قصص على الهواء

قصص على الهواء

قصص لأصوات شابة تنشر بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
لماذا اخترت هذه القصص؟
------------------------------------------

مطلوب منى أن أختار من القصص المرسلة للفحص أربع قصص تستحق النشر فى «العربي» لا تزيد كل قصة على 500 كلمة، ماذا لو كانت القصص التي تستحق النشر لا تصل إلى أربع؟ ماذا لو كانت إحدى هذه القصص تزيد كلماتها على 500 كلمة؟ كل هذا لابد أن يدخل في تقييم التجربة!

ابتدأت قصة: «قاتلة على الهواء»، للقاصة كليزار أنور، من حيث انتهت تمامًا: «لقد قتلته وأمام أنظار المشاهدين.. هكذا بكل هدوء.. وأقفلت الخط».

ماذا يتبقى إذن؟

ربما التعرف على شجاعة كاتبة، تعترف مسبقًا بنهاية القصة التي كتبتها، لتدعو قراءها إلى معاينة الخطاب الفني الذي ترسله هذه الكاتبة إلى متلقيها. بعد خيانة الزوج، الذي هو حبيب متمنى في البدء، تكتشف الزوجة المخدوعة، وهي كاتبة أيضًا، أن الصحفي ومقدم البرنامج التلفزيوني، والشاعر أيضًا، قد استوى كذابا من طراز تقليدي، من خلال برنامجه المسمى: الجسر.

القصة تقدم ورد، الاسم، الذي هو الصوت هنا، سيقدم لنا كليزار أنور، بما هي عليه من امتياز احترافي في الكتابة القصصية. الصوت يقتل. وهو ما لم يكن متوقعًا، منذ إعلان نهاية القصة في بداية النص المكتوب. كليزار، كاتبة تعرف كيف تشتغل على أفكارها وشخصياتها.

***

إن ما كتبته وسام جار النبي الحلو أنه في تلك الليلة، الليلة التي كان فيها جالسا عند سرير أمه، يكتشف (هو) الذي سنعرفه تمام المعرفة في قصة «كل هذه المناديل». أي حزن وبيل يتركه فراق الأم ؟: خسارة كونية. فهو يكتب بصبر ودأب جديرين بكاتب يعرف مهمته.حكاية أم، هي «جلبابها الأسود الذي لا تبدله»، لأنها تحولت إلى جلباب للفجيعة.

منذ المنديل الأول الأزرق، وحتى ذلك الأخير الأسود، مرورا بانشغالات زوجته، وعبث ابنه، نحدس أن الكاتب سيلقي بين أيدينا ذلك «الدرج» الذي أوصته به أمه، حيث المناديل التي لا تكفي لاسترداد أعز الناس: «نظر إلى المناديل المتراصة في الدرج، وبوجع أحس: كم هي قليلة كل هذه المناديل!».

***

يسافر(هو) في قصة «الرحيل» التي كتبها فيصل الزوايدي، إلى تلك البلاد التي يكسوها الثلج، حيث الشقراوات المرغوبات، مارا بالسفارات، وكراديس الشباب التواقين إلى الخروج من العزلات النفسية، ومغادرة المنعزلات الفقيرة، وهو في حجرته: يحلم.

حكاية مفعمة بالشجن، والأمل أيضًا. وهو ما يستشعره القارئ الفطن.

***

خطاب أيديولوجي، ذلك الذي يلقيه الدكنور محمد جمال طحان، على بساط القارئ لقصته القصيرة جدا: يوميات فاضل الحلبي، حيث يستلقي ذلك المتحمس لتطوير قريته على سريره، أو على تلك الأريكة التي عرفناها في حكاية محمد علي باشا وأحد أبنائه في القلعة الشهيرة.

الكرسي هو السلطة. تماما كما عبر عنه محمد على في الأريكة. بنى طحان مفردات «فاضل الحلبي» على «ستة أيام»، بكونه «صانعًا» لعالم جديد في تلك القرية، التي توحي بوطن محبوس، أو في طريقه إلى الأمل، على امتداد ستة أيام، ليستريح في «اليوم السابع»، ولكن بعد أن اندمج بالواقع الذي فشل في تغييره. إنها صورة المثقف: كلب الحراسة، حسب توصيف سارتر، حين يخون نفسه، ويضيعها، فيربح عالما غير نظيف تماما. الكرسي، هو الكرسي في كل زمان.

