جمال العربية فاروق شوشة

جمال العربية

البـلبـل
شعر: فهد العسكر

هذا شاعر سبق عصره وجاء قبل أوانه بعشرات السنين. فكان اصطدامه العنيف بمجتمعه الكويتي : تقاليد وأوضاعًا اجتماعية وثقافة حياة. ولم تكن صرامة الواقع وجهامته الغليظة لتسمح له ببعض الحرية، أو بالتعبير الصريح عن الذات، من هنا كان انكفاؤه وتوحده، ثم انعزاله ولزوم محبسه الذي اختاره لنفسه. بعد أن اتهم بالكفر والمروق والعصيان. وعندما هيأت له الأقدار فقدان البصر، ظل وخز بصيرته يدميه، ويؤلب عليه جيوش الظلام الموغل، حتى وافته المنية في عام 1951 قبل أن يكمل عقده الرابع وسنه نيف وثلاثون، وتكفل أهله بخاتمة الفجيعة حين أحرقوا ما وقع تحت أيديهم من شعره، الذي أفلت منه أقل القليل.

وفي هذا القليل من شعر شاعر الكويت الفذ فهد العسكر دلائل على عبقريته وتفرده، واتساع عالمه الشعري ورحابته، وعمق تناوله لتجارب الوجود الإنساني وارتطامه بمعضلة المصير فضلًا عن لهيب الثورة والتمرد في قصائده التي هتف بها بعض مؤيديه جهرًا ورددها معظم مريديه سرا، وتبادلها المجتمع كله من موقع الدهشة والغرابة أو النفور والاستنكار.

ولم يكن فهد العسكر بعيدًا عن حركات التجديد الشعرية التي صبغت سماء الشعر في ثلاثينيات القرن وأربعينياته بألوانها وظلالها وإيقاعاتها وتجاربها الشديدة الجدة والاختلاف. وفي مقدمتها شعر المهجر وشعر جماعة الديوان وشعر جماعة أبولو. لذا، فإن شعره يتسم بعمق النزعة الوجدانية -الموغلة في التأمل والاستيطان- التي تبنتها جماعة الديوان ممثلة في روادها الثلاثة : عباس محمود العقاد وإبراهيم عبدالقادر المازني وعبدالرحمن شكري ، كما يتسم شعره بشمول النزعة الإنسانية التي تبنتها جماعة المهجر ممثلة في آثار جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وإيليا أبي ماضي وأمين الريحاني وشفيق معلوف، فضلًا عن النزعة العاطفية المسرفة التي اتسمت بها أشعار جماعة أبولو ممثلة في شعر إبراهيم ناجي وعلي محمود طه ومحمود حسن إسماعيل ومحمد عبدالمعطي الهمشري وغيرهم وهي نزعةٌ أطلقت العنان للخيال المجنح، وتدفقت روافدها بالحزن الشديد والتشاؤم العدمي، واتسعت في الكثير من نماذجها لغنائيات الطبيعة. خاصة في صورتها الريفية رمزًا للنقاء والبراءة. وأصبح لأصوات الطبيعة وكائناتها الحية وجود شعري بارز، حافل بالدلالات والرموز والإيحاءات.

كان فهد العسكر ثائرًا ومجددًا في مجتمع ساكن آسن، وكان مستقبليا في حياة ترتد إلى الوراء وتجمد عند اللحظة الحاضرة في ثبات وتحجر، وكان ينفخ من روحه الوثابة في قصيدته الجديدة بما يصدم عقول الناس وأذواقهم، وكان يبدع قصيدة الصدق وسط حياة أدبية تملؤها قصيدة الزيف والصنعة والتقليد، ويحطم القيود التي كبلت أرواحًا استسلمت للعبودية واستكانت للرق.. وهو بهذا المعنى شاعر فيلسوف تنساب ومضات فلسفته في شعره وتختفي وراء أقنعة الرمز والإيحاء، ويتطلب التواصل معها قراءة متأنية فاحصة تكافئ ما بذله الشاعر في شعره من جهد إبداعي، وما رسمه من صور شعرية جديدة مركبة، وما بثه من إيقاعات داخلية تواكب حركة النفس، وتوائم جو القصيدة وطقسها الأساسي، بينما فضاء القصيدة مفتوح دومًا على آفاق الدهشة والتساؤل.

وتقدم قصيدة البلبل للشاعر فهد العسكر نموذجًا مكتملًا لشعره في سمته الوجداني، المكتسي طابعًا رمزيا، يفضي بقارئ القصيدة إلى قراءتها على مستويين : المستوى الوصفي الخارجي باعتبارها قصيدة تتناول البلبل. طائر الشدو والغناء. وهو يتأمل حركة الفصول من حوله. ربيعًا وخريفًا وشتاء. وينطلق بالغناء حين أحس حنو الربيع عليه، كأنه الطفل يناغيه مربيه، فيالسعادته وسعادة أفراخه في عش آمن وحياة رخية ناعمة، والمستوى الرمزي الداخلي باعتبارها قصيدةً تتناول الشاعر نفسه. رامزًا لنفسه بالبلبل. فهو يتقلب بين الذكريات والأحلام وبين الرؤى التي تخايله. انطلاقًا وتحليقًا. ومرارة الواقع الأليم.

هذا المدى المتسع لثنائية القلق والاضطراب، هو عالم هذه القصيدة المترامي وحدودها المبسوطة للنظر والتأمل. وهي ثنائيةٌ من شأنها أن تفجر حركة دائبة نشطة، وقبضًا وانبساطًا، كأنها حركة قلب يضخ الحياة في الشرايين لكن ترى : أية حياة هي وأي مصير؟

فهد العسكر رسام ماهر، ومصور بارع. ريشته قادرة على تجسيد الخط واللون. ومعجمه اللغوي يتناثر على صدر لوحته موحيًا دالا في غير تكلف أو عناء، الخريف ترتبط صورته ووجوده بالموت وأنات المحتضر والشكوى من المعاناة والشجو والبكاء والأعواد المبعثرة والهشيم الذي يواري الأماني، وهو خريف له صراخ يثير الذعر بينما الريح تزفر، وكأنما الشاعر. وسط هذا المشهد الفاجع. متهم لم يجن ذنبًا أو مريض لم يبل بعد من مرضه، أو فطيم رأى ثديًا فصاح يطلبه ولكن هيهات !. وحين تمتلئ اللوحة بموكب الربيع تطالعنا على الفور ألوان أخرى وأصداء وظلال، النسائم نشوى والروض أطياب والطير أسراب، والأنغام أين منها أنغام داود وبعيد، والروح تهفو والقلب يرشف والفن يترنم والدوح مبتهج والفجر خمار والربيع أم رءوم تحنو على الشاعر الذي كأنه طفلٌ يناغيه مربيه!

أي فرح يموج في النصف الثاني من القصيدة وأي انطلاق ؟

وأي انعتاق من الأسر، يضفي عليه الشاعر من روحه ومن إبداع ريشته المصورة، ما يتجاوز به عالم الطير. ونموذجه البلبل، ليصبح عالم الإنسان. ونموذجه الشاعر. هو المقصود بهذه الحركة الشعرية اللافتة، وهذه الصور الحية المتنامية، وهذا الجيشان الموسيقي. عناق بين موسيقى داخلية وخارجية. ينسكب على أبيات القصيدة وكأنها أوتار تعزف في حركة دائبة لا تتوقف، وإيقاع صاخب لا يفتر ولا يهدأ! وهذه القافية الهائية برويها الشجي، يسبقه حرف المد، وكأنها ترجيع بكاء أو نهنهة نشيج، تشارك بدورها. من موقعها الحاسم في ختام كل بيت. لتحدث الأثر الذي يرتد على البيت كله. شجوا وانعطافًا. وتهيئ النفس. لا مجرد الأذن. لوقع البيت القادم ونهايته الباكية الممتدة كالرجع الأسيف.

إن قصيدة البلبل لفهد العسكر تمنح قارئها من آثار تقلب وجهي الحياة الكثير، وتعتصر نفسه بلغتها المحكمة الآسرة، وقبض حجمها الشديد التركيز والسيطرة. وهي جديرةٌ بأن يتأملها القارئ في ضوء أكثر سطوعًا حين يدرك أن الشاعر نشرها لأول مرة في مجلة الكتاب التي كانت تصدر عن دار المعارف بمصر في شهر فبراير عام 1949وكان الشاعر محمود حسن إسماعيل قد نشر قصيدته الطويلة عن الغراب والتي سماها راهب النخيل قبل ذلك بسنوات ووضعها في ديوانه الثاني هكذا أغني وهي بدورها قصيدةٌ رمزيةٌ لا يخطئ قارئها التعرف على سمت الشاعر نفسه وحقيقة خلجاته وقسماته بين ثنايا كلماتها وبناء هيكلها الباذخ، خاصة حين يقول قرب ختامها:

أحاجيك.. ما طير على النيل شارد

جفته عشاش في الحمى ومعابر

يرف على الأكواخ تدمى نشيده

أماس صريعات المنى وبواكر

تغنى طويلًا بالأسى في ظلالها

فغصت بأنات اللحون الحناجر

حتى نصل إلى قوله:

أجبني على أحجيتي وانض سرها

فإن لم تكشفه فما أنت شاعر

فقلت: أنا الطير الشريد، وهذه

بلادي يشقى في حماها العباقر

أعيش بها استمرئ الحظ صدفة

كما عاش من سفي البيادر طائر

فلا الحظ واتاني، ولا اليأس صدني

كأني على خضر الروابي مقامر !

كما كان عمر أبو ريشة الشاعر السوري قد نشر قصيدته بلبل قبل قصيدة فهد العسكر بخمس سنوات، وهي التي يقول في مستهلها:

حلم تخلى عنه في رغده

هل يقدر النوح على رده؟

لو يعلم الصياد ما صيده

لم يجعل البلبل في صيده

كما كان الشاعر اليمنى محمد محمود الزبيري قد نشر قصيدته البلبل في فبراير عام 1946، ويقول في مستهلها:

بعثت الصبابة يا بلبلٌ

كأنك خالقها الأول

غناؤك يملأ مجرى دمي

ويفعل في القلب ما يفعل

سكبت الحياة إلى مهجتي

كأنك فوق الربى منهلٌ

ثم يقول الزبيري:

نكبت بما نكب العاشقون

وحملت في الحب ما حملوا

هدؤك في طيه مرجل

وريشك من تحته مشعل

خفيف على الغصن لكنما

فؤادك من لوعة مثقل

فهل كان فهد العسكر في بلبله بعيدًا عن هذا كله؟ أم أن الموقف الشعري المتماثل لعدد من شعراء النزعة الوجدانية المتأملة. ورثة الديوانيين والمهجريين والأبوليين. هو المسئول عن هذا القدر من التشابه والتماثل، والتقارب في الرؤية والتناول والمزاج؟ فضلًا عن دلالة هذا الموقف على وحدة شعورية ووجدانية عاشها جيلٌ من الشعراء العرب. إبان الأربعينيات. كانوا خلالها قياثر صادحة بالشجو والأسى، والثورة والتمرد، والقنوط والانكسار...

والآن مع قصيدة فهد العسكر:

ولهان ذو خافق رقت حواشيه

يصبو فتنشره الذكرى وتطويه

كأنه وهو فوق الغصن مضطربٌ

قلب المشوق وقد جد الهوى فيه

رأى الربيع وقد أودى الخريف به

بين الطيور كميت بين أهليه

فراح يرسلها أنات محتضر

إلى السماء ويشكو ما يعانيه

لا الروض زاه ولا الأكمام باسمة

ولا عرائسه سكرى فتلهيه

يجيل ناظره فيه ويطرق في

صمت فيشجيه مرآه ويبكيه

ماذا رأى غير أعواد مبعثرة

علي هشيم به وارى أمانيه

فللخريف صراخ فيه يذعره

والريح تزفر في شتى نواحيه

حيران ما انفك مذهولًا كمتهم

لم يجن ذنبًا ولم ينجح محاميه

تطل من كوة الماضي عليه وقد

أشجاه حاضره أطياف ماضيه

يرنو إليها كما يرنو المريض وما

أبل بعد، إلى عينى مداويه

فيستمر نواحًا كالفطيم رأى

ثديًا فصاح وأين الثدي من فيه

وإن غفا راحت الأحلام عابثة

به فتدنيه أحيانًا وتقصيه

وكم تراءت له من خلفها صور

يختال فيها الربيع البكر في تيه

فيستفيق فلا الأغصان مورقة

كلا ولا السامر الشادي يناجيه

فيسكب اللحن أنات يغص بها

ويح الشتاء فما أقسى لياليه

 

فاروق شوشة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات