خليل حاوي.. شاعر خطّ بدمه قصيدته الأخيرة

خليل حاوي.. شاعر خطّ بدمه قصيدته الأخيرة

طلقة منفردة أعلنت موت شاعر كبير, آثر أن ينهي حياته بعد أن شاهد انهيار الحلم الذي طالما كان مبررًا لوجوده كشاعر, وعانى موت الرؤيا التي طالما جسّدها فنًا شعريًا رائعًا.

مساء يوم السادس من يونيو 1982، وعلى شرفة شقة في مبنى بشارع المكحول في منطقة رأس بيروت، دوّت طلقة نارية من بندقية صيد، بين طلقات رصاص لا ينقطع ودوي انفجارات لا تهدأ. كانت بيروت تلتهب وهي تقاوم قوات الجيش الإسرائيلي التي اجتاحتها في الذكرى الخامسة عشرة لاحتلال إسرائيل لما تبقى من أرض فلسطين في الضفة الغربية وقطاع غزة، والجولان وسيناء في الخامس من يونيو 1967. في تلك الليلة، ومنذ ستة وعشرين عامًا، وضع خليل حاوي فوهة البندقية بين عينيه وأطلق النار. عندما أحسّ أن الموت أيسر من حياة ذليلة تحت الاحتلال. كان في حالة توتر شديد في ذلك اليوم العصيب، وقال يومذاك لكل مَن رآه: مَن يرفع عني ذلك الذلّ.

خليل حاوي (1919 - 1982)، أحد أبرز روّاد الشعر العربي الحديث، هو الشاعر الحضاري بامتياز في حركة الحداثة الشعرية العربية. حمل همّ أمته العربية واكتوى بآلامها وانتشى بآمالها، فكان الشاعر المتميّز بامتلاك حسّ حضاري ينطوي على إدراك نافذ للواقع العربي بكل مستوياته، وعلى وعي خاص بالتاريخ في تواصله وتحوّلاته، وعلى استيعاب معمّق للتراث الثقافي القومي والإنساني بتجليّاته الأدبية والفنية والفكرية. وقد جسّد تجربته ورؤياه الشعريتين في دواوينه الخمسة: نهر الرماد (1957) والناي والريح (1961) وبيادر الجوع (1965) والرعد الجريح ومن جحيم الكوميديا (1979).

رؤية شعرية موحدة

هذه الدواوين الخمسة تنتظمها رؤيا شعرية موحّدة، وإن انطوت على مضامين متنوّعة، وتعبّر عن تجربة شعرية مكتملة ومتكاملة، وإن اشتملت على عناصر متشعّبة ومتباينة. فالوحدة الفنية لدى خليل حاوي غنية في تنوّعها، تحيط بما ترسّخ في أعماق الفكر وما ترسّب في أغوار النفس من ثراء. فمنذ بدايات نهر الرماد عاش حاوي أزمة الحضارة الإنسانية في تجليّاتها الشرقية والغربية، فتجسّدت رؤيته وتجربته في صورتي البحار والدرويش، البحار رمز الإنسان الغربي المعاصر، وقد خذله العلم وجرّدته الحضارة المادية من إنسانيته، فأبحر للبحث عن ذاته، وعن حقيقته الوجودية الضائعة، والدرويش رمز الإنسان الشرقي المنغمس في الغيبيات، وقد تبلّد حسّه، وتجمّد فكره، وأضاع ذاكرته الحضارية ووعيه للزمن. ويعاني الشاعر تمزّقًا بين نموذجين حضاريين سائدين رأى أن أيا منهما لا يؤدي إلى النهضة العربية المنشودة: فلن تكون النهضة استمرارًا لما هو مسيطر من مظاهر الموت، ولا تُنال باستعارة النموذج الغربي المشرف ذاته على الانهيار.

تميّز نهر الرماد بتوسّل الصورة الرمزية والبنية الأسطورية سبيلاً للتعبير عن أزمة حضارة تنبض في أعماقها شهوة الحياة، وإن كانت تعاني الانهيار. وتصطرع رموز الجدب والخصب حتى تصل التجربة الشعرية المتنامية إلى تغليب صور الحياة في قصيدة «بعد الجليد» حيث تظهر صور البعث الموحية بالنشوة والحيوية والانطلاق مجسّدة في رموز جنسية مستمدّة من أساطير الخصب القديمة.

وتصل الرؤيا والتجربة بالشاعر إلى ما يشبه اليقين، فيتجسّد في ديوان «الناي والريح» إيمانه بحتمية اندلاع ثورة تزيح مظاهر التخلّف، وتعيد للإنسان العربي دوره في التاريخ، وللحضارة العربية حيويتها وفاعليتها. وقد أبدع الشاعر رمزي الناي والريح: الناي بما ينطوي عليه من موسيقى حزينة تثير الشوق والحنين، يرمز إلى حياة رتيبة منسجمة مع التقاليد البالية ومع الواقع البارد، لا تحرّكها رغبة في التغيير ولا تطلّع إلى الانطلاق ولا تهزّها ثورة، تمثّلها في القصيدة صورة خطيبة منتظرة، تعشق الناي، رمز الرتابة والخنوع، لأنها مظهر من مظاهر الواقع المتبلّد الميت، وتقابلها في القصيدة صورة البدوية الممتلئة بالحيوية والفرح. ويعقد الشاعر الصلة بين البدوية والريح, كما عادل بين الناي والخطيبة: فالريح تنبع من أنامل البدوية لتمحو صور التحجّر وتبدع العالم الجديد. وبذلك يؤكد حاوي إيمانه بالدور الطليعي للشعر في الثورة على صور التخلف, وإبداع عالم النهضة، كما يعلن حتمية العودة إلى ينابيع حضارتنا العربية، الممثلة في صفاء الحياة الصحراوية من حيث خرج رجال وضعوا أسس الحضارة العربية. وقد استحق حاوي، لما جسّدته قصائد الناي والريح من رؤيا الانبعاث الحضاري، لقب «شاعر الانبعاث الأول»، الذي أطلق عليه حينذاك.

بيادر الجوع

غير أن شاعر الانبعاث كان أول مَن أعلن: لا لم يكن انبعاثًا. إنّ ما بدا وكأنه نهضة كان وهمًا، كان موتًا متنكرًا بألبسة الحياة. وهذا ما جسّده ديوان «بيادر الجوع»، وتُُستشف من عنوان الديوان طبيعة التجربة الشعرية التي يعبّر عنها، إذ يكشف سيطرة التناقضات، وإفراغ رموز الخصب من دلالاتها، وانفصام الأسماء عن مسمّياتها. فبعد النشوة العظيمة لرؤيا الانبعاث الحضاري العربي في ديوان «الناي والريح»، يلتفت الشاعر إلى واقع تناقض صورته الكئيبة ما عاين من صور مشرقة. وكان حاوي قد رأى في الوحدة السياسية بين مصر وسورية عام 1958 بشائر وحدة عربية شاملة تلمّس فيها بذور انبعاث عربي توشك على التفتح، فكان الانفصال بالنسبة إليه، وما لحقه من انقسامات حزبية، وصراع على السلطة دليلاً على إخفاق الإنسان العربي في إبداع ذات جديدة قادرة على خلق التآلف والانسجام بين أجزاء الوطن الواحد. ويعاني الشاعر مأساة ذات وجهين: فأمته العربية، من ناحية، مازالت أسيرة جمود الانحطاط. ومن الناحية الثانية، يساور الشاعر شك بدوره الحضاري. فقد ادّعى لنفسه دور النبي، وبشّر بتجسّد الرؤيا الشعرية الانبعاثية، وبصدق النبوءة الفنية. فلمَ لمْ تتحقق الرؤيا؟ وهل تكذب الرؤيا الشعرية؟

هذه المأساة الأليمة عبّر عنها ديوان بيادر الجوع تعبيرًا شعريًا رائعًا، وصل فيه الشعر العربي الحديث إلى أعلى ذراه، وارتفع بالشعر العربي إلى أعلى مراتب الشعر الإنساني. فالقصيدة الأولى في الديوان «الكهف» تذكّر بسورة الكهف في القرآن، أعظم تعبير عن الانبعاث بعد الموت وغلبة الحياة في الإسلام. لكن كهف حاوي، ليل متحجّر في الصخور، وصحراء قاحلة، وسمك ميت، وزمن متجمّد تتحوّل فيه الدقائق إلى عصور. وتُهزم الحياة في القصيدة، وتتوقف عقارب الزمن عن الدوران.

وفي «جنّية الشاطئ» تندحر البراءة وتتراجع الحيوية المجسّدتان في رمز غجرية لا تعرف الخير والشر، لأنها تعيش في الجنة قبل سقوط الإنسان، وينتصر عالم السقوط وتسود شريعته مجسّدة في رمز كاهن موسوي يرمي الغجرية بالخطيئة، وتُتهم بالجنون، فتتحول إلى جنّية تثير رعب العابرين لتنتقم لنفسها من مجتمع الفساد وشريعة العسف.

أما «لعازر 1962» فتمثل ذروة هذه التجربة الشعرية، فهي نفي لمبدأ الانبعاث بعد الموت المتجذّر في النفس الإنسانية، وقد جسّدته الأساطير وبشّرت به الأديان السماوية. وتتعمّق مأساة الموت حين يغدو الموت نهاية حقيقية. وينتفي الإيمان بالعودة إلى الحياة. ويزيد من وقع الفجيعة أن هذه النهاية لا تواجه الإنسان وحده، بل تنال أمما وحضارات تسير نحو موت لا يتلوه انبعاث.

الذي يعود من الموت

يعود خليل حاوي إلى العهد الجديد مستعيرًا شخصية لعازر، صديق يسوع، وتروي الأناجيل أنه مات وبعثه المسيح بعد ثلاثة أيام من موته. لكن لعازر حاوي ليس راغبًا بالانبعاث. إنه عاشق لموته، متشبّث به، وهارب من الحياة. لذلك يعود ميتًا إلى الحياة حين يبعثه المسيح من الموت. ويكون الموت في الحياة أقسى من الموت نفسه: إنه موت للقيم وسلامة للجسد، أي انتصار للطغيان.

وتعاني زوج لعازر في القصيدة مأساة عودة زوجها ميتًا إلى الحياة، وتعيش فجيعة الانبعاث المشوّه. ولا تجد الزوج عزاء: فُجعت بآمال الانبعاث، وتخلّت عن إيمانها بالقوى الغيبية، فرفضت الصلاة وواجهت المسيح - رمز القدرة الإلهية المتجسّدة - بتحدّ كبير، وأعلنت إيمانها بعجز الآلهة عن مشاركة البشر آلامهم، ويقف الإنسان وحيدًا في مواجهة الموت والحياة: فإمّا أن تتفجّر الحيوية من أعماقه فيحيا، أو تحجّره شهوة الموت، كلعازر، فيموت ولو ظل جسده يتحرّك.

هذه الرؤيا المفجعة التي يجسّدها حاوي في «لعازر» تمثل فجيعته بانبعاث مشوّه يرى أن الأمة العربية تعاني منه. فالانبعاث الحضاري، وقد عاينه على مستوى الرؤيا وهلل لتحققه في قصائد الناي والريح، أثبت الواقع المؤلم أنه ليس سوى استمرار لعصر الانحطاط.

ولعازر رمز للإنسان القوي الخيّر، وقد حوّل الواقع المتحجّر طبيعته إلى نقيضها، وللبطل المخلّص، وقد غدا جلاّدًا وفاسقًا، وللمناضل، وقد انهار فأصبح طاغية وعميلاً. إنه رمز الإنسان العربي في هذا العصر، ويرى الشاعر أنه متشبّث بالموت الذي جمّده طوال عصور الانحطاط، ورافض للتحوّل وللتجدد. ولعل انفصال الوحدة المصرية - السورية وما تبعها من تجارب وحدوية عربية انتهت جميعًا إلى الإخفاق، والانهيارات الحزبية والتقلّبات العقائدية والمواجهات السياسية ذات الجذور العشائرية والقبلية في أقطار الوطن العربي، وجه من وجوه ذاك الانحطاط، أدّت في ما أدّت، إلى هزيمة العرب أمام إسرائيل.

من هنا سُمّيت قصيدة «لعازر» بعد حرب يونيو 1967، قصيدة الهزيمة قبل الهزيمة.

أما زوج لعازر فهي تجسيد لما ترمز إليه المرأة في الحضارات الإنسانية. إنها مصدر الحياة وروحها، إنها الأرض بصدرها الرحب وعطائها العظيم. إنها المبتدأ والمنتهى، الرحم واللحد، الحياة والموت المفضي إلى تجدد الحياة. إنها ضلع آدم وقد حققت ذاتها كيانًا مستقلاً. وفي القصيدة تبدو زوج لعازر شخصية مأساوية مستقلة تعاني آلام الفجيعة. لكنها، في الوقت نفسه، جزء من ذات لعازر: كلّ وجزء، خارج الذات وضمنها. لذلك فالعلاقة بين لعازر وزوجه علاقة معقّدة، علاقة الرجل المحرّمة والمحللة بالمرأة: الأم والزوج والعشيقة والأخت والابنة الطفلة، وعلاقة الرجل بالجانب الأنثوي من ذاته وبمصدر حياته وحيويته. من هنا فالصراع بين لعازر وزوجه صراع بين وجهي الذات الواحدة، بين حقيقة الموت وحقيقة الحياة، بين التبلّد والحيوية، بين الجدب والخصب، بين حياة ماتت فيها القيم وحياة تعيد إبداع الكون وتبثّ فيه الحياة. غير أن الحيوية - عبر الصراع - تبدأ بالتراجع والانهزام، فتنحدر زوج لعازر إلى حفرة الموت وظلامه وصقيعه. وتنتهي القصيدة نهاية مفجعة تصوّر هزيمة العنصر الحيوي في الوجود وغلبة الموت غلبة شبه تامة.

كانت مأساة سقوط الإنسان العربي مأساة خانقة لخليل حاوي على الصعيدين التوأمين: الحضاري والشعري. ولعل الرعب الذي عاناه حين تمثلت له قصيدة لعازر بصدقها الموجع، كان سببًا أساسيًا في صمته الطويل الذي تلا القصيدة. هذا الإنسان العربي كان محور قصائد ديوان «الرعد الجريح»، وقد كتبها الشاعر بين عام 1967 وعام 1974: من موت هذا الإنسان وغيابه في قصيدة «الأم الحزينة» إلى تكريسه وليّا للشمس في «رسالة الغفران».

ظلال الهزيمة

كتب خليل حاوي «الأم الحزينة» بعد هزيمة يونيو، فجاءت صورة لذهول حزين أمام واقع مرعب. فإذا كان لعازر هو البطل المنهار والمشوّه والميت في الحياة، فإن البطل غير موجود في «الأم الحزينة»: إنه ميت منذ مطلع القصيدة، يستعير الشاعر عنوان قصيدته من التراث المسيحي، حيث كانت العذراء مريم، أم المسيح، هي الأم الحزينة التي عانت آلام موت ابنها. وإذا كانت العذراء الحزينة شيّعت مسيحًا واحدًا، فإن الأم العربية الحزينة شيّعت «ألف مسيح ومسيح»، حسب قول الشاعر، ماتوا في أجواء قاحلة توحي بموت لا يتلوه انبعاث.

صمت خليل حاوي بعد قصيدة «الأم الحزينة» أربع سنوات: أحسّ بالاختناق من الرؤيا الجحيمية التي تملّكته، وغصّت الكلمة بالرؤيا فعجزت عن تجسيد ما فيها من رعب وهول. وفي عام 1971 كتب قصيدة «ضباب وبروق» التي تعبّر عن مرارة من اعتاد الهزيمة فصارت جزءًا طبيعيًا من حياته اليومية. واختفى الحزن لتحل محلّه سخرية مريرة أشد إيلامًا من الحزن. ولئن كان الضباب هو العنصر المسيطر في القصيدة، فقد ظهرت بروق تلمع وتخبو وسط الضباب. هل هي بروق حقيقية تبشّر بمطر قريب أم أنها مجرد سراب مدّع متلوّن؟ إن الشاعر في هذه القصيدة ليس على يقين.

شكّلت قصيدة «ضباب وبروق» مقدمة حتمية لقصيدة «الرعد الجريح»، وقد تلتها عام 1973 لتثبت أن ما التمع من بروق لم يكن وهمًا وإن حجبت التماعاتها أكداس الضباب. وقد وجد خليل حاوي نفسه في هذه القصيدة يسير على درب اليقين، وبدأت تحلّ عليه نعمة الارتياح من الشك القاتل حول مصير أمّته.

استُهلت القصيدة بصور الموات التي كانت مسيطرة على ما سبقها من قصائد، ثم تجلّت صورة الرعد الجريح، البطل العربي المخلّص وقد حمل جرحه رمزًا للشهادة، ليبدأ بتحطيم رموز الظلام والتحجّر ويرسّخ أسس حياة جديدة.

كانت «الرعد الجريح» منطلق التعبير عن صورة البلد المخلّص، فجاءت «رسالة الغفران - من صالح إلى ثمود» لتكمّل الصورة وتكشف أعماقها وأمداءها. وقد تميّزت هذه القصيدة بصهرها الواقع والتراث في بنية فنية محدثة ضمّت المستويات الذاتية والقومية والإنسانية في صيغة رمزية أسطورية بلغت بالقصيدة العربية الحديثة أعلى ذرى التعبير الفني.

العودة للتراث

عاد حاوي إلى رموز وأساطير استقاها من تراثنا، لكنها لم تكن نقلاً ساذجًا، بل إبداعًا حمّله الشاعر دلالات جديدة. فحين استلهم الشاعر شخصيتي المسيح ومحمد بشكل خاص، وأنبياء آخرين مثل إيليا والخضر وصالح، طرحت هذه الشخصيات دلالاتها الدينية والغيبية في القصيدة وتكثّفت مضامينها الرمزية والحضارية. فالمسيح ومحمد في «رسالة الغفران» بطلان كرّس كلٌّ منهما حياته للمبدأ الذي دعا إليه، وحققا بالعفة والإخلاص والبطولة نصرًا مبينًا، وأبدعا حضارة نضرة. ويرى الشاعر أن اكتساب الإنسان العربي المعاصر تلك الخصال النبيلة شرط لاستعادة الحياة وإبداع النهضة العربية المنشودة. وتكون المعركة العربية الأساسية معركة الإنسان العربي مع نفسه: إنها صراع داخلي يخوضه الإنسان العربي ضد رواسب التخلف القائمة في ذاته والمنعكسة على حياته الثقافية والسياسية والاجتماعية. وهذه أشد المعارك قسوة وأكثرها ضراوة، لأنها قتل للذات القديمة المتحجرة منذ مئات السنين، وخلق لإنسان جديد يبدع حضارة الانبعاث.

يعود حاوي إلى القرآن فيستلهم منه أمثولة النبي صالح الذي بعثه الله إلى ثمود ليدعوهم إلى الإيمان، فأعلنوا المعصية. وأنذرهم صالح فلم يمتثلوا، فأنزل الله لعنته عليهم ونجّى صالحًا والذين آمنوا.

كما استلهم بيت المتنبي: «أنا في أمة تداركها الله .. غريب كصالح في ثمود»، وقيل إن أبا الطيب لُقّب بعده بالمتنبي. فوحّد بذلك بين غربة النبي في قومه وغربة الشاعر في عصره. وتعود بنا تسمية القصيدة بـ «رسالة الغفران» إلى رسالة الغفران لأبي العلاء المعرّي، وقد التفت بصورة خاصة إلى نبوة المتنبي وأسبغ عليه معنى نقديًا بالغ الأهمية والخطورة حين سمّى شرحه لديوان المتنبي بـ «معجز أحمد»، رافعًا الشعر، لأول مرة في تاريخ النقد الأدبي العربي، إلى مرتبة الإعجاز. غير أن حاوي لا يذكر صالحًا وثمودًا إلا في عنوان القصيدة. فالبطل في القصيدة هو نموذج النبي - البطل المغترب وقد تمثّل في تاريخ الحضارة الإنسانية في صيغ متعددة ومتنوعة.