***

أما «الشجاعة» التي رسمها محمود بولفعاة، فهي نكتة سوداء، سوداء تماما بما هو عليه الظلام وممالكه ذاتها، ظلام الجهل، ظلام الاعتقادات المسبقة، ظلام العادة والتنميط، وظلام القبر أيضا.

محمود بولفعاة، سارد تراثي، يفيد من مخزون لغوي ثري ليطلق بهذه القصة تهكمه الأسود والمرير على اعتقادات راسخة بأسماء كاتبيها، وهي من دون أي شك، ستكون مدعاة للنظر في «بئر» همنجواي. وكذلك في إعادة نظر حصيفة بهذه النصوص، كما في غيرها من الثلاثين الأخرى، حيث كانت الهنات اللغوية، والأغلاط الطباعية.

-----------------------------------

كل هذه المناديل..
وسام جار النبى الحلو (مصر)

كان جالساً على السرير النحاسي العالي المرفوع على قوالب عدة من الطوب الأحمر، هي كانت جالسة على الأرض مستندة إلى دولاب ذي زخارف عتيقة معبقة برائحة بخور هندي، متربعة في جلبابها الأسود الذي لا تبدله؛ فقد ماتت أمها ومات أبوها وزوجها وخمسة من الأولاد. أخذ يحكى لها عن أحزانه الدفينة والتى لا يفصح عنها إلا لها.. لها فقط. كانت تأخذ همومه وأسراره وتحشرها فى الشقوق التى حفرها الزمن تجاعيد غائرة.. هل كان لابد أن يصبح وجهها الذى كان جميلا كرغيف خبز ؟

فتحت درج الدولاب أمام الذى جاءها شاكيا وأخرجت له منديلا مربعا نظيفا مكويا بلون البحر، دُهش وقال: أنا لا أبكى، قالت: حرم الله عليك البكاء خذه معك، دسه فى جيبه، لما عاد إلى بيته أخرجه من جيبه تمخط فيه وتركه على الطاولة. فى البيت أولاد، والأولاد يلعبون أخذوا المنديل تجاذبوا أطرافه حتى كاد يتمزق. فى البيت أخذت الزوجة المنديل الناعم لتضعه فوق فستانها الوحيد كى لا تترك المكواة فوقه أثرا من حرارة الكى، الحرارة غيرت لون المنديل وهو غير عابئ به.

لما أصابه هم فوق هم ذهب إليها وطلب كوبا من الشاى بالرغم من الصهد المارق إلى الحجرة الصغيرة، سحبت القلة وصبت الماء فى البراد الصاج، وبينما يحكى لها عن همومه وكأنها أشياءً عابرة وقفت عصفورة ملونة على الشباك بين أسياخ الحديد، لمحتها ؛ فمدت يدها. ربتت على ركبته وقالت له: بشرة خير كل همومك ستذهب مع الهواء الناعم الذى سيأتى غدا. تعجب.. كيف عرفت أن العصفورة بشرة خير ؟

فتحت الدرج وأخرجت منديلا بلون الأرض عليه خطان وكأنهما نخلتان سعفتهما على وشك الاهتزاز، دسه فى جيبه وغادر المكان، لما عاد إلى البيت وجد صغيره يهذي فأخرج المنديل من جيبه بلله بالماء وضعه على جبين الصغير، وأخذ يهذي بلا سخونة.

لم تكن المسافة من بيته إلى بيتها طويلة إلا أنه كان يحسها دائما طويلة، وأن المرتين اللتين يذهب فيهما إليها كل أسبوع غير كافيتين حتى يحكى لها ويحاول أن يبث إليها تجاوبه مع كلامها البسيط. كلما كان يذهب إليها تدعو له وتعطيه منديلا. للمناديل ألوان مختلفة وتشكيلات كثيرة قابلة للتأويل، هكذا رآها عندما لملمها من على الطاولة ورأس الصغير ومن جيبه ومن المكان الذى تكوي فيه زوجته الملابس ومن أماكن أخرى متناثرة كان آخرها على رأس عروسة ابنته. عصبة كعصبة لامرأة روسية بعدها قرر أن يسألها لماذا كل هذه المناديل؟ لما سألها ردت بأن عليه أن يجمعها ويحتفظ بها فى درج يخصه ثم ضغطت على ركبته بحنو: ستحتاج إليها. فى هذه المرة سألته مشيرة إلى الدرج الذى لا تفتحه أمام أحدـ أتعرف ماذا فى الدرج ؟ سألها: وهل يعرف أحد ؟

ـ أنت فقط الذى سيعرف.. انزل جانبي.

