رؤية فلسفية

رؤية فلسفية

لم يوفق النقاد العرب في فهم الجذور الفلسفية في أدب نجيب محفوظ ويخطئ من يظن أن الأدب يمكن أن يكون مقطوع الصلة بالفكر والفلسفة.

نشأت علاقتي بالأديب الكبير نجيب محفوظ قبل أن ألتقي به، لقد سمعت عنه وكنت حريصًا على قراءة ما كتب من قصص وروايات قبل التحاقي بقسم الفلسفة بآداب القاهرة، ثم تشاء الأقدار أن ألتقي بعباس العقاد في ندواته التي كانت تقام بمنزله بالقاهرة، وبأسوان في شهر يناير من كل عام، وكان هذا منذ دخولي آداب القاهرة العام 1953 وأذكر أن أديبنا عباس العقاد كان يتحدث باحترام عن «نجيب محفوظ» وقال لنا في ندواته: «لقد فوجئت بأن لدينا أديبًا يكاد يقرب من مستوى العالمية» وقد قال العقاد هذه العبارة قبل حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل بعشرات السنين، وقد قال بهذا الرأي بعد فحص بعض الروايات لنجيب محفوظ، وكان العقاد يعمل آنذاك في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية (المجلس الأعلى للثقافة الآن).

وحين أثيرت في دنيانا الثقافية قضية المحلية والعالمية وما يرتبط بها من الحديث عن جوائز نوبل، طلبت مني جريدة «الأهرام» أن أكتب في هذا الموضوع فكتبت أكثر من مقالة قلت فيها: إن أدبنا يغلب عليه الطابع المحلي وليس الطابع العالمي.

وفور حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل التي كتبت عنها - كما قلت - أكثر من مقالة وحللت من خلال ما كتبت رأي الأديب الكبير توفيق الحكيم الذي شرحه في كتاب من كتبه - تفضل بإهداء نسخة منه إليّ - وكنت حريصا على أن ألتقي بنجيب محفوظ لأسباب عديدة من بينها ما كتبته عن قضية المحلية والعالمية، بالإضافة إلى أنه قد تخرّج في قسم الفلسفة العام 1934 وهو القسم نفسه الذي تخرجت فيه بعد ما يقرب من ربع قرن من تخرج أديبنا الكبير فيه.

التقيت نجيب محفوظ وكان معنا أحد مريديه هو الدكتور زكي سالم، وهو الذي تفضل مشكورًا بترتيب هذا اللقاء بيني وبين نجيب محفوظ، وأخذت أتحدث معه حول ما كتبته عنه في مناسبة الحديث عن قضية المحلية والعالمية، ومن فرط تواضع أديبنا الكبير، قال إنه لو كان موجودًا أيام طاغور لما كان قد حصل على جائزة نوبل، واستمر الحديث بيننا عدة ساعات أخذ يتحدث خلالها عن دراسته بقسم الفلسفة والمؤثرات الفلسفية على أدبه العظيم.

أدب التفسير

إن أكثر روايات وقصص نجيب محفوظ ومع اتفاقنا معه تارة، واختلافنا معه تارة إنما يدخل في إطار أدب التفسير, نقول هذا ونؤكد على القول به لأن أشباه الدارسين وأنصاف المثقفين في عالمنا العربي بصفة خاصة لم يوفقوا من قريب أو من بعيد في فهم الجذور الفلسفية في أدب نجيب محفوظ، ويخطئ إذن من يظن أن الأدب الجاد يكون مقطوع الصلة بالفكر الفلسفي، إذ من النادر أن نجد أدبًا معبرًا عن العمق والثراء الفكري إلا ويكون صاحب هذا الإنتاج الأدبي، من قصة أو رواية أو شعر أو ملحمة، مستفيدًا غاية الاستفادة من الفكر الفلسفي قديمه وحديثه ومن المذاهب الفلسفية على اختلاف اتجاهاتها ومجالاتها.

صحيح أن نجيب محفوظ لم يكن فيلسوفًا بالمعنى الدقيق لكلمة فيلسوف، خاصة أن عصر الفلاسفة في العالم العربي قد انتهى بوفاة عملاق الفلسفة العربية «ابن رشد» في العاشر من ديسمبر العام 1198م، أي منذ أكثر من ثمانية قرون، بالرغم من ذلك فهو كان أديبًا متأثرًا بالعديد من الأفكار الفلسفية، ومن هذا المنطلق يمكن أن ننظر إلى أدب كاتبنا الكبير نجيب محفوظ على أنه لم يكن أدبًا ناتجًا من فراغ ومعبّرًا عن العدم، بل إنه يعد أدبًا يستند إلى أعماق فلسفية بعيدة المدى، وسواء اتفقنا مع صاحبه أم اختلفنا فالأديب حين يطّلع على ثمار فكرية عديدة، وعلى مذاهب فلسفية واتجاهات أدبية، فإن هذا الاطلاع من جانبه إنما يكون مؤديًا إلى نتائج إيجابية غاية في العمق والثراء، وبإمكاننا على سبيل المثال أن نعثر على بعض الآراء الفكرية والفلسفية في «الإلياذة والأوديسة» وهما من الأعمال الأدبية الراقية، وإن كنا نجد جوانب فلسفية عديدة عند أمثال «المتنبي، وأبي العلاء المعري» وهما من أكبر شعرائنا القدامى، وأن نلتمس العديد من الآراء الفلسفية في روايات جان بول سارتر وألبير كامي، بل إننا نجد مذاهب فلسفية من خلال القصص الأدبية كقصة حي بن يقظان لابن سينا فيلسوف المشرق الكبير، وابن طفيل فيلسوف المغرب العربي.

ويعتبر أديبنا نجيب محفوظ أيضًا مثلا للأديب المعاصر الذي تعبّر كثير من رواياته عن بعض الآراء والاتجاهات الفكرية التي لا تعدم جذورها الفلسفية.

نقول ونحن نضع في اعتبارنا ضرورة التأمل الدقيق في أعمال نجيب محفوظ، صحيح أن نجيب محفوظ بإمكانه أن يقدم لنا روايات تعد أكثر عمقًا عما نجده في بعض رواياته وخاصة إذا وضعنا في اعتبارنا أن أكثر رواياته كانت لمخاطبة الجمهور العامي أكثر من أن تكون موجهة إلى صفوة المثقفين، ولكن على الرغم من ذلك فإن أديبنا نجيب محفوظ قد وهب حسًا فلسفيًا، مكّنه من أن يبث آراءه الفلسفية من خلال أكثر رواياته والقصص التي تحولت إلى أفلام سينمائية، وهل يمكن أن نقلل من الرؤية الفلسفية عند نجيب محفوظ في «الثلاثية، والكرنك وزقاق المدق» وغيرها من الروايات التي تحولت إلى أفلام سينمائية.

ولا شك في أن دراسة نجيب محفوظ للفلسفة - كما أشرنا منذ قليل - منذ سنواته الأولى بكلية الآداب جامعة فؤاد الأول (القاهرة الآن) قد ساعدته على إدراك العديد من الاتجاهات الفلسفية والخصائص التي لابد من توافرها لكي يكون الفكر فكرًا فلسفيًا - لقد تخرّج - كما قلنا, من قسم, الفلسفة العام 1934 وكان طوال دراسته مهتمًا بالأدب مثل اهتمامه بالفلسفة - وقد حدثني عن ذلك, زميله في التخرج الأستاذ الدكتور توفيق الطويل.

ابن الحضارتين

وأعتقد من جانبي - اعتقادًا لا يخالجني فيه شك - أن خطاب نجيب محفوظ في الأكاديمية السويدية قد كشف عن بعض جوانب فكره الذي لا يخلو من تأثر بالعديد من الأفكار الفلسفية، إنه يقول: «أنا ابن حضارتين تزاوجتا في عصر من عصور التاريخ زواجًا موفقًا، الأولى عمرها سبعة آلاف سنة وهي الحضارة الفرعونية، والثانية وهي الحضارة الإسلامية».

ويضيف محفوظ: «دعوني أقدم الحضارة الفرعونية بما يشبه القصة مادامت الظروف الخاصة قضت بأن أكون قصاصًا: تقول أوراق البردي أن أحد الفراعنة قد نما إليه أن علاقة آثمة نشأت بين بعض الحريم وبعض رجال الحاشية، وكان المتوقع أن يجهز على الجميع ولا يشذ في تصرفه عن مناخ زمانه، ولكنه دعا إلى حضرته نخبة من رجال القانون، وطالبهم بالتحقيق في ما نمى إلى علمه، وقال لهم إنه يريد الحقيقة ليحكم بالعدل، ذلك السلوك في رأيي هو أعظم من بناء إمبراطورية، وتشييد أهرام، وأدل على تفوق الحضارة من أي أبهة، فقد زالت الإمبراطورية وأمست خبرًا من أخبار الماضي، وسوف تتلاشى الأهرام ذات يوم، ولكن الحقيقة والعدل سيبقيان مادام للبشرية عقل يتطلع أو ضمير ينبض».

هذا ما يقوله نجيب محفوظ عن الحضارة الأولى وهي الحضارة الفرعونية. ونود أن نشير من جانبنا إلى أن قوله هذا يكشف عن تأثره بجوانب فلسفية عديدة، إنه يسعى إلى الثابت وليس إلى المتغير، إنه ينشد الحقيقة وراء الظاهر، إنه يركز على الأفكار أكثر من إشاراته إلى الأشياء الحسية المادية وإلا كيف نفسر حديثه عن الحقيقة والعدل، وإشاراته إلى العقل والضمير.

إن هذا كله إن دلنا على شيء فإنما يدلنا على التزام أديبنا بخصائص الفكر الفلسفي إلى حد كبير، وكم لعبت الفلسفة دورها الحيوي والنشيط في تنبيه أديبنا نجيب محفوظ إلى عوالم جديدة لم يكن بإمكانه اكتشافها ولا التوصل إليها من دون دراسته للفلسفة. إن أدبه يمثل - كما قلنا - أدب التفسير إلى حد كبير، ومن هنا فإننا نجد موقفًا محددًا من خلال أعماله الأدبية وهذا الموقف يعد إلى حد كبير موقفًا تنويريًا.

يضاف إلى ذلك أن حديثه عن الحضارة الفرعونية باعتبارها إحدى حضارتين نشأ بينهما، يدلنا على تأثره بالعديد من الأفكار الفلسفية التي نجدها بين ثنايا النتاج الأدبي والفكري والفني الذي تركه لنا رجال مصر القديمة، وهل كان من المصادفات أن يشير نجيب محفوظ إلى «أخناتون» صاحب أشهر قصيدة في التوحيد في العصور القديمة، وما تتضمنه هذه القصيدة من الدلالات الفلسفية؟! صحيح أننا لا نجد فلاسفة في مصر القديمة، ولكننا نجد العديد من الأفكار التي لا تخلو من دلالات فلسفية، ومن بينها أفكار «أخناتون»، وليرجع القارئ إلى روايات نجيب محفوظ، وخاصة «عبث الأقدار» و«رادوبيس» و«كفاح طيبة»، بل إلى عشرات من الروايات الأخرى، وسيرى كيف كان نجيب محفوظ متأثرًا بالعديد من الزوايا والأبعاد التي نجدها في مصر القديمة.

التفتح العقلي

إن حديث نجيب محفوظ عن الفكر الشرقي في مصر القديمة، يدلنا على اعتراف من جانب بأهمية هذا الفكر، وما فيه من دلالات وأبعاد ومجالات فلسفية، ولا أشك أن دراسة نجيب محفوظ لهذا الفكر قد ساعدته - كما أشرت - على تشكيل بعض أفكاره الفلسفية التي لم تظهر في الروايات التي أشرنا إليها فقط، بل ظهرت في العديد من رواياته وذلك على النحو الذي سنشير إليه في ما بعد.

ويستمر نجيب محفوظ في بحثه عن الثابت والخالد، والجوهر وراء المتغير، والزائل والعارض، فيشير إلى الحضارة الثانية التي تأثر بها، فهو يقول في خطابه: «وعن الحضارة الإسلامية فلن أحدثكم عن دعوتها إلى إقامة وحدة بشرية في رحاب الخالق تنهض على الحرية والمساواة والتسامح.. ولا عن المؤاخاة التي تحققت في حضنها بين الأديان والعناصر في تسامح لم تعرفه الإنسانية من قبل ولا من بعد، ولكني سأقدمها في موقف درامي مؤثر يلخص سمة من أبرز سماتها.. ففي إحدى معاركها الظافرة مع الدولة البيزنطية ردت الأسرى في مقابل عدد من كتب الفلسفة والطب والرياضة من التراث الإغريقي العتيد، وهي شهادة قيمة للروح الإنسانية في طموحها إلى العلم والمعرفة، على الرغم من أن الطالب يعتنق دينا سماويًا والمطلوب ثمرة حضارية وثنية».

