أزمة الغذاء وتغيير المناخ والرأسمالية المتوحشة.. أحمد الشربيني

أزمة الغذاء وتغيير المناخ والرأسمالية المتوحشة.. أحمد الشربيني

لا توجد قضية يتجسد فيها قبح عالمنا في القرن الواحد والعشرين مثل قضية أزمة الغذاء العالمية وارتفاع أسعار الغذاء. ففي عالم متخم بالغذاء والسلاح يعاني أكثر من ثمانمائة مليون إنسان الجوع، إلى جانب مئات الملايين الآخرين الذين يعانون سوء التغذية، بينما أنفق عام 2006 ما مقداره 1200 مليار دولار أمريكي على الأسلحة، في حين قد تصل قيمة الغذاء المُهدَر في البلد الواحد إلى 100 مليار دولار، بينما يبلغ الاستهلاك الفائض المسبِّب للبدانة في العالم 20 مليارا. وفي الوقت نفسه تشتكي منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) مر الشكوى من أنه يتعذّر على المجتمع الدولي تدبير 30 مليار دولار سنويا لكي يصبح في إمكان 862 مليون جائع التمتع بأبسط وأول حقوق الإنسان: أي الحقّ في الغذاء، وبالتالي الحقّ في الحياة.

إنه عصر الرأسمالية المتوحشة التي لا تعبأ بغير الربح وتتعامل مع شعوب البلدان الأفقر باعتبارهم أشياء لا بشر. ولنتذكر الوعد الجليل الذي قطعه مؤتمر القمّة العالمي للأغذية العام 1996، لخفض عدد الجياع في العالم إلى النصف بحلول العام 2015، والذي لا يتحدث عنه أحد الآن. وبالرغم من انقضاء أكثر من عقد من الزمان، فإن الموارد المالية لتمويل البرامج الزراعية في البلدان النامية لم تظل بلا زيادة فحسب، بل وسجلّت أيضا تراجعا كبيرا منذ ذلك الحين.

وتواجه بلدانٌ كثيرة تحديا مزدَوجا إزاء الزيادات الحادة في أسعار الأغذية وأسعار الوقود، على نحو يهدّد الاستقرار الاقتصادي على نطاق واسع لديها والنمو الكلي لتلك البلدان. أمّا المجموعات الأشد تضرّرا فهم فقراء المدن من مشتري المواد الغذائية وكذلك سكان الريف غير المنتجين للأغذية ممَن ينفقون جزءا كبيرا من دخلهم على الغذاء.

وتشير بيانات الأمم المتحدة إلى أن هنالك 22 بلدا مهددة بالخطر على نحو خاص من جرّاء عوامل عدة تتمثل في ارتفاع مستويات الجوع المزمن لديها (بما يفوق 30 في المائة من المصابين بسوء التغذية)، ولكونها مستوردة كليّة للأغذية والوقود. ويُعد كل من إريتريا، والنيجر، وهاييتي، وليبيريا من البلدان الأشد تضررا بوجه خاص.

ويمكن للزيادات في الأسعار المحلية، حتى وإن كانت بمعدلات معتدلة (تتراوح بين 10 و20 في المائة)، أن تخلّف آثارا سلبية فورية في حالة الأسر الفقيرة التي تنفق جزءا كبيرا من دخلها على الأغذية الأساسية. ووفقا لتقديرات الأمم المتحدة، فقد بلغ عدد الجياع في العالم خلال الفترة 2002- 2004، 862 مليون نسمة من بينهم 830 مليونا في البلدان النامية وحدها.

ومن مفارقات عصر الرأسمالية المتوحشة أن أحدث تنبؤات الفاو لإنتاج الحبوب في العالم العام 2008، تشير إلى ناتج قياسي يقدَّر حاليا بنحو 2192 مليون طن، بزيادة إضافية نسبتها 3.8 في المائة عن العام 2007، وبالرغم من مستويات الإنتاج القياسية من محاصيل عديدة، فإن توقعاتها تشير أيضا إلى استمرار الارتفاع القياسي غير المسبوق في الأسعار خلال الفترة نفسها بسبب تأزُم حالة الأسواق.