فتحت الدرج فحسبه خاليا، قالت: انظر.. وأشارت دون أن تلمس الأشياء وكأن هذه الأشياء معروضة خلف زجاج فى متحف بهى.. السن الوحيدة التى خلعها أبوك، نظارته التى كان يراكم بها، طربوشه، مال نحوها.. ربت عليها، سألها مداعبا: أبى، ألم يكن عنده سوى طربوش واحد؟!

ترحمت عليه.. لا كان عنده ثلاثة أو أربعة أخري إلا أن الزمن والتراب والفئران كانت أقوى مني.

فى هذه الليلة كانت واهنة وشاحبة، قبل أن يمشى أعطته منديلا أبيض خاليا من أية خطوط ودعت له: حرم الله عليك البكاء.

سأل نفسه: لماذا كل هذه المناديل؟!!

لما تراكمت عليه الهموم ذهب إليها إلا أنها كانت قد غادرت المكان.. كل الأماكن, السرير العالى كان نظيفا مرتبا كعهده به دائما إلا أن أعمدته النحاسية بدت باهتة ضائعة اللمعان، وكان على الوسادة منديل أسود موضوع باهتمام بالغ، أخذه ودسه فى جيبه. لما عاد إلى بيته جلس على سريره فتح الدرج، سحب منديلا وأخذ يبكى بكاءً مريراً.. نظر إلى المناديل المتراصة فى الدرج وبوجع أحس: كم هى قليلة كل هذه المناديل.

الرحيل..
فيصل الزوايدي (تونس)

يا الصابرونَ على الـهمِّ، ضاقَت عِندَ العُمر أُمنِياتـي، وذَاقَت نَفسي وَجَعَ الفَجائِعِ..

من جَنوبٍ كان الرحيلُ يومًا.. باردًا يومًا.. لكن لهيبًا ما يلفحُ وَجهـي، وشتاتٌ مُبعثَرٌ مِني تعبثُ بِهِ رياحٌ شتى، تقفُ أُمي عند عتبةِ البابِ وبيدها إناءُ ماءٍ لِتَصبه ورائي حتـى أعودَ إليها، وفـي عَيْنَيْها بريقُ ماءٍ آخر.. لَـم تَقُل شيئًا لكن تـمتمات تصدرُ مُبهمةً عن شَفَتَيْها، خـمنت أنـها أدعيةٌ بالـحفظِ والعودةِ.. أخي الصغير واقـفٌ حذوها بقميصهِ الـمتهدلِ وإصبعه تعبثُ بِأنفِهِ، ينظرُ بغرابةٍ إلينا، فهو لا يَـعلم بعدُ معنـى الرحيلِ.. مِنَ النافذةِ الـخشبية الزرقاء تُطل أختي وهـي تُلقي بيـن الـحين والآخر بنظراتٍ جزعةٍ إلى داخلِ الغرفة، هنالك أبـي على فراشٍ سقيمًا، مرضٌ داهـمَه فلازَمَهُ فأقعَدَهُ.. تـحسَّنت حالُــه قبلَ يومين فأخبرتُه بـموعدِ الرحيل، لَـم يقُل شيئًا لكني أحسستُ في صمتهِ الرهيبِ توسلا بالبقاءِ.. ومِن عَينَيْهِ اللتين تـهدَّلت عليهما الأجفان صَرَخ استجداءٌ مزلزلٌُ بعَدَمِ الرحيلِ.. ولكن أنّى لـي ذلكَ ولَـم أبلُغ فرصة السـفرِ هَذِهِ إلا بعناءٍ قد لا أستطيعُه ثانيةً.. كذلك الـحصولُ على تأشيرةِ سفرٍ إلـى البلاد التي أقصدُ ليس متيسرًا دومًـا.. ويـتَعَثَّرُ تدفق الـدم عَبرَ الشرايين فأدركُ أن اِنـخِسافَ الأرضِ بـمَن عليها ليس دائمًـا أشدَّ الـمَصائِبِ..

