفي الهند سبب ارتفاع الماء في المناطق المحيطة بسد ناجارفونا ساجار في زيادة كبيرة في قلوية التربة الزراعية، وسرعان ما ارتفعت نسبة عنصر الموليبدينم، والذي لم يدخر وسعا في نشر بركاته بين أطفال المنطقة على شكل كساح..!.

ويجيء ذكر الضوضاء المتزايدة في منطقتنا على استحياء، وكأن مكافحة الضوضاء من قبيل الرفاهية، وهي من أشد الملوثات خطرا "مدينة كالقاهرة يتخطى فيها منسوب الضوضاء 90 ديسيبل في بعض شوارعها من شروق الشمس حتى الغروب" حيث تظهر آثارها المدمرة على المدى البعيد، من فقد السمع وأمراض القلب. وقد أجرى بعض الباحثين دراسات حول تلوث الهواء منهم: ليف، وسيسكين، اللذان وجدا أنه يمكن توفير ما مقداره 4.5% من مجموع الإنفاق على العلاج، في حالة تخفيض التلوث في الهواء بمقدار 50%.

المأزق

في مقال نشره بيترلوري في مجلة نيوسينتست يقول عن البطالة المتزايدة نتيجة استخدام المعالجات الدقيقة في أجهزة الحاسب: ".. لسنا أول حضارة تواجه تلك المشكلة، فروما قد وضعت نفسها في مأزق حرج بسبب ما لديها من منظومة عبيد شاملة "العبد في الإمبراطورية الرومانية هو المعالج الدقيق لدينا"، وجيش ناجح حقق إنجازات كبيرة في الخارج، ولم يكن هناك أمام الناس ما يؤدونه، فظهرت الأعراض المعهودة في مثل تلك الأحوال، تزايد أعداد المجرمين، وتفشي أعمال البلطجة في الشوارع. إلا أنه يمكن ببساطة تمييز العوامل الرئيسية التي أدت لانهيار الإمبراطورية الرومانية، منها التخلي عن المثل العليا، والثقافة، والأخلاق، والدين، وكلها دعائم لأركان الحضارة، فالناس يقبلون قيودا على حريتهم الشخصية، لأنهم يرون أن هذه القيود لازمة لقيام مجتمع متوازن.." وليس من الصعب في الواقع أن نجد الكثير من علامات التدهور في الإمبراطورية الرومانية "بلحمها وشحمها" في حضارتنا الحالية "حلت الآلات محل العبيد، هناك المزيد من العاطلين، والذين تمنحهم الدولة بدل بطالة، ويقوم التليفزيون بواجبه في الترفيه عن الناس خير قيام، هو ومباريات كرة القدم، بدلا من حلبات السباق الرومانية Circus Maximus، كما أننا نستورد نصف طعامنا مثلما كان الرومان يعتمدون على مستعمراتهم".

ويورد م. و. ثرنج مؤلف كتاب The Engineer's Conscience عدة اقتباسات لبعض العقلاء الذين تنبهوا للمنعطف الخطير الذي تنحدر إليه حضارتنا:

ـ شوماخير في كتاب "الصغير جميل Small Is beautiful" يقول: الشعب الذي يؤسس حياته على مصادر طاقة غير متجددة هو شعب يعيش بأسلوب طفيلي على رأس المال بدلا من عائده، واستغلال الموارد الطبيعية بمعدلات دائمة الزيادة هي عمل من أعمال العنف ضد الطبيعة، ويؤدي في الغالب إلى العنف بين الناس..".

ـ دينس جابور في كتاب "المجتمع الناضج The Mature Society" يقول: ما لم يحدث تغير شامل في تفكيرنا الحالي في التعليم، والدور الذي يقوم به الفرد في المجتمع، ونظرتنا للقوى البشرية، والإدارة، ستتوقف بالتأكيد مسيرة المجتمع، لينهار في النهاية تحت سطوة قوى عاتية تستجمع قواها بسرعة كبيرة. طريقنا الحالي مجهز تماما لكارثة. قد ينجو المجتمع إذا ما انطلق من أسر قيوده ونبذ تقاليده المختلطة بالخرافات، وانقياده الأعمى لجماعة أو طبقة، وفكر بدلا من ذلك بأسلوب واقعي يحقق نفعا له، ويتصالح مع الطبيعة من حوله، وإلا فالبديل هو الموت..".

ـ سكورر في كتاب "الأبله الموهوب The Clever Moron".. نحن بسبيلنا إلى فترة من الشقاء الإنساني على نحو غير مسبوق بالمرة لقد سرقنا ـ الثروة ـ والتي آلت إلينا بسرعة ودون جهد كبير، بفضل الثورة الصناعية، من الأجيال القادمة. ويبدو أنه قد أزف وقت المحاسبة. لقد أسرف الإنسان لكونه على قدر من الفطنة، إلا أن اطلاقه العنان لأهوائه ورغباته قد جعل منه شخصا أبله.

ـ ي.ج. ميشان في كتاب "هل تظل بريطانيا على قيد الحياة؟ Can Britain Survive" يقول:"منذ أن اكتشف الإنسان في الدول الكبيرة تكنولوجيا تكفي لتدمير الكرة الأرضية عدة مرات، ولم يكن ذلك إلا منذ الحرب العالمية الثانية، وهو يعيش في رعب يزداد يوما بعد يوم. فالمعرفة التكنولوجية سرعان ما تتسرب إلى دول أصغر شأنا وأقل استقرارا، حيث يحكمها شرذمة من المغامرين والطغاة والمستبدين، ونستخلص من ذلك أن فرصة نجاة الحياة الإنسانية حتى نهاية هذا القرن، ليست سوى فرصة ضئيلة..".

ـ لويس ممفورد يقول في كتاب "خماسي القوة": من حسن الحظ أن تتيقظ البشرية فجأة لما يحيق بها من كارثة.. منذ العقد الأخير، وقد أصبحت موضوعات التضخم والتدهور البيئي، وانهيار القيم والأخلاق، الشغل الشاغل لكل منا..".

ـ وروبرت أوليش في كتاب "ارتقاء الجنس البشري أو الكارثة" يقول: ".. نحن نواجه تناقضا جوهريا، فرغم أن الإنسان في عصرنا هذا أكثر ثراء وقوة وطولا من أسلافه، فإنه قد أصبح عصبي المزاج لا يغمض له جفن إلا بالمهدئات، ولا يجد لديه فسحة من الوقت للتأمل والعبادات، وحتى هؤلاء الذين يفترض أن لديهم من أسباب الرضا الكثير ليحيوا حياة هنيئة، يسد عليهم الجشع وحب الاستحواذ الطريق إلى السعادة. وكما انفصلت الدول الفقيرة عن الدول الغنية، نجد أن الهوة تزداد اتساعا داخل الأمة الواحدة وهي بين من تتضخم ثرواتهم باستمرار، ومن لا يملكون قوت يومهم..".

ـ آرثر كوستلر في كتاب "الخلاصة" يقول: "القضية هي ذلك التباين الواضح بين الإنجازات التكنولوجية الفذة من ناحية، ومن ناحية أخرى العجز المخزي الذي لا نظير له في توجيه نتائجها الاجتماعية من جهة أخرى، الأمر الذي وضع الجنس البشري على حافة الانهيار، وفي الوقت الذي ننزل فيه على سطح القمر، ونقدم الحلول لأعتى المشكلات الرياضية، تسوء شئوننا الدنيوية لدرجة الموت جوعا، وتتفاقم حدة النزاعات العنصرية، وهما سببان وجيهان سيكتبان، بالتعاون مع الهارماجدون Armageddon النووي النهاية المتوقعة لتلك القصة الحافلة بالدناءة، والخسة، والهارماجدون هي المعركة الفاصلة بين ملوك الشر على الأرض وبين السماء حسبما ورد في العهد القديم.

ـ يوثانت في "نداء من السكرتير العام للأمم المتحدة: البشر أولا 1970"..".. لا أريد أن أبدو أكثر تشاؤما، ولكن المعلومات المتاحة لي بصفتي السكرتير العام للأمم المتحدة تدفعني كي أقول لأعضاء الأمم المتحدة بأنه ربما كان أمامهم عشر سنوات ليضعوا صراعاتهم القديمة جانبا، ويتضافروا جميعا في وضع حملة عالمية لكبح جماح سباق التسلح، ولتحسين البيئة، ولمنع الانفجار السكاني، وإن لم يتم ذلك خلال العقد القادم، ستصل تلك المشاكل إلى نسب مذهلة تجعلها في منأى عن أي محاولة للتحكم فيها..".

منظور إنساني

يقف المهندسون والتقنيون مكتوفي الأيدي، وقد أجبروا على اختصار مسارات التنفيذ، بينما تتساقط أمام أعينهم معايير الجودة والأمان تحت أقدام النمو الاقتصادي المزعوم، وكلما تناقصت المصادر الطبيعية، واختلت علاقة الإنسان بالبيئة. يستشعر بعض العقلاء الأخطار التي تحيط بنا، وينادي المفكرون بالعودة إلى "الصغير الجميل"، وبالنظر إلى التكنولوجيا من منظور أخلاقي، ومن ثم برز إلى الوجود مصطلح التكنولوجيا الإنسانية Human Technology، وتشير إلى الهندسة من وجهة نظر رجل الشارع، والأمور الاقتصادية التي تدخل في دائرة اهتمامه.

تتطلب التكنولوجيا الإنسانية شحذ طاقات المهندس الخلاقة من أجل تحقيق مستوى معيشة معقول لجميع بني البشر، بحيث يمكن للإنسان أن يطلق ملكاته الكامنة في جو من الحرية التامة. ويمكن تلخيص أساس التكنولوجيا الإنسانية في علاقة متوازنة مع البيئة، وعمل مشوق يولع به المرء، ويشكل جزءا مهما من كيانه النفسي والاجتماعي، بحيث يستوعب أقصى ما في جعبته من طاقة خلاقة. وتضع التكنولوجيا الإنسانية الثبات البيئي نصب عينيها، فمما لاشك فيه أن تلوث الهواء والماء نتيجة للنمو التكنولوجي المتعاظم يوميا، قد تعدى النسب المسموح بها إلى درجة خطيرة، وذلك إلى جانب التلوث السمعي والبصري أيضاً.

ولكن ما هي التكنولوجيا الإنسانية؟.. هي الهندسة التي تهم عامة البشر، وهي استخدام ذكاء المهندس، والتقني وإبداعهما للتصدي لمشكلة إمداد البشرية بمستوى معيشة كاف يسمح بإطلاق الملكات الإنسانية، مع توفير احتياجاتهما النفسية، والمقصود بلقب المهندس هو كل العلماء، والتطبيقيين، والمعماريين، والتكنولوجيين الذين يطبقون المعارف النظرية والعملية لحل مشاكل الإنسان ومطالبه بدءا من ملبسه ومأكله ومشربه، تم مرورا بالعناية الصحية، وانتهاء بمتطلبات الرفاهية.

ولابد أن يعي المهندس أنه طرف في المشكلة الأخلاقية، سواء كانت نتيجة عمله تحسين حياة البشرية، أو الإضرار بها، وللمهندس مسئولية خاصة تجاه ما قد يطلق عليه ثورة صناعية ثانية، فهنا لابد من التحرك نحو حضارة ذات توازن مستقر، وهي البديل الملح للثورة الصناعية الأولى ذات النمو المتزايد دوما. والمهندس هو الإنسان الوحيد الذي يمكنه تقديم الآلات، والخطط، والأساليب التكنولوجية لتحقيق وتطوير تلك الثورة الصناعية الثانية، والأهم من ذلك، أنه الوحيد الذي سيفند حجج الساسة الواهية، وهم يبررون إسرافهم في استنفاد الموارد الطبيعية للأرض بزعمهم أنه عندما تستنفد هذه الموارد، سيجد مهندسونا النوابغ بدائل لها على نفس المستوى من الجودة في أقصى جنوب الولايات المتحدة. إن النظر على المدى البعيد لمشاكل العالم الواسعة لهو مسئولية شخصية للمهندس "وكذا كل من اختط لنفسه أن يسلك طريق الهندسة"، وهو يتصدى ـ بضمير واع ومسئول لما ينبغي أن تسلكه حضارتنا كي تواصل الحياة في القرن القادم، إذا قدر لتلك الحضارة أن تشهد تغيرا في جماع روح الشعوب وأخلاقياتها وثقافاتها Ethos، والمهندس بطبيعة تخصصه، يمكنه أن يوضح الحدود الفاصلة لعلاقة الإنسان بالبيئة المحيطة والحياة البرية.

ولما كان عمل المهندس يؤثر تأثيرا واضحا في كل مناحي الحياة الإنسانية، فلابد أن تكون هناك مبادئ أخلاقية مقررة تضمن الأمان والصحة والخير لعامة الناس، كما تضمن أن يبذل المهندس كل ما في وسعه ليضمن أمان ومعولية المنتجات المسئول عنها، ويتحمل أخطاءه الشخصية، كما لا يألو جهدا في دراسة النتائج المباشرة وغير المباشرة، والنتائج القريبة والبعيدة للمشروعات التي يعمل بها.

والمهندس الناجح في القرن القادم لن يقف مكتوف الأيدي، ويضع غمامة على عينه، فيجب أن يكون مطلعا على النتائج العالمية الواسعة المدى لبحوثه ودراساته، كما يشارك بفعالية في تعليم وتوعية الجماهير كيفية تقدير الامكانات الهندسية، وأخطار المستقبل. ومن المفترض أن يسهم المهندس بإبداعاته من خلال نطاق أخلاقي، يعطي الأولوية فيها لوجدان البشر، كتحقيق الذات، والحرية الداخلية، والحب، فوق الحيازة، وملكية ما يشير للمستوى الإجتماعي. إننا في حاجة إلى قسم للمهندسين على غرار قسم أبوقراط للأطباء، وليكن قسم أمحوتب، أو قسم إقليدس يكون كميثاق شرف للمهندسين، ويحمي البيئة والثقافة والقيم من هجمات التكنولوجيا الشرسة.

 

حسام الدين زكريا