تقلّب إيمان خليل حاوي بانبعاث الحضارة العربية وانتفاض الإنسان العربي من موته، بين مدّ وجزر، إلى أن كانت مأساة الحرب اللبنانية وكارثة الغزو الإسرائيلي للبنان، فتقوّض ما تبقّى في ضمير الشاعر من إيمان انبعاثي. هذه المرحلة من مراحل تجربة حاوي الشعرية عبّر عنها في ديوان «من جحيم الكوميديا»، وضمّ قصائده الأخيرة التي كتبها في سنوات الحرب اللبنانية، باستثناء المطوّلة الوحيدة التي يختتم بها الديوان، «شجرة الدر» وتعود إلى عامي 1974 و1975. وتؤكد «شجرة الدر» أن اليقين الانبعاثي الذي بدا في «الرعد الجريح» و«رسالة الغفران» لم يكن خالصًا، فقد شابته شكوك وظنون عبّرت عن نفسها في «شجرة الدر». يعود حاوي إلى تلك الفترة المضطربة من التاريخ العربي في عصر المماليك، ليكشف ما ابتُليت به من فساد اجتماعي وسياسي. وكان الصراع على السلطة سيد الموقف من النيل إلى الرُصافة: تتسلّم الجارية العرش، وتسود «دولة الخدم» - على حد تعبير المتنبي - ويغدو البغاء الأخلاقي والسياسي قاعدة لا تقبل الاستثناء، ويتآمر الزوج المملوك على زوجه الجارية - الخليفة، فتعالجه بطعنة سكين، وتشيّعه إلى مثواه الأخير بأغاني الحزن وآيات الرثاء. في هذا الجو الموبوء بالنفاق والفساد والجريمة تعاني شجرة الدر برود العزلة وجحيم الصراع اللامجدي، وتنتهي - مثلما انتهى لعازر وزوجه - إلى حالة الموت في الحياة.

إن ما عبّرت عنه «شجرة الدر» من انهيار أخلاقي وانحطاط سياسي ترجمته الحرب اللبنانية واقعًا جسّدته تسمية قصائد تلك الحرب بـ «جحيم الكوميديا». ويحيل عنوان الديوان إلى جحيم كوميديا دانتي الذي يضمّن حاوي في مستهلّ الديوان قوله: «رأيت في أروقة الجحيم بشرًا لا يعيشون ولا يموتون». هذا الجحيم الذي ولّدته حرب الأخوة والجيران يسيطر على قصائد الديوان حيث نرى عذابات بروميثيوس وقد أصبح الموت عنده مطلبًا لا يُنال.

لعل الرعب والقلق اللذين ولّدتهما الحرب الأهلية في النفوس فرضا شكل المقطّعة والأسطر الشعرية القليلة في أغلبية قصائد من جحيم الكوميديا. في هذا الجحيم الأبدي لا يصلّي الشاعر طالبًا الخلاص، ولا يأمل في الارتقاء إلى المطهر، لكنه يطلب من إبليس أن يرفعه إلى مرتبته، وأن يجعله إبليسًا مثله، ليطيق البقاء في ذلك الجحيم ويأنس الحياة فيه. ويتميز الديوان بتفجير إمكانات إيقاعية جديدة تنطوي عليها الأوزان العربية الكلاسيكية يطوّرها حاوي ببراعة المبدع المتمرّس. ويحسّ قارئ الديوان أن الشاعر، وإن كان يقدّم مضمونًا شعريًا جديدًا ويجسّد تجربة فنية جديدة، فإن قصائدة مدموغة بطابعه الفني المتميز وملتحمة بقاموسه الشعري كما عرفناهما في دواوينه السابقة.

غير أن الرؤيا الحضارية التي امتلكها خليل حاوي - ولو زعزعها الواقع في وجدانه وظلت صور ذلك الواقع مغايرة لها في الزمن الذي عاش ونعيش فيه - فقد نالت الخلود في إبداع شعري سيظل راسخًا عبر الزمن على الرغم من تقلباته. إن مبدأ القومية العربية والانبعاث الحضاري العربي وجد في شعر خليل حاوي التعبير الأمثل عن نفسه في صيغة التحم فيها الفكر والخيال والوجدان فتجسّدت رمزًا عينيًا مطلقًا يتخطى الواقع ليثبت نموذجًا أصليًا، وحقيقة نفسية قومية، متجذّرة في اللاوعي الجماعي يتوارثها أبناء الأمة جيلاً عن جيل. من هنا، فإن الشاعر وإن غاب عنا بالجسد يظل حيًا بإبداعه. إن الشاعر لا يموت.

أرى الناس يهوون الخلاص من الردى
وتكملة المخلوق طول عناء
ويستقبحون القتل والقتل راحة
وأتعَبُ مَيتٍ مَنْ يَمُوتُ بداءِ
فلست ابن ام الخيل ان لم اعد بها
عوابس تأبى الضيم مثل ابائي
وارجعها مفجوعة بحجولها
إذا انتَعَلَتْ من مأزِقٍ بدِمَاءِ

الشريف الرضي

 


ريتا عوض