أنسنة الموت.. د. جابر عصفور

أنسنة الموت.. د. جابر عصفور

كتبت أكثر من مرة عن شعرية المرض، أي عما يكتبه الشعراء، عن الأمراض التي عانوا منها، والتي أودت بحياة بعضهم، والمثال الأشهر، في شعرنا القديم، قصيدة المتنبي عن «الحمى»، أما الأمثلة الأشهر، في شعرنا العربي المعاصر، فهي تبدأ من بدر شاكر السياب،ولا تتوقف عند محمود درويش الذي كتب عن جراحات القلب التي خضع لها، والتي كانت وراء واحد من أعذب دواوينه، أعنى «جدارية محمود درويش». وأذكر أنني كتبت دراسة كانت مقدمة لديوان حلمي سالم عن تجربة الجلطة التي عانى منها. ويبدو أن كتاباتي الأخيرة عن أمل دنقل بمناسبة مرور ربع قرن على وفاته هي التي جعلتني أتذكر قصائده البديعة التي كتبها قبيل موته، وفي أثناء صراعه مع مرض السرطان اللعين الذي هزمه في النهاية. وعدد هذه القصائد أربع على وجه التحديد، في ما عدا قصيدة «الجنوبي» التي كانت آخر ما كتب، عليه رحمة الله، والقصائد الأربع هي: «ضد من؟»، و«زهور» و«السرير» و«لعبة النهاية».

وتنتهي أي قراءة لهذه القصائد إلى أنها محاولات الانتصار على الموت وانتزاع الحياة من براثنه، فهي قصائد مقاومة هدفها الأول نزع البراثن القمعية عن غول الموت الرهيب، وتحويله إلى كائن مستأنس، تنقلب صورته الوحشية إلى صورته الإنسية بسحر الشعر الذي يؤنسن الموت ليجعله كائنًا مألوفًا، قابلاً للتأمل والتفكر والتدبر، بعيدًا من كل الرعب الذي يلازمه، والخوف الذي يثيره ولا ينفصل عنه، وعملية أنسنة الموت شعريًا، وتحويله إلى موضوع للتأمل والتفكر، بعد تقليم براثنه الوحشية، عملية لا تخلو من بعض الدلالات الأسطورية التي نراها في الميثولوجيا اليونانية على سبيل المثال، وأقصد إلى شيء قريب من حكاية البطل اليوناني برسيوس الذي كان عليه مواجهة الميدوزا البشعة بالثعابين التي تحل في رأسها محل شعرها. وما فعله برسيوس هو أنه حمى جسده بدرع صقيل، يعكس على صفحته ما يواجهه كأنه المرآة. وواجه برسيوس الميدوزا مختفيًا وراء الدرع، حتى لا تقع عيناه في عينيها، فيتحول إلى حجر، وهذا ما كانت تفعله عينا الميدوزا بكل من تحدق فيه أو يجذبه شعاع عينيها القاتل.

وكانت براعة برسيوس أنه قلب السحر على الساحر، فجعل الميدوزا ترى صورتها المنعكسة على درعه الصقيل، وتقع فريسة لأشعة عينها المنعكسة على الدرع. وشعرية المرض التي تقوم بأنسنة الموت تفعل فعلاً مشابهًا، فهي تجعل الموت يرى نفسه في مرايا الإبداع التي يؤنسن بها الشاعر الموت، فيحيله إلى كائن أليف، ينقلب عليه سحره، حين يقهره إبداع الشعر، فينتزع منه الحياة، كي يبقي عليها لأطول وقت ممكن. يضاف إلى ذلك أن فعل مقاومة الموت، أو استئناسه بالكلمة، يتحول إلى عملية تأبيد للحياة وتخليد لها بمعنى لا يقهره الموت. أو بمعنى أقرب إلى حضور التماثيل أو اللوحات التي تقهر الموت فعلاً، وتنتزع منه فريسته التي يدخلها الفن إلى عالم الخلود.

والبداية هي تأمل لوازم الموت الدالة عليه في عملية أنسنة الموت التي قام بها أمل دنقل في قصائد مرضه الأخير. وأولاها قصيدة «زهور» التي تبدأ على النحو التالي:

وسلال من الورد
ألمحها بين إغفاءةٍ وإفاقة
وعلى كل باقة
اسم حاملها في بطاقة
....
تتحدث لي الزهرات الجميلات
أن أعينَها اتسعت - دهشة -
لحظة القطف
لحظة القصف
لحظة إعدامها في الخميلة
تتحدث لي
أنها سقطت من على عرشها في البساتين
ثم أفاقت على عرضها في زجاج الدكاكين، أو بين أيدي المنادين
حتى اشترتها اليدُ المتفضلة العابرة
تتحدث لي
كيف جاءت إليّ
(وأحزانها الملكية ترفع أعناقها الخضر)
كي تتمنى لي العمر
وهي تجود بأنفاسها الآخره
كل باقة
بين إغفاءة وإفاقة
تتنفس مثلي - بالكاد - ثانية
وعلى صدرها حملت - راضية
اسم قاتلها في بطاقة

هذه القصيدة القصيرة، بالغة التكثيف، تصل بين الذات والموضوع بما يدني بهما إلى حال من الاتحاد فتصبح الذات هي موضوعها، والموضوع هو عين الذات، كأننا إزاء لعبة من المرايا المتقابلة التي يغدو كل طرف فيها غيره في عملية المخايلة الإبداعية، أو عملية التقمص الوجداني الذي يجعل من الشاعر موضوعه، أو يجعل من الموضوع صورة أخرى لشاعره.

والزمن هو زمن المابين الذي يقع ما بين النوم واليقظة،حيث تضيع، أو تغيم، الحدود المنطقية العملية بين الأشياء والكائنات. هكذا نلمح باقات الزهور بعيني الشاعر الذي يقف على حافة نهر الموت، في لحظة المابين الواقعة، هذه المرة، بين كل إغفاءة وإفاقة، فيرى من منظور مرآة المابين نفسه في الزهور، ويرى الزهور في نفسه، كما لو كان كلاهما طرفًا في عملية التقمص التي يتحدث عنها علماء النفس، فتتحدث إليه الزهور عن اتساع أعينها من الدهشة لحظة الموت، وكيف أفاقت في عالم ما بعد الحياة لتجد نفسها معروضة في زجاج الدكاكين أو ما بين أيدي بائعي الورود أو الزهور.

وتغدو الثنائية أحادية في هذا السياق، حيث يغدو المريض كالزهور، يتقبل قدره في استسلام، مؤمنًا بقانون الوجود الذي يستحيل إلى عدم في النهاية، أو الحياة التي لا بد لها من الموت، كأنها وجهها الآخر الذي لا تكتمل إلا به فلا يغدو الموت مخيفًا، أو مريعًا، وإنما فاعل محكوم عليه بما يحكم به على مفعوله الذي يرضى - كفاعله - بالمقدور الذي يريانه على باقات الزهور التي تحمل كل واحدة منها، راضية، اسم قاتلها في بطاقة.

هكذا يتأنسن الموت، ونراه من خلال أرق لوازمه، الزهور، قبل أن نراه من خلال قصيدة «السرير» التي تمضي على النحو التالي:

أوهموني بأن السرير سريري
أن قارب «رع»
سوف - يحملني عبر نهر الأفاعي
لأولد في الصبح ثانية.. إن سطع
(فوق الورق المصقول
وضعوا رقمي دون اسم
وضعوا تذكرة الدم
واسم المرض المجهول)
أوهموني فصدّقت
(هذا السرير
ظنني - مثله - فاقد الروح
فالتصقت بي أضلاعه
والجماد يضم الجماد ليحميه من مواجهة الناس)
صرت أنا والسرير
جسدًا واحدًا.. في انتظار المصير
(طول الليلات الألف
والأذرعة المعدن
تلتف وتتمكن
في جسدي حتى النزف)
صرت أقدر أن أتقلب في نومتي واضطجاعي
أن أحرّك نحو الطعام ذراعي
واستبان السرير خداعي
فارتعش
وتداخل - كالقنفذ الحجري - على صمته وانكمش
قلت: يا سيدي.. لمَ جافيتني؟
قال: ها أنت كلمتني
وأنا لا أجيب الذين يمرون فوقي
سوى بالأنين
فالأسرّة لا تستريح إلى جسد دون آخر
الأسرّة دائمة
والذين ينامون سرعان ما ينزلون
نحو نهر الحياة لكي يسبحوا
أو يغوصوا بنهر السكون

ويقابلنا مبدأ الثنائية مرة أخرى، في هذه القصيدة التي تمضي في أفق أنسنة كل ما ليس بإنسان. وهو السرير في هذه المرة، هذا الذي يبدو مثل قارب «رع» ينطلق من شاطئ الموت، مجاوزاً ما يقابله في النهر من الأفاعي، مؤكدًا جدلية الموت والحياة التي تتكرر ما بين غروب الشمس وشروقها. أما الداخل إلى السرير، فهو يدخل إلى القارب، ليس شبيه الآلهة التي لا تعرف الموت، والتي تغيب لتعود في لحظة البعث أو الشروق أو حتى الفيضان، وإنما شبيه الإنسان المشتق الدال عليه من النسيان. ولذلك يمضي في اتجاه واحد، اتجاه اللاعودة الذي يليق بضعفه وضآلة موقعه في هذا الكون اللانهائي الذي يتضاءل موقع الإنسان فيه، فيغدو رقمًا على قصاصة من الورق المصقول المعلق على أمامية سرير المرض، إلى جانب فصيلة الدم واسم المرض الذي يشترك في الدلالة مع الأفاعي التي قد تنهش الراحل في سرير رع، أو سرير المرض، في اتجاه واحد من اللاعودة.

ونأتي إلى لحظة المابين، فيتوهم المريض أن السرير قد تحول إلى كائن، لكنه ظنه فاقد الروح، فعاوده الحنان الذي ينطوي عليه، في نوبة من التقمص التخيلي، فالتصقت أعضاؤه بمن سوف يحمله إلى الضفة الأخرى للمجهول، منتظرًا وإياه لحظة الإبحار صوب المصير، والمصير هوة تروّع الظنون، كما وصفها صلاح عبدالصبور، وإلى أن يحين ذلك تعمل الآلات لعلها تؤخر الرحيل الذي يتأخر بالفعل،فلا يملك السرير، في مدى المابين الذي يصل الصحوة بالإفاقة، أو الحياة بالموت، سوى أن يسأل راكبه الذي يجيب عليه، كأن كليهما قد صار غيره، في مدى البحث عن يقين، أو نهاية للانتظار، الانتظار الذي يظل معه السرير صامتًا، فهو أداة وليس ذاتًا أو موضوعًا، فاعلاً أو مفعولاً، وإنما هو كيان محايد كالموت نفسه، لا يستريح إلى جسد دون آخر، فالأسرة دائمة، والذين ينامون فيها سرعان ما ينزلون عنها، كي يسبحوا في النهر الذي يصل الحياة بالموت، فإما وصول إلى شاطئ الحياة، وإما غوص في نهر السكون، صوب نهاية الحياة وأول شاطئ الموت.

وإذا كانت «زهور» و«السرير» تعتمدان على مبدأ الثنائية، من حيث اقترانهما بإحدى لوازم الموت، في مدى الاتحاد الحواري بين الذات والموضوع، فإن «ضد من؟» تمضي في الأفق على هذا النحو:

في غرف العمليات
كان نقاب الأطباء أبيض
لون المعاطف أبيض،
تاج الحكيمات أبيض، أردية الراهبات،
الملاءات،
لون الأسرّة، أربطة الشاش والقطن،
قرص المنوم، أنبوبة المصل،
كوب اللبن
كل هذا يشيع بقلبي الوهن
كل هذا البياض يذكرني بالكفن
فلماذا إذا مت
يأتي المعزون متشحين
بشارات لون الحداد؟
هل لأن السواد
هو لون النجاة من الموت،
لون التميمة ضد.. الزمن،
ضد من..؟
ومتى القلب - في الخفقان اطمأن.
بين لونين: أستقبل الأصدقاء
الذين يرون سريري قبرًا
وحياتي.. دهرًا
وأرى في العيون العميقة
لون الحقيقة
لون تراب الوطن

ما أكثر ما تذكرني هذه القصيدة بمرثية أمل لمحمود حسن إسماعيل التي كانت من أواخر ما كتبه قبل أن تنهشه براثن المرض اللعين الذي جعله يمضي في الطريق الذي سبقه إليه محمود حسن إسماعيل. أعني الجزء الذي يقول فيه:

إن البياض الوحيد الذي نرتجيه
البياض الوحيد الذي نتوحد فيه
بياض الكفن

وكأن أمل، عندما كتب هذه الأبيات الثلاثة، كان يرى نهايته من خلف الغيب، فيركز على اللون نفسه، الذي ألحّ على وعي محمود درويش عندما كتب عن الفترة التي عاشها ما بين الإغفاءة والإفاقة، وليس حوله سوى اللون نفسه الذي خايل صديقه أمل الذي سبقه إلى الرحيل، وتركه في الحياة التي ندعو لها فيها بطول العمر ودوام العافية.

