أرقام محمود المراغي

أرقام

صناعة الأسرار العلنية!

بعيدًا عن المشروع وغير المشروع.. وبعيدًا عن السري والعلني، فقد أصبحت المخدرات موضوعًا للبحث والإحصاء، وربما يجعلنا نقول إنها صناعة "الأسرار العلنية"!

في تقرير للبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة أن حجم تجارة المخدرات في العالم قد بلغ حوالي خمسمائة مليار دولار سنويا.. وهي بذلك تفوق حجم تجارة النفط، ولا يسبقها في الحجم غير صناعة السلاح! ويقول تقرير التنمية البشرية (1994) إن ما ينفقه المستهلكون على المخدرات يفوق قيمة الناتج المحلي الإجمالي لأكثر من ثمانين بلدًا ناميًا!

عالم الأسرار

حين خصصت الأمم المتحدة عقدًا كاملًا لمكافحة المخدرات، وهو عقد التسعينيات أسمته "عقد الأمم المتحدة لمكافحة إساءة استعمال المخدرات"، ذلك أن هناك أنواعًا من الاستخدامات مباحة ومشروعة.. ولكن، في حدود الممنوع تلاحظ الدراسات الدولية أن صناعة وتجارة المخدرات قد انتقلت خلال العشرين عامًا الماضية من مشروع منزلي صغير، يتم في الخفاء إلى صناعة متعددة الجنسيات تستخدم مئات الآلاف من الأفراد.. وتخضع لتنظيمات حديثة، وتتمتع بوسائل تكنولوجية متقدمة.. و.. تربح المليارات!

وقد حاولت هذه التقارير أن ترصد أهم مراكز الإنتاج للأنواع المختلفة من المخدرات فجاءت سبعة بلدان آسيوية وأمريكية لاتينية على رأس قائمة المنتجين.. أفغانستان، إيران، باكستان، بوليفيا، بيرو، تايلاند، كولومبيا.

أما مراكز الاستهلاك فمن أعلى معدلاتها : الولايات المتحدة الأمريكية وكندا.

في هذه المراكز - إنتاجًا أو استهلاكًا - لم يعد ممكنًا غض البصر عن الأحجام التي وصلت لها المخدرات، ففي بوليفيا - على سبيل المثال - تذهب التقديرات إلى أن صناعة المخدرات تمثل عشرين بالمائة من حجم الناتج القومي الإجمالي.. وتتراوح الأرقام من بلد لآخر، لكنها تظل ذات أهمية نسبية عالية في الاقتصاد القومي، حتى أن دراسةً أخيرةً عن الاقتصاد السري في مصر قد ذهبت إلى أن المخدرات هي المصدر الأول للدخول غير المشروعة، وأن قيمة المتداول منها سنويا يقرب من المليار دولار!.. والأمثلة في بلدان عربية أخرى منها : المغرب ولبنان.

هذه الأرقام تصنعها آليات وتنظيمات دولية ذات كفاءة، وهي آلياتٌ تبدأ بالزراعة لمساحات واسعة، بعيدًا عن رقابة الدولة، أو بمشاركة رجال الدولة.. ثم الدخول في عملية التصنيع التي تخلق اقتصاديات جديدة تمامًا حيث يرتفع الكيلو جرام من نبات الكولا -على سبيل المثال- من (1400) دولار.. إلى مائة ألف دولار بعد تصنيعه وتحويله إلى كوكايين!

بعدها، تأتي مرحلة التوزيع : التجارة في الداخل والتجارة في الخارج، حيث تلتقي السياسة بالاقتصاد.. رجال الدولة ورجال المافيا ورجال البنوك وخبراء غسيل الأموال الذين ينتقلون بالأموال من مرحلة "السرية" إلى "العلنية". ومن نطاق الخروج على القانون إلى نطاق الأنشطة المشروعة.

القصص التي باتت حقائق أثبتها القضاء والجهات الرسمية تؤكد هذه الآليات.. ففي مجال غسيل الأموال كانت هناك قضية بنك الاعتماد والتجارة الدولي الذي كشف عملياته بعد الإفلاس عن تعامل واسع مع مهربي المخدرات في كولومبيا، الذين قاموا بالتصدير للولايات المتحدة.. وقام البنك -من خلال فروعه- بفلوريدا، برد القيمة لكولومبيا وكأنها أموال مشروعة.

قضية أخرى تفجرت في السنوات الأخيرة وكان المتهم فيها بنك (ناسيونال دي باري) الفرنسي، أما الطرف الآخر فهو رئيس بناما السابق نورييجا الذي غزت الولايات المتحدة بلاده، وقبضت عليه وحكمت ضده بأربعين عامًا من السجن..!

نفس الشيء اعترف به (بنكولوي) الذي يتخذ لكسمبورغ مقرا له، وكانت معاملاته مع تجار المخدرات في كولومبيا أيضًا.

والأمثلة كثيرة، والتقديرات تقول إن (70 %) من أموال المخدرات يتم غسيلها من خلال البنوك، أي أن هناك نحو (350) مليار دولار سنويا تدخل البنوك المجهولة المصدر، وتخرج مرفوعة الرأس ذات مصدر مشروع.. وتكون مهمة البنك الرئيسية قطع الصلة بين نقطة البداية التي تشير لمصدر هذه الأموال، ونقطة النهاية التي تخرج بها الأموال لتزاول حركتها ونشاطها في العلانية!

يحدث ذلك في معظم الأحوال برغم أن كبار رجال الصناعة، من قطاع الأعمال أو ممن يحميهم من الساسة.. معروفون، ويجري التفاوض معهم في كثير من الأحيان!

السؤال : كيف يمكن مقاومة هذا النشاط؟.. لم يعد هناك خلاف حول الآثار الضارة للمخدرات، ولم يتوقف يومًا سيل البحوث العلمية التي تقول إنها تدمير للصحة وتخريب لنفوس المتعاطين والمدمنين.. وإنها أحد الأسباب الرئيسية لتزايد العنف والجريمة في العالم.

الاتفاق حول ذلك قائم.. والسؤال : كيف يمكن مواجهة الأمر؟ هل بحصار المنتجين..؟ أو بنصح المستهلكين.. أو بالتوسع في التجريم؟ يقول الخبراء إن المجال الأول، وهو الهجوم على مراكز الإنتاج هو الأكثر جدوى، فنحن هنا نقاوم الجريمة من المنبع.. لكنهم يقولون أيضًا أن تلك -وفي نفس الوقت- هي أصعب الحلقات.

برامج المكافحة تبدأ بإغراء المنتجين أن يتحولوا لنشاط اقتصادي آخر.. ولكن في الواقع العملي فإن أي زراعة أو تجارة أخرى لا تستطيع أن توفر نفس الربح.. فالذين يتقاضون ثمن المغامرة لا تكفيهم نسبة الربح الحلال في زراعة أو صناعة أو تجارة.

والأمثلة على ذلك كثيرة.. ففي مفاوضات جرت بين بلد عربيّ إفريقيّ والاتّحاد الأوربّيّ، عرض الاتّحاد -طبقًا لمحاضرة ألقاها أستاذ بجامعة محمّد الخامس- مليارين من الدّولارات كمساعدات تيسر حرق مزارع الحشيش..

وردت الدولة العربية : "لكن دخلنا من الحشيش خمسة مليارات، فكيف يمكن استبدالها بمليارين" ؟.

وفي بوليفيا حدث نفس الشيء، وخصصت معونات للمزارعين حتى يتحولوا عن زراعة "الكوكا".. لكن التقدم بطيء والسبب : هامش الربح المرتفع.

ويقول التقرير الدولي عن التنمية البشرية (1994) إن المشكلة الأساسية هي أن تكاليف خفض الإنتاج، ومن ثم الاستهلاك، تكاليف مرتفعة للغاية.. إنها مشكلة البحث عن بديل مربح للمزارعين.. وللصناع.. وللتجار، خاصة في بلدان لم يعد فيها هذا النشاط خفيا أو مستهجنًا، بل تحرسه قواته العسكرية، ويملك سلاح نقله من طائرات وسيارات وسفن!.. و.. في العادة وعندما يشتد الحصار على المخدرات في دولة ما يهاجر النشاط إلى دولة مجاورة.. اشتد الحصار في المكسيك على إنتاج الماريجوانا.. فانتقل النشاط إلى كولومبيا.. واشتد حصار الأفيون في تايلاند فانتقل العمل إلى لاو الديمقراطية الشعبية وإلى ميانمار.

صناعة المخدرات إذن خاضعة للقوانين الاقتصادية، عرض وطلب وحافز للربح.. ولكن، وفي نفس الوقت، فهي تتشابك مع أوضاع أخرى، فحيث تغيب الدولة أو تتوطأ يزداد النشاط ويزدهر.. وحين شهدت لبنان إبان الحرب الأهلية ظاهرة "اللادولة" أصبحت من أهم مراكز الإنتاج والتجارة في العالم.. ولكن وحين عادت الدولة قل ذلك النشاط نسبيا.

القوانين الاقتصادية تحكم، أما قوانين الأخلاق وقوانين سلامة الصحة، وقوانين الأديان.. فتلك قضية أخرى.. ومن كان يصدق أن تكون صناعة المخدرات الثانية بعد السلاح، والأولى قبل النفط ؟!

 

محمود المراغي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات