واحة العربي محمد مستجاب

واحة العربي

القـط
الأليف الجميل الأنيس، والمطارد الدائم لفيران العالم.

انتبهت - فجأةً - أنني لم أكتب عن القط، مع أنه كان في ذهني من بدايات التخطيط لهذه الموضوعات، وكلما اقتربت منه خمشني بمخالبه المستورة في قدميه، إنها استثارةٌ لعصره القديم الذي وضعه فيه علماء الأحياء جنبًا إلى جنب مع الأسد والنمر والببر والفهد، إنها عائلة القط، الذي - خروجًا على توحش أقرانه أبناء العائلة الواحدة - سيظل الأنيس الجليس ذا الدم الخفيف، والذي أيضًا لديه قدرة فائقة على التراحم والتواؤم مع البشر، وأي أمن أحسست به حينما كان ينسل قط الشتاء بين طيات فراش طفولتي وهو يتناغم بالهرير الدافئ، حتى ولو طافت حوله وساوس واتهامات لكونه لصا منزليا خالصًا، ومحبوبًا أيضًا، مع أنه لا يحب هذا التضامن (الذي يقوم به الكلب) مع أهله وأصحابه ضد الغرباء، إنه يريق الود على كل من في المنزل، قد يتردد لكنه لا يتوانى أن يشمشم فيك ثم يصعد إلى حجرك، ليتيح لك فرصة تمرير أصابعك بين شعر رأسه ورقبته - في أولى دقائق زيارتك الأولى للمكان، ويمكنك أن تحيق الأذى بأصحاب القط فينزعج من القسوة ويهرب، ولا يحاول أن يكون شجاعًا ولو مرةً في حياته، إنه جبانٌ جميل وأثيرٌ للبشر، حتى إنه بز الكلاب في التآلف الإنساني الدافئ، دون أن يكون في هذا التآلف أي وفاء، حتى أنه من كثرة تراحم القطة بأولادها فإنها تأكلها خشية وقوعها في القسوة والتعذيب.

وللقط موضع مهم في الذاكرة الإنسانية خلال سريانها عبر العصور، ولا تزال أقوام تداوي مريض الحمى بتناول لحم القط (أكلته مرةً وأنا دون الثامنة من عمري)، كما أن كثيرًا من شياطين الزار تكمن أيام التعطل في أجساد القطط، وتستثار هذه الشياطين حين تتأجج حلقات الزار بخبط الطبول الضاجة باسم (بس)، ومعروف أن في مصر القديمة كان ثمة إله هو (بس) ويرمز إليه بالقط، وهو اللفظ الذي ينادى به هذا الحيوان اللطيف حتى اليوم، كما أن حالات الجذام التي تتآكل فيها الأطراف كانت تعالج بدم القط، يراق فوق الطرف المصاب ثم يتم رباطه بغطاء من جلد القط المنزوع قبل أن تداهمه برودة الاغتيال.

وللقط دور كبير في مرحلة اعتقادات تناسخ الأرواح التي مرت بالشرق القديم، سوف أختصرها لك في حكاية إحدى قريباتنا، فقد أنجبت طفلين توأمين، رحل واحدٌ وبقي واحدٌ، ورأيتها -بنفسي- وهي تحتضن قطا بمبالغة في الاحتضان معتقدة أن روح وليدها الراحل قد احتلت جسد هذا الحيوان، ولم يكن ذلك مفاجئًا لي، إنما الأخطر هو ما تعتقده أيضًا من أن الوليد الباقي حيا، تتلبسه روح قط ليلًا وذلك ليتمكن من أن يسرح مع أخيه، ولتثبت ذلك قامت إلى رقبة ابنها وكشفت عنها لنرى أثر خرابيش القطط المتشاجرة معه ليلًا، كان واضحًا أن الجميع كانوا يمعنون في الرقبة المخربشة من أثر كثرة تعريتها وتغطيتها، تكاد تكون ملتهبةٌ من السحجات.

وأخطر أنواع القطط هو الذي يطلقون عليه في القرى : النفور - أي النافر الهارب في الحقول والمراعي - وربما يكون هو (السنور) ومشهور بالشراسة والحياة وحيدًا، يقطع الطريق على الأفراد دون الجماعات ويحيق بها الأذى، وقد اختفى هذا النوع واندثرت معه حكاياته التي كانت مزدهرة أيام طفولتنا، وهو نوع من أنواع عديدة تشمل القط الشيرازي وقط بورما المقدس والقط الرومي، وكلها تتميز - كما هو معروفٌ - بقدرتها الفائقة على الشم والرؤية ولا سيما في الظلام، وفي معابد التبت هناك القط الذي يحوز التقديس - كالقط الفرعوني وقط بورما.

وأكثر القطط ألفة وونسا (أو أنسًا) القط السيامي بلونه الذي يشابه الغيوم لحظة غروب الشمس، ولعل ميزته الكبرى أنه يتعود سريعًا على العادات الراقية في النوم والأكل والنظافة، حيث تخفت عنده عادة اللصوصية أو التطفل على الموائد أو المواء المقلق عند تجهيز المائدة، كذلك فإنه مما يريح ربة البيت أن هذا النوع من القطط يألف استخدام أركان دورات المياه أيضًا، وليس من بينها النوع الأسود الذي يمثل الشبح الشرير القادر على القفز فوق الموائد وبين الأطباق وعلى الأسوار وبين شواهد المقابر وفي الأركان الخربانة، والذي صوره - في أجمل القصص - إدجار آلان بو، والذي منه نوع لا يحب رهبان الأديرة المنقطعون رؤيته لأنه ممسوس من الشيطان، ويتشاءمون من موائه ومن رؤيته ومن محاربته في نفس الوقت.

تكره القطط الكلاب، وفي حالات تحتاج إلى جهد تمكن البعض من توليف قط معين على كلب معين دون بقية القطط والكلاب، لكن الغرام الأكبر للقط هو اصطياد الفأر، وكل الدنيا : شعوبًا وقوميات مختلفة يكون همها الأول الاستخدام الأمثل للعداء بين القط والفأر، والذي فعله والت ديزني أنه استقطع ميكي ماوس ليصنع له عالمًا سينمائيا كارتونيا فريدًا ومستقلا، فجاءت مؤسسات أخرى لأفلام الكارتون لتقيم عالمًا دراميا مرحًا ومسليًا عن العلاقة بين القط والفأر: "توم" و"جيري" لكنها جعلت الفأر - بصفته المطارد - ذكيا، وجعلت من القط الذي يقع في أحابيل الفأر: غبيا.

والأدب عمومًا لا يحفل كثيرًا بالقط إلا بصفته نديمًا للمنقطعين والعوانس، في حين أن هانز كريستيان أندرسن الدانمركي، وكامل كيلاني المصري استخدما القط في بعض قصصهما بصفته حيوانًا طيبًا يحمي الأطفال ويحول بينهم وبين شر الفئران والثعابين وذوي الضمير الميت، وبعدهما قام كثيرون معاصرون بالاهتمام بالقط، ابتداءً من المناهج الشهيرة للمدرسة الابتدائية (قطتي صغيرة - واسمها نميرة) وانتهاء بالموجة العارمة - حاليا - والتي توسع فيها التأليف لأدب الأطفال تلبية لدعوة كبار المسئولين والمنظمات الدولية المختلفة.

 

محمد مستجاب

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات