حسين ماضي: التآلف بين الزخرفة العربية.. والحداثة الغربية

حسين ماضي: التآلف بين الزخرفة العربية.. والحداثة الغربية

تتسق شخصية الفنان حسين ماضي في نظام حياة فنية فائضة الحيوية على مدار حوالى أربعة عقود من الزمن. فهو فنان، حياته فنه، وفنه الحياة. يعيش في الفن، الحياة البديلة عن المعيش المثبط والمحبط.

في تجربته التشكيلية تستفيق روح الشرق الزخرفية الأصيلة لتتلقف وثبة الحداثة الغربية، وتطوعها بمهارة الحاذق ورفعة العارف.

أما مسار حياته الفنية، فيختصر الإرهاصات والتحولات المفاهيمية والبصرية التي عصفت في تاريخ الفن الحداثي العربي والعالمي منذ أواسط القرن العشرين. فقد عايش وعاصر ظهور تيارات ونزعات فنية حداثية عدة في الخمسينيات والستينيات في بيروت وروما وباريس، وخبر وجرب بعضها وتعلم من البعض الآخر. كما وقف شاهدًا على نشوء واحتضار تيارات وشخصيات ومدارس وحركات فنية في عصره. يقف حسين ماضي اليوم، في طليعة الحركة التشكيلية اللبنانية والعربية التي شقت دربها إلى العالمية. إنجازاته الفنية في الرسم والتصوير والحفر والنحت والجرافيك متسقة الأسلوب والرؤية والروح. من صفاتها أنها بنيت على أصول معرفية وأكاديمية متينة، أكسبتها نكهة البلاغة في الإنشاء التصويري، وسمة الاختزال التعبيري والتنوع في الإيقاع الحسي للمبنى والمعنى التشكيلي. جمع في فنه الواقع والفانتازيا في توليف مبتكر.

كما جمع في فنه روح الحضارة الشرقية القديمة (فنون بلاد الرافدين في النحت والتصوير)، والفن الإسلامي الزخرفي والتزييني (بشقيه الهندسي والنباتي) إلى حداثة بيكاسو في تحوير واختزال الأشكال والأحجام وزخرفة ماتيس الشرقية الأصول. إنه فنان فهم روح العصر وذوقه فأتقن مهاراته. ثم طوّعها ليعيد إنتاج الموروث الفني الشرقي بتحالف وثيق بين الصرامة المعرفية والفانتازيا والإبهار. تنتشر أعماله النحتية ولوحاته في العديد من متاحف العالم، وقد دخلت بورصة الفن العالمية في كل من سوثبيز وكريستيز.

أقام ما يزيد على السبعين معرضًا في أوربا وأمريكا والبرازيل والعالم العربي.

تعتبر حياة حسين ماضي مرآة لتفاعل نتاجه الفني مع حركة العصر ومراحله، وقد بنى لغة إنشائه التصويري على تفاعلات منبته المشرقي مع المعرفة بأصول الحداثة الغربية.

غير أن منبته الجبلي على كتف جبل حرمون في ضيعته الوادعة شبعا في أقصى الجنوب، ضخ في كينونته الأولى روح الإبداع وأسرار نظام الطبيعة وهندسة خطوط البشر والنبات بتآلف مع النور. وكون أبجديته التصويرية، أي منظومة موتيفاته الفنية ( كـ «الطير والحصان والثور والرمان والنرجيلة وغيرها»).

وُلد حسين ماضي عام 1938 في قريته شبعا، إحدى أجمل بقاع الأرض المقدسة في جبل حرمون. الجبل الذي يحتسي لعاب الغيم ليحيله عمامة بيضاء يعتمرها معظم شهور السنة. لذا سمي بجبل «الشيخ». ترعرع في كنف جده الذي لقّنه دروس حكمة المسارات في الحياة والأرض والطبيعة ومع البشر. نشأ صلبًا، متمرّدًا، متأججًا بحيوية التميّز وحب الحياة. ولعل تلك الأرض المقدسة نفحته بطاقة روحية جعلته طائرًا، يقطع مسافات الزمن الحداثي في الفن والسلوك بسرعة مذهلة. أربكت أقرانه ومعاصريه. ثم أصبح الطائر شعارًا له في كل مراحل حياته الفنية. حمل حسين ماضي الشاب، إرث الطبيعة الجبلية بمسلماتها وطقوسها ومفرداتها معه في ترحاله المعرفي، وقد ترك ضيعته ليكمل تعليمه المتوسط والثانوي في مدينة النبطية، ثم انتقل إلى بيروت عاصمة الحداثة العربية في الخمسينيات ليدرس الفن في أكاديمية الفنون الجميلة «ألبا»، بعد أن اكتشف أن طاقته الفنية عارمة، ومن الصعب لجمها. فهو في المدرسة الابتدائية في ضيعته اشتكى منه المدرسون، لانشغاله بالرسم إبان الدرس. فراح يعزز الفائض في داخله ويشذبه ويبلوره ويعيد صياغته وفق أسس معرفية، توصل إليها عبر بعض القواميس والكتب المصوّرة آنذاك. وكان من الغرابة أن يشق ولد جبلي آنذاك (من بيئة إسلامية جبلية متواضعة) طريقه، باتجاه الرسم والتصوير، وبقفزة جسور باتجاه الحداثة المدنية، التي كانت البرجوازية اللبنانية تحيك نسيجها المحلي، بطريقة أقرب إلى الاستنساخ البدائي أو التقليد المباشر والجاف للحداثة الغربية الأوربية والأمريكية. في بيروت كان والده الدركي (موظفًا في الأمن الداخلي) يتنقل بحكم وظيفته من منطقة لبنانية لأخرى. فتنقل حسين مع عائلته من طرابلس إلى المختارة إلى مناطق لبنانية أخرى متعددة.

توازن في الفضاء

وفي بيروت بهرته آنذاك الدراجة بدولابيها المتوازنين، وبهرته الطائرة بتوازنها في الفضاء. ومازالت الطائرة تشده بلغزها التقني كلما مرت فوق شرفة منزله (محترفه) المطل على بحر بيروت في منطقة المنارة. لذا ظل منذ ذلك الوقت يرسم الطيور التي كان يطاردها في قريته ويصطادها في طفولته. وينقل الصور التي تقع عليها عيناه في الكتب والقواميس المصوّرة. كان يرسم بالفحم والحبر الصيني لعدم توافر المال اللازم لشراء الألوان أنذاك. حتى حين دخل أكاديمية الفنون الجميلة «ALBA» التي كانت آنذاك في بناية العازارية في وسط مدينة بيروت القديمة، كانت حاجته إلى المال تدفعه للرسم على قصاصات الورق التي يرميها الطلاب المترفون والأغنياء في الأكاديمية. فيتلقفها ليرسم على قفاها (أي على الجهة الأخرى منها).

يذكر حسين ماضي تلك الفترة، بشجن العاتب على الدهر، وباعتزاز العازم على النهوض والمثابرة والتميّز. كان يأتي في الصباح الباكر إلى الأكاديمية قبل الطلاب بحوالى الساعتين، فيفتح له الحارس يوسف الباب، ويدخل إلى المحترف ليرسم بنهم قبل مجيء زملائه. في تلك الفترة درس معه عدد من الفنانين الذين لمعت أسماؤهم في الحركة الفنية التشكيلية في لبنان، (درس البعض منهم معه في روما) وأبرزهم الفنان حسين بدرالدين (قضى في حادث سيارة عام 1975) وإبراهيم مرزوق (قضى في قذيفة أمام فرن للخبز في بيروت عام 1975 أيضًا) والفنان مصطفى حيدر، والفنان موسى طيبا والنحات نعيم ضومط وأوديل مظلوم وغيرهم. في تلك المرحلة كان حسين ماضي وموسى طيبا ومصطفى حيدر وإبراهيم مرزوق وحسين بدرالدين، يقومون بعمل اسكتشات وكروكي في مقهى شعبي قرب الأكاديمية في ساحة رياض الصلح. حيث كان يتجمع سائقو الباصات والسيارات العمومية والعمال. وكانوا يرسمون هذه الشخصيات الشعبية باعتبارها الموديل الحي المتاح، لتمرين أصابعهم وتمتين مهاراتهم. وكان الحمال (العتال حامل السبل الكبير على ظهره) هو الموديل الذي يقبل أن يجلس أمامهم مقابل مبلغ زهيد، ليرسموا جسده بوضعيات مختلفة.

وكان حسين وزملاؤه الذين ذكرتهم من طينة اجتماعية واحدة يغلب عليها طابع العوز المادي إلى الموهبة الفنية المشحونة بالتصميم والجدية والمثابرة. وأغلبيتهم من المناطق اللبنانية التي لم تصلها الحضارة الحداثية وتقنياتها من سيارة وتلفون وتلفزيون وطرقات ومدارس وكهرباء وغيرها من تقنيات المدنية والحداثة.

رحلة الاكتشاف والابتكار

بانتقاله إلى بيروت عاصمة الحداثة في الفن آنذاك، ومتلقفة التجارب والتيارات والنزعات الفنية الغربية بصدر رحب وانبهار، عايش الفنان الشاب إرهاصات تآلف الفنانين اللبنانيين مع هذه المرحلة، وقد خاض غمار الصراع بين هذه التيارات وخيارات المسار الفني الجاد والمبتكر. كما خاض معاركه الشخصية ضد الجهل والكسل والضائقة المادية.

أنهى دراسته في «الألبا» أي أكاديمية الفنون الجميلة عام 1962. وعمل في الصحافة في فن الكاريكاتور في عام 1963، ثم سافر إلى بغداد ليعمل أشهرًا عدة في فن التصميم والرسم الإيضاحي. وكانت بغداد آنذاك مكتظة بنهضة فنية وتجارب حداثية بلورت حضورها المتميز على الساحة التشكيلية العربية.

تعرف في العراق على فنون بلاد ما بين النهرين من خلال المتحف وزيارة بعض المدن الأثرية والتاريخية ومنها سامراء، إلى أن أزفت الساعة لينطلق النسر الجبلي نحو منجم النهضة الفنية العالمية روما.

وصل حسين ماضي إلى روما في مطلع عام 1964، متأبطًا العزم والحلم بابتكار مسار فني يافع ومتين، وهو سرعان ما ابتلع صدمة الحضارة واللغة والحداثة الإيطالية التي هزت كيانه بعنف، حيث باع أحد أعماله المائية بعد أسبوعين من وصوله إلى روما، لأحد تجار الأعمال الفنية. وباتت روما موئل تحولات مصيرية حاسمة في حياته.

درس الفن في أكاديمية الفنون الجميلة في روما Accademia di Belle Arti، كما درس فن الفريسك في أكاديمية سان جياكومو Accademia San Giacomo، وأتقن فن الحفر الطباعي والنحت، كان يدرس الفن ويرسم في الشوارع والمقاهي والكنائس ويسافر إلى الريف والمدن الإيطالية الأخرى كفلورنسا وسينيا والبندقية ليرسم المناظر الطبيعية وفن العمارة والناس والنبات والحيوان وكل ما تقع عليه عيناه، ثم يعود بها إلى روما ليبيعها ويكمل دراسته بثمنها. باع في إيطاليا المئات من أعماله التي غطت مساحة زمنية مزدهرة من عمره الفني. زار أثناء إقامته في روما العديد من الدول والمتاحف الأوربية ومنها باريس حيث قصد اللوفر ليطلع على الفنون الشرقية القديمة فيه، وكذلك زار لندن ومتاحفها.

وكان يطل على بيروت بمعارض فردية أو موسمية. إلى أن عاد إلى لبنان ليقيم فيه بصورة دائمة عام 1987، بعد حصوله على الجنسية الإيطالية.

شحذت مصادر الفن النهضوي الكلاسيكي الإيطالي، طاقة الفنان حسين ماضي الشاب بأسس تقنية ومعرفية من حيث المادة والطرائقية ومنطق الإنشاء البنيوي للعمل الفني. كما صقلت حواسه بفطنة وجدانية ذات شحنة مكثفة الحيوية، ألمعت أصابعه بدقة الحركة. وبانسيابية حاذقة، حتى تكاد تخالها سكينًا أو مبضعًا أو مقصًا فائق الحدة. فهو بات يجيد بسرعة قياسية فن النحت بالبرونز والحديد والعديد من المواد المعدنية. وبدأت تتكون لديه أبجدية صورية (أيقونية) تجريدية، تجسّد حيوية طاقته الروحية والذهنية، كالطائر الأسود الخطوط، الموجز الحدود، المتنوع الوضعيات والمقاييس والتقنية، وكان أحيانًا يستحيل رمزاً لصاحبه الفنان وهو يمثله ويمتثل لأصابعه، ويتماهى مع تصاعد وهبوط مزاجيته النفسية. هذا الطائر الأسود الخطوط، الحر البدن، والمتقد حيوية وتمردًا، شكل منطلقًا لأبجدية الفنان التصويرية في كثير من لوحاته ومنحوتاته وفي مجمل مراحل حياته الفنية.