وما يقوله نجيب محفوظ عن تلك الحضارة وعلى وجه التحديد عن موقف من مواقفها إنما يكشف عن العديد من الأبعاد الفلسفية، إنه يبين لنا من خلال هذا القول كيف أن الفكر الدقيق ينبغي عليه أن يستفيد من كل التيارات الفكرية - كما نقول - اطلبوا العلم ولو بالصين.

إن ذلك يتضح تمامًا ليس في أعماله الأدبية فحسب، بل في خطابه الموجه لأعضاء الأكاديمية السويدية، لقد أشار إلى كثير من مشكلات العالم الثالث، مشكلات الدول النامية مثل المشكلة الفلسطينية والمجاعة في إفريقيا، إنه يحدد لنا دور المثقفين، كما فعل غيره من مفكرين وأدباء غلبت عليهم الاتجاهات الفلسفية، وبحيث أدركوا أن الفلسفة لها وظيفتها التحليلية، والنقدية، والتركيبية، إنه يقول في هذا المجال: «إن على المثقفين أن ينشطوا لتطهير البشرية من التلوث الأخلاقي.. اليوم يجب أن تقاس عظمة القائد المتحضر بمقدار شمول نظرته وشعوره بالمسئولية نحو البشرية جميعًا، وما العالم المتقدم والثالث إلا أسرة واحدة يتحمل كل إنسان مسئولية نحوها بنسبة ما حصل من علم وحكمة وحضارة».

كما يوجه نجيب محفوظ نداءه إلى قادة العالم المتقدم، ويدعو باستمرار إلى الربط بين النظر والعمل، الفكر والتطبيق، وذلك على النحو الذي نجده عند أكثر الفلاسفة المعاصرين، إنه يقول: «لا تكونوا متفرجين على مآسينا، ولكن عليكم أن تلعبوا فيها دورًا نبيلاً يناسب أقداركم، إنكم من واقع تفوقكم مسئولون عن أي انحراف يصيب أي نبات أو حيوان، فضلاً عن الإنسان في أي ركن من أركان المعمورة، فقد ضقنا بالكلام وآن أوان العمل، آن الأون لإلغاء عصر قطاع الطرق والمرابين، نحن في عصر القادة المسئولين عن الكرة الأرضية، أنقذوا المستعبدين في الجنوب الإفريقي، أنقذوا الجائعين في إفريقيا، أنقذوا الفلسطينيين من الرصاص والعذاب، بل أنقذوا الإسرائيليين من تلويث تراثهم الروحي العظيم.. أنقذوا المدينين من قوانين الاقتصاد الجامدة».

وعلى الرغم من أن نجيب محفوظ سواء في ندائه هذا أو في العديد من رواياته لا يخلو من بعض الاتجاهات التشاؤمية فإنه من خلال الكلمات الأخيرة في خطابه إلى أعضاء الأكاديمية يؤمن بروح تفاؤلية، روح آمن بها بعض الفلاسفة والمفكرين من أمثال «ابن سينا» وإن كان نجيب محفوظ لا يخفي قوة الشر وسطوته بالرغم من إيمانه بالتفاؤل فإنه يقول: «على الرغم من كل ما يجري حولنا فإنني ملتزم بالتفاؤل حتى النهاية، لا أقول مع الفيلسوف «كانط» الخير سينتصر في العالم الآخر، فإنه يحرز نصرًا كل يوم، بل لعل الشر أضعف مما نتصور بكثير، وأمامنا الدليل الذي لا يدحض، فلولا النصر الغالب للخير ما استطاعت شراذمة من البشر الهائمة على وجهها عرضة للوحوش والحشرات والكوارث الطبيعية والأوبئة والخوف والأنانية، أقول لولا النصر الغالب للخير ما استطاعت البشرية أن تنمو وتتكاثر، وتكون الأمم، وتنتشر وتبدع وتخترع وتغزو الفضاء، وتعلن حقوق الإنسان، غاية ما في الأمر أن الشر عربيد ذو صخب ومرتفع الصوت، وأن الإنسان يتذكر ما يؤلمه أكثر مما يسره، وقد صدق شاعرنا «أبو العلاء» عندما قال: إن حزنًا في ساعة الموت أضعاف سرور في ساعة الميلاد».

التفاؤل والتشاؤم

ويمكننا أن نقول إن هذه النزعة التفاؤلية عند أديبنا نجيب محفوظ وترجيحها عنده على النزعة التشاؤمية تبدو متناقضة عندنا، ومع ما نجده مع بعض رواياته من نزعة لا تخلو من التشاؤم.. نزعة تصور الحياة بما يسودها من عبث وضلال، ومن بين تلك الروايات «ثرثرة على النيل» و«ميرامار» و«الشحاذ».. إن تلك الروايات قد تؤدي إلى تصوير الحياة تصويرًا لا يخلو من حقيقة وواقع، فما يحصل عليه الإنسان لا يزيد على كونه نوعًا من الهباء «الشحاذ»، ولا قيمة للحياة سواء في قصرها أو طولها «ثرثرة على النيل»، وأيضًا «ميرامار».

وإذا كنت اختلف مع الأديب نجيب محفوظ في بعض نزعاته التفاؤلية جملة وتفصيلاً، قلبًا وقالبًا، فإن هذا الاختلاف لا يقلل من عمق نظرته، وإن كنت أرى أنه كان من الأجدر بأديبنا - وقد تعمق في دراسة الواقع الاجتماعي - أن يعتقد بأن التشاؤم هو جوهر الحياة، والحزن هو أساس الوجود، إن نظرة التشاؤم تعد عندي أصدق وأعمق من نظرة التفاؤل التي لا تخلو من سطحية وسذاجة.

إننا نجد حسًا نقديًا متميزًا عند نجيب محفوظ، ومجموعة من التساؤلات التي لا تخلو من دلالات فلسفية، وإثارة للشكوك حول بعض الأحكام التي ربما بدت عند أهل التقليد قضايا بديهية يقينية، فهل يمكن أن ننسى رواية «السمان والخريف» وما فيها من إشارات إلى ما قد نجده في بعض أرجاء الكون أو العالم أو الوجود من نوع من العبث أو الصدفة أو الحظ والبخت؟ هل يمكن أن ننسى «الطريق» و«اللص والكلاب» وما فيهما من بحث عن بعض القيم الكبرى كالمطلق والعدل وغيرهما، هل يمكن أن ننسى ما في بعض رواياته من نوع من التمرد على الواقع، مثل «زقاق المدق»؟ وهل يمكن أن نقلل من لجوء نجيب محفوظ إلى التمييز بين الظاهر أو السطح من جهة، والمطلق أو الحقيقي من جهة أخرى؟ (رواية الطريق ورواية حضرة المحترم).

هذه الجوانب كلها تعد معبرة عن خصائص فلسفية كثيرة، فمن خصائص الفكر الفلسفي الشك، ونجده في العديد من الروايات عند نجيب محفوظ، ومن بينها «أولاد حارتنا» و«الحرافيش» و«الطريق» و«الشحاذ» و«ثرثرة على النيل» و«زعبلاوي» (مجموعة دنيا الله)، وكم وجدنا عند العديد من الفلاسفة، إن لم يكن عند كل الفلاسفة روحًا شكية تعبر عن خصائص الإنسان بما ينبغي أن يكون عليه الإنسان، وتعبر عن التمييز بين المقلد والمجدد، وبين العامي والمثقف ثقافة حقيقية واعية نجد ذلك عند السوفسطائيين، وسقراط، وابن طفيل، وابن رشد، وفرنسيس بيكون وديكارت، وأكاد أقول إنه بالإمكان الربط بين بعض أفكار نجيب محفوظ في الروايات التي أشرنا إليها، بل في روايات أخرى عديدة، وبين ما نجده من أفكار شكية نقدية عند كثير من فلاسفة العالم شرقًا وغربًا، لقد قمت من جانبي بقراءة كل ما كتبه نجيب محفوظ منذ رواياته الأولى وحتى رواياته التي صدرت أخيرًا، وحاولت أن أتجنب كل الأحكام التي صدرت على أدب نجيب محفوظ، وخاصة تلك الأحكام الهوجاء والمتسرعة التي يطلقها أشباه الأدباء في عالمنا العربي وأنصاف المثقفين، ولقد وجدت أنه آن الأوان لكي ندرس أدب نجيب محفوظ دراسة موضوعية لا تقوم على الرفض لمجرد الرفض، أو تقوم على المبالغة من دون وجود أحكام نقدية دقيقة، أو تقوم على تأويلات فاسدة قلبًا وقالبًا، لقد حاول البعض منا تصنيف أعمال نجيب محفوظ تصنيفًا مذهبيًا، وأعتقد من جانبي أن هذا يعد خاطئًا من أساسه جملة وتفصيلاً، إذ لا يمكن الفصل بين مرحلة ومرحلة فصلاً حاسمًا.

أبعاد سياسية

وإذا كان الفيلسوف يهتم كثيرًا بالأبعاد السياسية من حيث علاقتها بالمجالات والميادين الاجتماعية، فإنه يمكن القول إننا نجد العديد من الأبعاد السياسية في روايات نجيب محفوظ، إنه يميل إلى حزب الوفد إلى حد كبير، وإن كان ذلك يبدو واضحًا في المراحل الأولى أساسًا، ولا نجد لديه تعاطفًا مع أحزاب أو فئات تحاول صبغ الدين بالسياسة وحسنا فعل ذلك نجيب محفوظ.

إن الأبعاد السياسية يمكن التعرف عليها من خلال عدة روايات كتبها نجيب محفوظ في مراحل كثيرة، ولا تخلو هذه الأبعاد من تعبير عن خصائص الفكر الفلسفي، وهل يمكن التقليل من الأعمال السياسية عند فلاسفة كبار من أمثال: أفلاطون، وأرسطو، والفارابي، وإخوان الصفا، وتوماس هوب، وجون لوك، وكانط، وبرتراندرسل، فالإحساس السياسي موجود في كثير من روايات وقصص نجيب محفوظ، لأن الإنسان قد تنظر إليه على أنه حيوان سياسي، ونجد ذلك واضحًا غاية الوضوح في «القاهرة الجديدة، والثلاثية، وميرامار، والكرنك، وأهل القمة والحب فوق هضبة الهرم، ويوم قتل الزعيم، والسمان والخريف، وتحت المظلة»، إننا نجد في هذه القصص والروايات وغيرها إثارة للعديد من القضايا السياسية، ومن بينها الاشتراكية، والرأسمالية، والديمقراطية، والدكتاتورية، والإسلام، والليبرالية، ونجد حديثا عن المثقف اليساري وعن القمع (الكرنك)، ونجد تحليلات سياسية في «الثلاثية والسمان والخريف»، وإن كنا نختلف مع نجيب محفوظ في بعض النتائج التي توصل إليها والتحليلات التي قام بها، وهذا لا يقلل من مكانة نجيب محفوظ، لأننا يجب أن ننظر إليه على أساس أنه بشر وليس قديسًا.

قيم أدبية وإنسانية

نقول ونؤكد على القول إن نجيب محفوظ نتيجة لتزوده بالثقافة الفلسفية الواسعة والشاملة التي تظهر في العديد من قصصه ورواياته، لم يكن مجرد صدى للأحداث التي مرت بمصر قبل العام 1952 أو بعده، بل إنه يحاول بلورة العديد من الأفكار والمشاعر، يحاول تحليل وتوضيح أفكار تبدو في الظاهر معروفة ولكنها في الحقيقة ليست بهذا المستوى من السهولة واليسر، إنه إذا كان قد تأثر بالعديد من الظروف الاجتماعية والأنظمة السياسية إلا أنه لم يكن مجرد مستقبل أو متفرج، بل كان عن طريق قصصه ورواياته مؤثرًا وفعالاً، إذ ما أكثر القيم التي يبثها فينا من خلال أدبه الرفيع، سواء اتفقنا معه حولها أم اختلفنا، وليرجع القارئ إلى رواياته سواء ما يمثل منها أو يغلب عليها الجانب الاجتماعي كخان الخليلي، وزقاق المدق، والثلاثية، وبداية ونهاية، أو ما يمثل منها الجوانب التاريخية الفرعونية على وجه الخصوص ككفاح طيبة، ورادوبيس، وعبث الأقدار، أو ما يمثل منها بعدًا يغلب عليه الاتجاه أو المجال الفلسفي كالحرافيش، وأولاد حارتنا، والسمان والخريف، والشحاذ، وثرثرة على النيل، وميرامار، واللص والكلاب، إن القارئ لهذه الأعمال، التي نذكرها على سبيل المثال لا الحصر، يستطيع إلى حد كبير إدراك وحدة عضوية، جانب تركيبي في أعمال أديبنا نجيب محفوظ وكم سعت إلى ذلك الآراء والاتجاهات الفلسفية من خلال تحقيق الوظيفة التركيبية للفلسفة. فكم أعطانا نجيب محفوظ صورًا عديدة للإنسان الذي يمثل عالمًا صغيرًا بالقياس إلى الكون أو العالم الكبير، كما تحدث في رواياته عن الحياة، وهل هناك هدف وراءها، وما معنى تلك الحياة والتفاؤل والتشاؤم إلى آخر حديثه عن جوانب تدخل دخولاً مباشرًا في إطار الفلسفة والتفلسف، ومازلنا حتى الآن كأدباء ومفكرين نطرحها على أنفسنا ونحاول الإجابة عنها.

وقد كان نجيب محفوظ حين طرح هذه التساؤلات الفلسفية متجهًا إلى لغة الحوار وإثارة الشكوك، إنه لم يقدم إجابات جاهزة قطعية، ولعمري إن ما فعله أديبنا نجيب محفوظ يضعه في مكانة كبرى، وإذا كنا نعجب كل الإعجاب بأشعار المتنبي، وأبي العلاء المعري، وابن الرومي، وبحيث نفضل من جانبنا هؤلاء الشعراء على البحتري نظرًا لما نجد لديهم (المتنبي وأبو العلاء المعري وابن الرومي) من أشعار تطرح العديد من القضايا، فإنه لابد بالتالي من الإعجاب بالعديد من قصص وروايات نجيب محفوظ، فكم يجد الإنسان فيها نفسه، وكم يجد كمًا هائلاً من التحليلات النفسية والفلسفية التي يرددها بينه وبين نفسه، وبحيث تحدد علاقته بذاته وعلاقته بالمجتمع بل تحدد علاقته بالله تعالى خالق الأكوان، صحيح أننا نجد عنده، ما نجده عند شكسبير أعظم الشعراء والأدباء على وجه الأرض قاطبة، وبحيث لم يصل إلى مكانته الأدبية أي أديب أو أي شاعر عربي، ولكن هذا لا يقلل من مكانة نجيب محفوظ أو من أدبائنا القدامى والمحدثين.

لقد كان نجيب محفوظ عن طريق تعمقه في دراسة الفلسفة وتأثره بها مكتشفًا لعوالم جديدة، وقد لا أكون مبالغًا إذا قلت إننا لا نجدها عند أديب من أدبائنا المعاصرين في زمانه، أي من الأدباء العرب الذين يعيشون حاليًا داخل مصر وخارجها، لقد أدرك نجيب محفوظ أن للأدب وظيفته الاجتماعية، إنه لم يقم بتأليف رواياته وقصصه لمجرد اللهو والعبث، لقد كان ملتزمًا بخصائص الأدب كما ينبغي أن يكون الأدب، وبخصائص الفكر الفلسفي، أيضًا، لم يكن من هؤلاء الذين يحشرون أنفسهم في زمرة الأدباء والأدب منهم براء، ويكتبون مجموعة من الكلمات المتقاطعة يظنون أنها تعد شعرًا أو تعد أدبًا، والبعد بينها وبين الشعر أو الأدب أبعد من المسافة بين الإنس والجن.

نعم، لقد كان نجيب محفوظ عملاقًا من عمالقة الأدب، رفيع المستوى واضح القسمات، وما أجدرنا أن نحتفل بذكراه في كل زمان وكل مكان، هذه رؤيتنا الفلسفية لأدبه وقصصه، أي تحليلنا لأدبه من خلال منظور فلسفي، ولا يخفى علينا أن هذا المنظور الفلسفي يعد غير مقطوع الصلة بالاتجاه المقدس، الاتجاه التنويري المستقبلي.

ويجب علينا كمشتغلين في عالم الأدب وعالم الفلسفة أن نهتم بالجوانب الأدبية عند نجيب محفوظ من منظور فلسفي، وإذا كان نجيب محفوظ قد غادر دنيانا الفانية، فإنه خالد بأدبه الرفيع، وكما يقول القائل: هذه آثارنا تدل علينا.. فانظروا بعدنا إلى الآثار.

عاطف العراقي 





 





 





 





 





صورة لنجيب محفوظ في الشهور الأخيرة قبل وفاته، مع كاتب الدراسة