وتشير توقعات الفاو أيضا إلى أن فاتورة الواردات الغذائية لبلدان العجز الغذائي ذات الدخل المنخفض «LIFDCS» من المتوقع أن تبلغ 169 مليار دولار العام 2008، أي بزيادة مقدارها 40 في المائة مقارنة بالعام الماضي. وتَصف المنظمة هذه الزيادة المتواصلة في حجم الإنفاق على الواردات الغذائية للمجموعات السكانية المهدّدة لدى البلدان ذات الشأن بأنها «تطورٌ مثيرٌ للقلق»، بينما تُفيد بأن تكاليف سلّة الواردات الغذائية السنوية لهذه البلدان قد تسجِّل ارتفاعا مقداره أربعة أضعاف الإنفاق المخصص للغرض نفسه العام 2000، ولم يزل متوسط الأسعار للأشهر الأربعة الأولى من العام الجاري أعلى بنسبة 53 في المائة مقارنة بالفترة نفسها في العام السابق.

في الكلمة التي ألقاها المدير العام للفاو جاك ضيوف في القمة العالمية للغذاء التي عقدت أخيرًا في روما، ذكرنا الرجل بأن حوالي 24 مليار دولار كانت مطلوبة لتمويل برنامج التصدي للجوع، المُعدُّ لمؤتمر القمة العالمي الثاني للأغذية عام 2002، لكن خلال الفترة من 1980 إلى 2005 هبطت المعونة المقدمة للزراعة من 8 مليارات دولار (2004 كأساس) في عام 1984 إلى 3.4 مليار بحلول العام 2004، أي ما يشكّل انخفاضا بالقيمة الحقيقية مقداره 58 في المائة. وما لاحظه أيضا أن حصّة الزراعة في المساعدات الإنمائية الرسمية تراجعت من 17 في المائة عام 1980 إلى ثلاثة في المائة العام 2006.

والحقيقة أنه على جبهة أزمة الغذاء العالمية، فإن زمن الكلمات المعسولة قد ولى، فإذا لم نُسرع باتخاذ قرارات شجاعة على نحو ما تقتضيه الظروف الراهنة، فمن شأن التدابير التقييدية المتَخذة من قِبل البلدان المُنتِجة للإيفاء باحتياجات سكانها، وتأثير تغيُّر المناخ والمُضارَبة في أسواق المعاملات الآجلة أن تضع العالم إزاء موقف خطير. وهناك حاجة ملحة إلى حلول مُستدامة ومُجدية لتضييق الثغرة بين العرض والطلب. وفيما عدا ذلك «فمهما كان مقدار احتياطياتها المالية، قد لا تجد بعض البلدان غذاء تشتريه».

وكيف لعاقل أو صاحب ضمير سليم أن يفهم إنشاء الدول المتقدمة سوقا للكربون بقيمة 64 مليار دولار أمريكي بينما دول العالم الثالث تعجز عن توفير أموال للحيلولة دون إزالة الغابات بمعدل سنوي يبلغ 13 مليون هكتار. كذلك لايمكن تفسير أسباب عدم تخصيص استثمارات ذات شأن في زمن العولمة، للوقاية من قائمة طويلة من الأمراض الحيوانية الرئيسية العابرة للحدود والمرتبطة بتغير المناخ، بدءا من مرض نيوكاسل إلى الحُمّى القلاعية.

وما يستعصي على الفهم بالقدر نفسه أن ثمة إعانات مالية بمقدار 11-12 مليار دولار أمريكي استُخدمت العام 2006 لتحويل 100 مليون طنّ من الحبوب بعيدا عن الاستهلاك البشري، على الأكثر لإشباع عطش الدول الغنية للوقود الصديق للبيئة (الوقود الحيوي). ويتجلى قبح النظام العالمي الجديد في الحقيقة الماثلة في أن بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية «OECD» قد حَرفَت الأسواق العالمية، بإنفاق 372 مليار دولار عام 2006 وحده، على دعم قطاعها الزراعي، وهو ما دعا الرئيس المصري حسني مبارك أن يطالب العالم في قمة روما بوضع مدونة سلوك دولية تراجع التوسع الراهن في إنتاج الوقود الحيوي كمصدر بديل للطاقة التقليدية، وتضع معايير الاستخدام المسئول للحاصلات الزراعية كطعام للبشر، وليس كوقود للمحركات، ودعا أيضا إلي إعادة النظر في الدعم الحالي الذي يحصل عليه منتجو الإيثانول والديزل الحيوي، وأن يتم إخضاع هذا الدعم لقواعد التجارة العالمية، باعتباره تشوها خطيرا من تشوهات النظام الدولي الراهن للتجارة في السلع الزراعية‏.‏

وتبقى مشكلة انعدام الأمن الغذائي مشكلة سياسية، ومسألة أولويّات في وجه أكثر حاجات الإنسان أساسيّة. كما تبقى الزراعة التي أهملها العالم كثيرا في العقود القليلة الماضية مفتاحا سحريا قد يحل الكثير من مشاكل الكوكب البيئية إذا أحسنا استخدامه، وقد يقود إلى مزيد من الكوارث البيئية والمجاعات في العالم الثالث إذا أصر النظام العالمي المتوحش على ما يفعله حاليا.

والحقيقة أن تغير المناخ يؤثر في كل سكان كوكبنا. غير أن الأكثر تضررا سيكون مئات الملايين من صغار المزارعين وصيادي السمك وفقراء المدن في دول العالم الثالث، الذين يمثلون الطرف الأضعف في المعادلة على المستويين الوطني والعالمي من حيث حدة التعرض وانعدام الأمن الغذائي.

ومن خلال تأثيره على ما هو متاح من الأراضي والمياه والتنوع الحيوي وعلى أسعار المحاصيل الغذائية والمعروض منها في الأسواق، فإن الطلب المتصاعد على الوقود الحيوي المستخرج من المحاصيل الغذائية يؤثر كذلك في الفقراء.

ويؤثر تغير المناخ وإنتاج الوقود الحيوي ليس فقط في إنتاج الأغذية، بل يمكن أن يؤثرا كذلك في سلسلة إمدادات الأغذية كلها، إضافة إلى تأثيرهما في الأبعاد الأربعة للأمن الغذائي وهي: إتاحة الأغذية من الإنتاج المحلي والواردات معا؛ والوصول إلى الموارد من أجل إنتاج الأغذية وشرائها؛ واستقرار إمدادات الأغذية من النواحي الإيكولوجية ونواحي الاقتصاد الكلي معا؛ وأخيرا استخدام الأغذية ومن ضمن ذلك أفضليات المستهلكين وسلامة المياه والأغذية.

وسنعالج في سلسلة مقالات مقبلة كل العلاقات المتشابكة التي تربط بين تغير المناخ وأزمة الغذاء العالمية، بما في ذلك التخفيف من آثار تغير المناخ في مجالات الزراعة والغابات ومصايد الأسماك؛ وتغير المناخ والمياه والأمن الغذائي، وتغير المناخ والآفات والأمراض العابرة للحدود؛ وتغير المناخ وإدارة مخاطر الكوارث؛ والطاقة الحيوية والأمن الغذائي؛ وتغير المناخ والوقود الحيوي والأراضي؛ وتغير المناخ ومصايد الأسماك وتربية الأحياء المائية؛ وتغير المناخ والتنوع الحيوي للأغذية والزراعة.

 

 

أحمد الشربيني