وأبرز ما في «ضد من؟» تكرار اللون الأبيض الذي يفترش كل شيء حول المريض، فلا يترك له من تداعيات، في النهاية، سوى صياغة المفارقة التي تصل بين السؤال عن تضاد الأبيض/ المرض، والأسود / الحداد، ويتبع السؤال الأول السؤال الثاني عن إمكان أن يكون السواد هو لون النجاة من الموت، أو لون تميمة ضد الزمن؟ ولكن أي زمن، فكل شيء إلى انتهاء، والموت مزروع في وعي الإنسان، ومهما حاول الوعي الفرار منه، في مدى تشبثه بالحياة، فإنه سرعان ما يدرك أنه الحقيقة الوحيدة المؤكدة في الحياة التي تصل ما بين الأبيض والأسود في نهايتها، كأنهما لونا الشاطئين اللذان يفصلان، بقدر ما يصلان شاطئيّ الحياة والموت، ولذلك يستقبل المريض المحاصر بالبياض، المؤرق بلون السواد، أصدقاءه الذين يرون سريره قبرًا، ويرجون أن تكون حياته دهرًا، أما هو، بعد أن قاده وعي البياض إلى وعي السواد، فيرى في عمق العيون: لون الحقيقة، لون تراب الوطن، أي سواد الموت، العدم الذي ليس فيه سوى الحقيقة والأوجه الغائبة اللتين كانتا آخر ما اشتهاه أمل في آخر قصائده التي أعلن فيها موته القادم، سريع الخطى، أعني قصيدة «الجنوبي».

ولا يبقى بعد ذلك سوى القصيدة التي لا أتوقف عن الإعجاب لما وصلت إليه فيها درجة أنسنة الموت. وعنوان القصيدة هو «لعبة النهاية». والعنوان نفسه لا يخلو من السخرية التي تنزع براثن الخوف من الموت الذي يغدو أنيسًا وأليفًا، وطفلاً لاهيًا معنا في لعبة تجمعنا وإياه على نحو مباشر، من غير لوازم رمزية تنبني على ثنائيات موازية في الدلالة. ولذلك لم يكن من عجب أن تدخل هذه القصيدة في شبكة تناصات جدارية محمود درويش، وهي مبنية على المفارقة التي تزيل عن الموت براثنه الوحشية، وكل ما يحيط به من إيحاءات الخوف والرعب، فتصوّره في الصورة الرمزية التي اعتدنا أن نراها للحب: طفلاً بريئًا جميلاً، يحمل جعبة سهام فضية أو ذهبية، يحملها في وعاء كالقيثارة، يطلق منه السهام التي تخلف الحب في قلوب العاشقين أو الموت في قلوب الفانين الذين تربط بينهم السهام العفوية التي تتجاور فيها العشوائية والبراءة. وتمضي القصيدة على هذا النحو:

في الميادين يجلس
يطلق - كالطفل - نبلته بالحصى
فيصيب بها من يصيب من السابله
...
يتوجه للبحر
في ساعة المد
يطرح في الماء صنارة الصيد
ثم يعود
ليكتب أسماء من علقوا
في أحابيله القاتله
لا يحب البساتين
لكنه يتسلل من سورها المتآكل
يصنع تاجًا
جواهره.. الثمر المتعفن
إكليله.. الورق المتغضن
يلبسه فوق طوق الزهور
الخريفية
الذابله.

والمفارقة دالة في تحويل صورة «ملاك الحب الصغير» إلى «ملاك الموت الصغير» اللذين تجعلهما المفارقة وجهين لحقيقة واحدة هي الوجود، ولكن تصوير طفل الموت الصغير لا يخلو من سخرية، فهي صورة طفل يلهو بالنبلة التي يطلقها على العابرين بلا مقصد محدد أو هدف مرسوم في ذهنه من قبل، فالأمر كله لعبة وجود، لا ينبغي أن نفتش فيها عن معنى عقلاني، يحتويها أو يبررها، كل ما علينا أن نقبلها، نحن السابلة، لا نعرف متى تصيبنا حصى النبلة القاتلة. وربما كان هذا هو المنطق العادل في اللعبة كلها، على الرغم من عبثيتها، فعدم معرفتنا هي مبرر سعادتنا التي نمارسها في الحياة التي نتوهم، أو نرجو، دوامها، متعمدين نسيان وجود هذا الطفل اللاهي ونبلته التي تنطلق حصواتها بلا قصد قابل للفهم. وهي الدلالة التي تقترن بعملية «التحول» التي تحدث عنها أوفيد. ولكن التحول، في هذا السياق، قريب الأطراف، فهو يحيل الطفل الذي يصيد بالنبل إلى صياد صغير، في تجاوبات السياق، بمضي إلى البحر في ساعة المد، حيث يرتفع الماء، فيصبح الصيد سهلا، فيطرح صنارة الصيد، بدل النبلة هذه المرة، ثم يعود ليكتب من علقوا في صنارته التي لا تختلف، جذريًا، عن النبلة، أو حتى عن سهم الحب الذي يصبح سهمًا للمنية في الوجه الآخر من حضور الطفل نفسه. وتتكامل الصورة الأساسية بما يلحقها من «تحولات» تأتي بما يشبه المفاجآت، فالطفل يكره البساتين، والمفترض أن يحبها لأنها فضاء للهو، مع ذلك فهو يلهو فيها، حتى يكتمل مبنى المفارقة ومعناها، فيتسلل من فجوة في سورها المتآكل الذي يتساقط بفعل الزمن، فيصنع تيجان الموت التي يلبسها للحيوات الذابلة كالزهور الخريفية التي تتساقط مع نسائم الخريف التي تختتم كل ربيع.

