حكايات بابلو بيكاسو

حكايات بابلو بيكاسو

الكتب المخصصة للفن هي أكثر انتشارًا وأكبر عددًا من غيرها من الكتب ذات المواضيع المختلفة. وفن الرّسم في المرتبة الأولى، عدد الكتب التي تحكي حياة الرسامين ونشر أعمالهم كبيرة جدًا، هي تفوق الكتب عن الموسيقيين، لن أذكر الكتب الأدبية والقصة والمسرح والشعر، لأن في وقتنا هذا، فوضى في هذا المضمار.

لعلّ بابلو بيكاسو فاقت الكتب التي تحكي عنه والدراسات التي تصدر في كل اللغات، لعلّها تأخذ المرتبة الأولى في المكاتب في العالم.

تنوّع فن بيكاسو وكثرة عدد أعماله التي لا تنضب كحياته المليئة بالتناقضات والتجدد الدائم وقصصه مع النساء والرسامين والشعراء وأصحاب صالات العرض في باريس ونيويورك خاصة في أوائل القرن العشرين جعلت منه أسطورة حتى في عصره.

من الصعب أن يكتب مقال كما أكتب الآن لأحكي عن بيكاسو، الحيرة تجعلني أتمهّل بكتابة زاوية ضيقة من حياة هذا الفنان الذي توفي وقد قاربت سنه القرن الواحد، القرن العشرين الذي طبعه بشخصيته وبفنّه.

أعود إلى عائلة بيكاسو، فقصصه مع زوجاته لا نهاية لها، بل إن عشيقاته أو النساء اللواتي كن يلاحقنه كثيرات، لشهرته وحبه للمرأة، مع علمهن أن عشرته صعبة وتغيّر طباعه معروف عند من كان في أجوائه، أصدقاء وصديقات ورسامين ومقتني لوحاته وأصحاب صالات العرض. وكانت قراراته تتبدّل من دقيقة لدقيقة، وآخر زوجة له فرنسواز كانت تدرك هذا، وكانت تصبر مع انتقاده الدائم لها.

هنا لا بد من ذكر حادثة وقعت بين بيكاسو وفرنسواز. عندما دعي إلى بولونيا من الحزب الشيوعي، الذي يقال إنه لم يكن عضوًا فيه، كما أن البعض يؤكد انتماءه للحزب. كان قد وعد فرنسواز أن يرسل إليها بطاقة كل يوم من بولونيا، بالفعل كانت تصل إليها تلك البطاقة التي تقول: «كيف حالك إلى اللقاء بيكاسو» وراحت تتكرّر هذه الجملة في كل بطاقة تصلها، وفي كل بطاقة اسم عائلة فرنسواز مكتوب بطريقة مختلفة، وأن الخط ليس خط بيكاسو وعلمت أن هناك من وكّل من قبل الرسّام أن يكتب ويرسل كل يوم بطاقة. عندما عاد بيكاسو إلى باريس، استقبلته، بعد أن طبع على وجهها قبلاته، بالرد على القبلات بصفعة قوية على وجهه ما جعله مستغربًا منها، لكنه أيقن أنها اكتشفت لعبته مع البطاقات المزوّرة المرسلة إليها من بولونيا، بعدها شيء ما تغيّر في سلوك بيكاسو نحو فرنسواز.

يعدُّ بيكاسو غيورًا، فهو يغار ممن يحب من الرسامين ويغار من بعض الشعراء ويغار من كل شيء، فهو شخصية شغلت العالم لكنه لم يكن مرتاحًا لنفسه ولفنّه ولرفقائه، كان أقرب رسامين له هما جورج براك الذي لا يختلف عنه في سنّه وهنري ماتيس الذي يكبره سنًا. صلته ببراك كانت صلة احترام وفن، فهما اخترعا حركة التكعيبية والحديث عن هذه الحركة الفنية طويل سأتحدّث عنه لاحقًا. وكان يقول بابلو بيكاسو إنه يحب براك ويحترمه. وبراك رجل طويل القامة عكس بيكاسو، وجميل وذو هيبة ووجوده يدعو للاحترام ويخلق الهدوء، هذا عكس بيكاسو الذي كان معقدًا لقصر قامته ككثيرين من الأندلسيين.

أمّا هنري ماتيس فكانت صلته به صداقة خلقتها حبّهما للتغيير في الفن، وكانا يتنافسان في أعمالهما، كما كانا يتبادلان أعمالهما.

وبابلو كان يكنّ لهنري احترامًا لفنّه ولأفكاره التي كانت كثيرًا ما تتناقض مع أفكار بابلو، لكن صلة كل منهما مع الآخر لم تنقطع، إذا كانا في باريس أو في الرّيف الفرنسي. وكانا يتراسلان، وعندما تصل رسالة من ماتيس إلى بيكاسو وفرنسواز كان بيكاسو يعد الكلمات الموجهة إليه والكلمات الموجهة لفرنسواز، وإذا كانت الأخيرة تحوز عدداً أكثر من الكلمات المخصصة له في الرسالة، فكان يحمق ويبدأ بنقد ماتيس وتعجرفه وبعدم احترامه له، لكنه كان دائم انتظار دعوة ماتيس لزيارته برفقة فرنسواز، وذات مرة اختار بيكاسو لزيارة ماتيس ألوان الثياب التي طلب من فرنسواز أن ترتديها قائلا لها إن ماتيس يحب هذه الألوان.

كان ماتيس رجلاً عميق الثقافة، يعشق الموسيقى والأدب والشعر، إذا تمعّنا في رسمه بالأسود على الورق نرى البساطة التي وصل إليها، كان مراقبًا ودارسًا للطبيعة وألوانها، وكانت المرأة في فنه حاضرة دومًا، وقد رسمها في كل المواد التي كان يستعملها. الشبه في وجه المرأة وجسده لم يكن هاجسه، كان الشكل والحركة واللون هو المراد في عمل ماتيس وخلق شخصيته التلوينية الخاصة، ولعلّ الفن الإسلامي فتح لماتيس أبوابًا دخل منها ليصل إلى شخصيته الفنية المعروفة، وهذا عندما زار معرضًا في جنيف للفن الإسلامي، أثّر في فنه تأثيرًا وضح في أعماله كما أثّر في بعض أعمال بيكاسو، وبيكاسو أندلسي.

فالرسامان وإن اختلفا في السن إلاّ أنهما اتفقا في مباراة سرية بينهما، لم يعرفها أحد، حتّى أن كلا منهما بقي يتأثر بالآخر وبقيت لكل منهما شخصيته وعبقريته. لكن الشيء الذي لا بد من قوله إنه عندما يُذكر هنري ماتيس تسبق اسمه كلمتان: «الرسام الكبير» أمّا بيكاسو فكانت كلمة واحدة تكتب قبل ذكر اسمه: «العبقري بيكاسو».

ولو كان كل آخذا قدر نفسه
لكانَتْ لَكَ الدّنيَا بغَيرِ مِرَاءِ
وما هذه الأعياد الا كواكب
تغور وتولينا قليل ثواء
فخذ من سرور ما استطعت وفز به
فللنّاسِ قِسما شدّة ٍ ورَخَاءِ
وبادِرْ إلى اللّذّاتِ، فالدهرُ مولَعٌ
بتنغيص عيش واصطلام علاء

الشريف الرضي

 

 

أمين الباشا