ارتفع صوتُ مُـحَرِّكِ السيارةِ الـمتوقفةِ أمامَ البـيت، فقد ضغطَ السائقُ على دَواسةِ البنزين لِيَستَحِثَّني، بابُ العربةِ مفتوحٌ يطلُبُني إلـى حياةٍ جديدةٍ.. حياة رسـمَتها أحلامٌ وأوهامٌ .. هنالك بعيدًا خلفَ سفرٍ طويلٍ إلـى أرضِ الوُجوهِ الشقراء والـمالِ الوفير والـمباهجِ.. ينفتحُ بـهدوءٍ بابُ منزلٍ مُـجاورٍ تـخرجُ مِنه فتاةٌ اتفقَت عائلتانا يومًا على تزويـجي مِنها فهي ابنةُ خالـي.. لـم تَكُن الفتاةُ قبيحةً حتى أرفضَها زوجـةً بل على النقيض مِن ذلك كانت من ذوات الـحُسنِ, خاصةً مَعَ ابتسامةٍ ساذجةٍ تُذكِّـرنـي كثيرًا بابتسامةِ أبيها الطيبِ.. لكني كُنتُ أرفُضُ ذلكَ الارتباطَ الذي يَشُدُّنـي إلى حياةِ البُؤس هنـا، تـمسَحُ أمي أنفَها بِطَرَفِ ردائِها وأَلحَظُ غيابَ أختي عن النافذةِ. يُصبِحُ التقاطُ الـهواءِ إلى صدري عمليةً أكثرَ صعوبةً، تذَكَّرتُ كلامَ أبـي الكثير عن كَونـي رجلَ الدارِ بعدَه فكنت أُجيبُه بأن أدعوَ له بطولِ العُمرِ فيُجيبُنـي: يَطولُ العُمرُ أو يَقصُر فلابد للإنسانِ أن يُقبَـر.. تداخَلَت الصورُ أمامي مِن صبـيٍّ أسـمرَ يَلهو عند مَشارِف الصحراء إلـى شُقرِ الوجوهِ فـي بِلادٍ ثلجيةٍ واختلطت الألوانُ فـي مزيجٍ غريبٍ، أفقـدُ كلامًا كثيرًا كان مِنَ الـمُمكِنِ قولـه فـي هذا الـمقامِ، فلا أجِـد مـا أقول فأصمتُ، لـم يَكُن للحظةِ ولا للزمنِ غـير معنى واحدٍ مُـختَلفٍ لا يعرِفُهُ الساعاتِِيّون.. وأخشى انفجارًا بداخلي فأُلقي حَقيبَتي الصغيرة على الـمقعدِ الـخَلفي وأهُـمُّ بإلقاءِ نفسي داخلَ السيارةِ ولَكن..

يسقُطُ إناءُ ماءِ على الأرض فقد كان ولدي الصغيرُ قد أوقع قدحًا من يَدَيْهِ.. تمامًا مثلما سَقَطَ إناءُ الـماءِ من يَدَيْ أمي يومَها عندما ارتفَعَ صوتُ أختي مِن النافذةِ الخشبيةِ الزرقاء بصيحةٍ مجروحَةٍ تُعلِنُ وقوعَ الفادحةِ..

تنحنـي زوجتي تُلَمْلِمُ شظايا القَدَحِ وتبتَسِمُ بطيبةٍ ساذجةٍ تُذَكِّرُنـي بخالي الطيب.

قصتان قصيرتان
د. محمد جمال طحّان (سورية)

يوميات فاضل الحلبي

في اليوم الأول بدا متحمساً مندفعاً باتجاه تطوير القرية، لذلك اجتمع بأعيانها مبدياً ترحيبه بكل الاقتراحات التي تفضي إلى خير قاطنيها.

في اليوم الثاني وسّع المختار الجديد دائرة الحوار واستمع إلى هموم الفلاحين والفقراء.

في اليوم الثالث انفرد بميزان القوى وحاورهم في ما يجب أن يكون، وعرف مواطن القوة والضعف في القرية.

في اليوم الرابع صار ملمّاً بمكامن الفائدة، وأدرك صعوبة التغيير.

في اليوم الخامس أبقى الوضع على ما هو عليه مؤثراً السلامة.

ولأن للمختار الجديد لمسات لابد منها، غيّر فاضل مواقع الحرس، وغيّر ختم المخترة، وفرض على أصحاب المحلات التجارية طلي أبواب متاجرهم باللون الفضي.

في اليوم السادس جلس يحصي عائداته وهو يدعو للقائم مقام بطول البقاء. في اليوم السابع استلقى في سريره يستمتع بعطلة نهاية الأسبوع وهو يفكّر، بعد كم من الوقت، تصبح القرية ملكاً له. في حين كان الناس يتناقشون حول التغييرات الممكنة، ويحلمون بتحويل قريتهم إلى مدينة حديثة.

مذكرات كرسي

-1-

يجيئني كل صباح شاتماً الذي قبله، مبيناً الفرق بينه وبين سلفه...ليست هذه هي المشكلة.

يوقع علي الأوراق، وعلى مسمع منّي تدور أحاديث النميمة، وتمر الرشاوى من أمامي...

أيضا ليست هذه هي المشكلة.

تزداد أوزانهم فوقي يوماً بعد يوم..أنا مصنوع لذلك عليّ أن أتحمّل. فقط، عندما يبدأ الجالس َعليَ، بالوعظ والحديث عن الأخلاق والقيم النبيلة واحترام القانون،أتمنى من كل قلبي أن يمنحني الله القدرة على إرادة الحركة الحرة كي أتمكّن من مباغتته ليهوي على الأرض.

-2-

كنا نتغامز عليه عندما يمر مختالاً وكأنه من سلالة الطواويس.

ولم يدر أحد منّا سر خيلائه مع أنه قصير القامة،قبيح الوجه...

النكات التي يلقيها علينا تحبّباً لم تكن تضحك أحداً، ولكننا كنّا نمثّل حالة القهقهة من ظرفه.

دعونا الله مخلصين أن يخلصنا من غلظته. حين استجيب دعاؤنا لم نكن نظن أن مديراً أكثر غلظة سوف يطلّ علينا من جديد.

ربما يداري المدير الجديد صلعته بالغناء، بحيث تعين علينا جميعاً أن نهزّ رءوسنا طربين من صوته الأجش.

حين كنا نلتقيه قبل أن يصبح مديرنا، كنّا نرى فيه ظرفاً ودماثة،فما الذي جعله قميئاً إلى هذه الدرجة ؟.

بعد سنوات،حين جاءنا المدير الثالث،الذي تسبقه سمعة عطرة، وبدأت رائحته النتنة تفوح، أدركنا أن السر يكمن في.. الكرسي.

-3-

في الحافلة.. في المقهى..في السينما..في مجالس النواب..والدوائر الرسمية، يتزاحم الناس كي يحظوا بي.. وحين يبدأ تبادل الكذب والنفاق بينهم يقولون: مجرد كرسي.

-4-

أنا أهم الموجودات هنا.. الطاولة.. المصباح.. الكأس..الساعة.. الميكروفون.. اللافتات..اللوحات.. الأوراق.. الأقلام..الماء.. الهواء. كلها لاتدانيني رفعة.. هل سمعتم بغير آية الكرسي؟.

الشجاعة
محمود بولفعاة (الجزائر)

كانوا ثلاثة صبية تفوح منهم عطور الحياة والقوة والإقدام , وتتراءى لهم الأشياء بمنتهى السهولة واليسر. وذات مرة كانوا يرتعون خارج المدينة بعيدين عن قيودها وأنظمتها، وهناك اكتشفوا أنهم يقفون فوق صفيحة كبيرة من المعدن، تكالبوا عليها يحاولون اقتلاعها ليتبينوا ما تحتها , وبعد عناء وإصرار استطاعوا ذلك، وما إن أزاحوها قليلا إنكفأ في فزع إلى الوراء أول من أنزلق بصره إلى أسفل , وهو يصرخ: يا إلهي «ميت».. فزعوا في بداية الأمر ثم تقدموا ببطء نحو الحفرة لم يستطيعوا مع شغفهم لرؤية هذا الميت الذي يرقد في الأسفل وجدوا، ولم يقنع اثنان منهم بالنظر من هناك واقفين فجثوا على ركبيهما حتى يقتربا أكثر , أما ثالثهما فوقف خلفهما ومال بجذعه وهو يردد: فلننج بأنفسنا يا أصحاب لقد اقترب الليل. كانوا في الظهيرة , أجابه أحدهما:... يا غبي لِمَ أنت خائف إلى هذا الحد, إنه ميت ألا ترى؟ إنه لا يقدر على إيذائنا انظر. إنه لا يتحرك.

ورموه بحجر وبدأ الخوف يتلاشى رويدا رويدا وهم يتفحصونه بأعينهم المتسائلة حتى استحال خوفهم، فيما بعد، إقداما وتنافسا وإبرازا للرجولة, تمثل تنافسهم في من يستطيع النزول إلى الحفرة ولمس عظامه , وأضاف أحدهم في بطولة وتباهٍ: بل ويجلب معه عظمة منها.

ودون توان صرح من نصحهما بالهروب أنه لن يقدم على فعل ذلك إلا إذا أصابه الجنون، وبقي الاثنان الآخران يتنازعان , كل واحد يود أن يكون ثاني من ينزل إلى الحفرة، وكأن الأول سيكون فأر تجارب لمن بعده، أما ثالثهما فقد اقترح إجراء قرعة. ورست القرعة على أحدهم، فغدا المسكين كالعصفور المبلل، وراح يحاول عبثا أن يخفي ما به من خوف بإبداء بعض الشجاعة والإقدام، ولكنه لم يجد مهربا من الإذعان والنزول حتى ولو كان فيهما هلاكه, وبما أن الحفرة بعمق ما يربو عن المتر فقد طلب منهما أن يمسكاه من رجليه وينزلاه رويدا رويدا ففعلا على الفور في جدية يشوبها الكثير من الشغف والفضول.

نزل بحذر على يديه وعيناه مثبتتان على جمجمة الميت وفجأة أخذ يصرخ في فزع لأنهما أسرعا في إنزاله, فثبت يديه في جدار الحفرة الترابي وهو يطلب إليهما في صراخ التأني في ذلك , وبعد قليل كان رأسه تماما بمحاذاة الجمجمة التي تشيح عنه بوجهها، وما إن مد يده لجلب عظمة كانت قريبة من الجمجمة حتى إلتفت إليه الميت بطريقة مفجعة وصارا وجها لوجه, صرخ وحاول أن يصعد بيديه بالطريقة التي نزل، غير أن صاحبيه تركاه ولاذا بالفرار , فسقط في الحفرة ثانية وقد اختطف عقله وقارب الجنون، وما زاد الموقف سوءا هو أن الميت لم يكف عن الذهاب برأسه يمينا ويسارا وكأنه يود لو افترسه, ولا أستطيع أن أصف لكم كيف استطاع الخوف أن يجعل من الصبي قذيفة خرجت من باطن الأرض وأخذت تطوي الأرض طيا أمامها في سرعة رهيبة , ووصل إلى البيت في حالة هستيرية تبعث على الألم حتى أن أهله أيقنوا بجنونه, ولولا أن حفظ الله كان له عونا لما نجا بعقله.

لم يصدق أحد زعم الصبية بأن الميت قد تحركت جمجمته فعلا وحسبوه خيالا صبيانيا لا أكثر, ولكن الجميع بمن فيهم الصبية أنفسهم فاتهم أن هناك «عظاء», كانت مختبئة داخل الجمجمة وما إن اقتربت منها يد بشرية حتى فزعت وحاولت الخروج منها على غير هدى , فحدث كل ما حدث.

قاتلة على الهواء
كُليزار أنور (العراق)

لقد قتلتهُ وأمام أنظار ملايين المشاهدين.. هكذا بكل هدوء.. وأقفلتُ الخط.

***

كل البدايات رائعة وجميلة وهادئة ورومانسية وحتى صادقة، لكن العبرة بالنتائج!

شعرت بلحظة أن المكان ارتفع بي سابحاً في الفضاء الواسع عبر الأثير .

دخل حياتي بتخطيطٍ مسبقٍ منه.. كنتُ حُلماً غير قابل للتصديق في خياله، وعندما اقترب مني بموعدٍ هيأهُ له القدر ما صدق أنهُ أمامي.. تلعثم بالكلمات.. احمر وجهه وتفصد جبينه وتعرق جسده إلى درجة أن تبلل قميصه الأخضر. ما علِمتُ نواياه.. أراد مني حواراً في حينها.. أجبته بكل برود:

- هيئ أسئلتك.

تألقت عيناهُ بالسعادة وهو يسمع موافقتي على إجراء الحوار.

- لم أكن أتوقع أن ألتقي بكِ يوماً رغم أننا نعيش في نفس المدينة.

ابتسمتُ له وحددتُ موعداً. التقينا في مكان عملي وأمام الناس.. جلسنا في الكافيتيريا لمدة نصف ساعة.. وضع جهاز التسجيل على الطاولة.. وبدأ الحوار الذي نُشر وبالصور الملونة في إحدى المجلات العربية.

هكذا كانت البداية.. ولقاءاتنا دائماً متباعدة وبمحض الصدفة.. وذات يوم أفهمني أنهُ لا يطيق البعاد عني ولا قيمة لدنياه إن لم أكن فيها.. وفاتحني برغبته في الارتباط بي. فاجأني ما توصلَ إليه، وأسعدني أيضاً.. وماذا تريد المرأة أكثر من أن تجد رجلاً يحبها ويحتويها.. مواصفاتهُ مناسبة لي.. شاب يكبرني بأعوام قليلة، مثقف، مهذب، صاحب شهادة وطبع إنساني راقٍ.. فوافقت.

حينما وقفنا أمام القاضي ليعقد قراننا.. سألني:

- ما مُقدم صداقكِ؟

فأجبت بهدوء:

- هو.

رفع القاضي رأسه مبتسماً ومستغرباً جوابي، فسألني:

- ومُؤخركِ؟

- هو وضميره.

اتسعت ابتسامتهُ.. ووضع القلم جانباً وعاد بظهره إلى الوراء متأملاً جوابي الغريب، ووَجّه كلامهُ لأبي الموجود معي وخطيبي:

- أنا قاضٍ منذ أكثر من خمس وعشرين سنة ولأول مرة أقف محتاراً أمام جوابٍ عجيبٍ كهذا.. وحَوّل نظره نحوي مُتسائلاً عن عملي، فأجابهُ والدي:

- أديبة.. حضرة القاضي.

- كنتُ متوقعاً ذلك.

هز رأسه ووَجه كلامه لخطيبي:

- ضعها في عينيك وقلبك، فصعبٌ أن تجد امرأةً مثلها.

تزوجنا بعد أسبوع وقضينا شهر العسل في ربوع الشام.. وكأنها ضرباتُ أزميل تطرق في أُذني هذه الكلمات: أُحبكِ.. أُحبكِ.. أُحبكِ. وأصبحَ حضوره وحده كفيلاً بغياب كل الأشياء من حولي. وقد ظلت ذكرى تلك الأيام عالقة -إلى الآن- في خاطري وتفكيري.

عدنا إلى البلد.. وبعدَ أشهر انكشفَ لي عن طبعٍ ساديٍ لم أكن أتوقعهُ منه نهائياً..من الخارج شيء ومن الداخل شيء آخر.. تحولت حياتي معه إلى جحيمٍ لا يطاق.. كان يعاني من ازدواج الشخصية، تارةً أحزن عليه لحد البكاء وتارةً أُريد الخلاص بأي ثمن حتى ولو بالابتعاد عنه.. ويا ليت المرض وحده السبب الحقيقي لَكُنت رضيت وبررت استمراري معه محتملة بقناعة زوجةٍ ابتلاها القدر بمصابٍ ليسَ بيديها ولا بيديه.