هكذا نصل إلى القسم الثاني من القصيدة، ونصعد في مدرجها الدلالي، فنقرأ عن تحولات الطفل / الموت:

يتحول: أفعى.. ونايا
فيرى في المرايا
جسدين وقلبين متحدين
(تغيم الزوايا
وتحكي العيون الحكايا)
فينسل بينهما
مثل خيط من العرق المتفصد
يلعق دفء مسامهما
يغرس الناب في موضع القلب
تسقط رأس الفتى في الغطاء
تبقى الفتاة
محدقة
ذاهلة
....
أمس: فاجأته واقفًا بجوار سريري
ممسكًا - بيد - كوب ماء
ويد - بحبوب الدواء
فتناولتها
كان مبتسمًا
وأنا كنت مستسلمًا لمصيري.

والتحول إلى الأفعى التي تشبه الناي، وتطلق بدل الفحيح نغمًا مغويًا، كأنه نغم السيرينيات اللاتي يسلبن لب البحارة، ويجذبنهم إلى مصيرهم المميت، كما حاولن أن يفعلن ببحارة أوليس في رحلة عودته إلى إيثاكا. واقتران الأفعى بالنغم هو الوجه الآخر من اقترانها بالجمال (الغواية) والنعومة (المخايلة).

وكلا الوجهين يتجهان إلى حبيبين صغيرين، يحتضن كل منهما الآخر هذه المرة، كأنهما جسد واحد، فتنسل الأفعى لتغرس الناب في موضع القلب الذي هو موضع الحب والحياة، فيموت الحبيبان ذاهلين، فقد أصابهما التحول الأخير للطفل الذي يقذف الحصى من نبلته، أو يصطاد بصنارته، أو يمضي مخاتلاً كالأفعى، ليأخذ روح صنوين كانت الحياة أمامهما طويلة، بهيجة، واعدة، لو أعملنا منطق العقل. ولكن هذه التحولات نفسها تؤكد ألا منطق في اللعبة، ولا سبيل إلى تقبلها إلا من حيث هي لعبة. وعندئذ، يتحول الموت إلى شيء مألوف تمامًا، هو جزء من الجانب العبثي. وعلينا أن نتقبله بأن ندخل معه في اللعبة. أعني اللعبة التي يدخلها أمل، أو الصوت الناطق في القصيدة، في لحظة المابين، حين تلتقي الإفاقة بالإغماءة، وتغيم الزوايا، فيقف الطفل إلى جانب السرير ممسكًا بالدواء وكوب الماء، يقدمهما إلى المريض الذي يتناولهما مبتسمًا، مستسلمًا لمصيره الذي يتحكم فيه الطفل نفسه المقدور عليه أن يقذفنا، مرة بسهم الحب، وثانية بسهم الموت، أو ما يشبههما من حصاة نبلة، أو صنارة صيد، أو سم أفعى، أو دواء ليس فيه شفاء. والنتيجة هي التقبل الباسم لهذا الموت الذي لم يعد يثير الرعب أو الخوف، بل بسمة العارف باللعبة واللاعب وما بينهما.

وَلَقَدْ مَرَرْتُ عَلى دِيَارِهِمُ
وطلولها بيد البلى نهب
فوقفت حتى ضج من لغب
نضوي ولج بعذلي الركب
وَتَلَفّتَتْ عَيني، فَمُذْ خَفِيَتْ
عنها الطلول تلفت القلب

الشريف الرضي

 

 

جابر عصفور