صبرتُ على أخطائه، لكن.. إلى متى؟! وتساقطت كل أوراق الحب ذابلة صفراء أمام هبوب رياح خيانته.. عاتبته.. وتدحرجت دمعات على خدي.. مسحها بأطراف أنامله:

- ثقي أنتِ وحدكِ دخلتِ القلب.

- وهل هذا يكفي.. القسوة التي رأيتها في عينيك علمتني معنى العدل بحق نفسي.

ما عدتُ أحتمل.. وكما دخلت حياته خرجت منها بسلام.. اعترض في البداية، لكنهُ خضع لرغبتي حباً فيّ كما ادعى. لا أنكر أني تعلقت به كثيراً.. والفراق الذي اخترته أنا حفر ندبة عميقة في قلبي.. ندبة مازالت تنز بالدم كلما تذكرت أيامي معه. عجلة الزمان دارت من جديد لتكمل مسارها الطبيعي.. عدتُ لعملي وكتاباتي بنضجٍ أكبر وأعمق، فالتجربة أساس الإبداع الحقيقي. ولم يبقَ منه سوى الذكرى وبكل ما فيها من فرح وألم وحزن ودموع.

ولكونه صحفيًا كان من السهل أن يعمل في إحدى الفضائيات مقدماً لبرنامج تلفزيوني اسمه (الجسر) كل حلقة منه تتحدث عن موضوع مستقل من مواضيع الحياة العديدة. وبالصدفة حولت على هذه القناة.. ورأيته أمامي مُرحباً ببداية حلقة جديدة من برنامجه.. ويدور محور الحلقة عن الذكريات.. كان يتحدث وكأنه فيلسوف زمانه.. لا أستغرب، فهو شاعر.. وشعره مثل الغيوم لم تكن تمطر منها سوى الكلمات! وجاءته اتصالات كثيرة، كلٌ يُبدي رأيهُ بالذكريات الحلوة والمرة.. ذكريات الوفاء والخيانة.. ذكريات نريد أن ننساها، وذكريات مثل الورد يبقى عبق شذاها وإن ذبُلت، فللذكرياتِ رائحة عذبة كرائحة مطر تمر فوق التراب.

وسألت نفسي: يا ترى ماذا بقي من ذكرياتي في قلبه؟ بشكلٍ لا إرادي أخذتُ الهاتف واتصلت بالرقم الظاهر أسفل الشاشة. وجاءني صوته:

- نعم.. مَن معي؟

- ورد.

مجرد أن ذكرتُ الاسم تغيرت ملامحه.. ياه.. كم الذكريات قاسية.. إنها تذبح في الحال.

- نعم.. ورد تفضلي.

إذن.. عرفَ صوتي.. قالها بصوت مرتجف.. ربما سأل نفسه: أهي ورد فعلاً؟ كيف لا.. وهل نسي صوتي! أستعيد في ذهني رأيه بي وتعليقه على صوتي: إنهُ أعذب صوت في الدنيا.. وإنهُ يميزه من مليون صوت.

رأيتُ الذهول في عينيه.. صرفَ نظرهُ عن الكاميرا -عني- خشية شيءٍ في نفسه.. يصمت حزيناً وبدا ساهماً للحظة.. هل يا ترى تسترجع ذاكرته صور ما كُنا عليه قبل سنوات؟ وتراه يسترجع الذكريات ذاتها! هل وصلهُ صوتي ضربة مفاجئة ومحطمة؟! خوفٌ طفيف اعترضَ وجهه المبتسم للشاشة وطافت عيناه عاجزتين وهو يحاول الإمساك بشيء تمناه.. هل نسيَ أنه على الهواء؟! لنُشعل فتيل الذكريات بين أيدينا.. ونرى مَن ستحرق أولاً!

كل الألوان تعاقبت على ملامحه.. وفجأةً انقطع البرنامج الذي كان بثهُ مباشراً!

***

بعدَ أيام قرأنا في الصحف خبراً مفاده: «توفي المذيع (فلان الفلاني) إثر نوبة قلبية أثناء تقديم برنامجه الأسبوعي (الجسر)».

الآن فقط.. ارتحت، فقد استطعتُ أن أنتزع جذوره من أرض نفسي!!.
-----------------------------------
* شاعر وناقد من العراق.

 


جمعة اللامي