الفن الإسلامي في روما

فتحت روما أمام حسين ماضي أبواب التعرف على الحضارات الشرقية ككل والإسلامية بشكل خاص. فهو بعد عام من وصوله زاره أحد الفنانين الإيطاليين الكبار في محترفه، واطلع على أعماله، وحين همّ بالحديث عن فنه قال له «ويحك ماذا تفعل في بلادنا، فبلادك مهد الفن والحضارات الأصيلة، عد إلى ينابيعك وأبق ذاتك». فتحت هذه النصيحة شرايين الهوية الروحية لديه وقادته لدراسة التراث الحضاري المشرقي. فاختار موضوع أطروحته للدراسات العليا «منشأ وتطور الخط العربي، الخط العربي فن قائم بذاته مع صور إيضاحية». ونال عليها درجة 29 من 30 / ممتاز. كان ذلك عام 1968. وقد اقتنى آنذاك العديد من الكتب والمخطوطات العربية القديمة ومنها «صبح الأعشى» للقلقشندي واطلاعه على كل أجزائه الثلاثة عشرة، وخاصة الجزء المتعلق بالخط وأخبار الملوك.

باعتقادنا أن تعمّقه في «دراسة فن الخط العربي» أضاء بصيرته نحو الذات، الأنا الشرقية، وقاده إلى البحث عن أبجدية خطوطية، تجريدية، تختزل الصور، وتحيلها مفردات قائمة بذاتها، وسوف تطبع شخصيته الفنية وأسلوبه بطابعها التوليفي بين التراث الزخرفي - التزييني القائم على الخط بمجمل تنويعاته ومقاماته (المستقيم والملتوي والمنكسر والمنحني ونصف الدائري والمسنن والثخين والرفيع والرشيق) وبين مفهوم تحديث اللوحة الفنية كحامل تراكمي للمعارف الغربية في فن التصوير.

إن أبجدية حسين ماضي التجريدية لمنظومة صوره (الطيور، الحصان، الثور، التيس، كوز الرمان، الزهور، الإنسان، النبات)، تبلورت لديه مع الوقت وبفعل التجربة والاطلاع على الفن الغربي والفن الشرقي ومحاولة تفكيك ألغازه وتجويد منظوره التشكيلي والمفاهيمي.

التلقائية والزخرفية

ينتمي أسلوب حسين ماضي في التأليف التشكيلي إلى سيطرة الخطوط على بناء العمل الفني. تقوم لوحته على مبدأ تكويني يشكل الخط، المحور والبوصلة التأليفية فيه. ثم يأتي اللون ليتم حركة المعنى التشكيلي في المبنى التأليفي العام. الرائي إلى أعماله، تقوده حركة الخطوط الواضحة والصارمة والحازمة، في مساراتها ما بين الخط المستقيم والمنحني والمكوّر أو الملتوي أو نصف الدائري أو المنكسر. أحيانًا كثيرة، تتقاسم هذه الخطوط، الأدوار التأليفية بإيجاز هائل وبلاغة محكمة. لا ثرثرة ولا استفاضات، لكل خط دوره الذي يلبيه بإتقان ويسر ورشاقة.

هذا التركيز على الخطوط الحادة الحضور، مرده عاملان: طبيعة الفنان نفسه الحادة والصارمة مع نفسه وفنه والحياة، ثم تأثره بالفنون النحتية والزخرفية الشرقية والإسلامية التي تشكّل الخطوط المحور والأداة في عنصر التأليف فيها. وقد اكتسب حسين ماضي خبرات ومهارات فن التأليف المودرن الغربي من مصادره الأكاديمية الأبرز: روما وبيكاسو والتكعيبية والتجريدية والوحوشية. فقد برع في توليف قواعد التأليف الشرقي ومنطق الرؤية الحداثية الغربية. وفي مسألة التحوير في الأشكال Deformation والابتسار بالمقاييس والأحجام للأجزاء الثانوية، وتفخيم وتكبير المناطق الدالة أو الإيحيائية الرئيسية في الجسم (سواء كان جسم إنسان أو حيوان أو نبات أو مظهر طبيعي أو معماري وغيره). ونلاحظ أن التجريد في خطوط كائناته قد تبلور في السبعينيات ليبلغ قمة تجويده في نتاج الثمانينيات والتسعينيات.

تبدى هذا الأسلوب في مئات الأعمال الفنية التي أنجزها في العقود الثلاثة الأخيرة.

لقد حاول الفنان ماضي أن يكوّن قاموسه الزخرفي الخاص به، سواء كان في العناصر، الأنواع الهندسية والنباتية والحيوانية، أو في الأشكال المختزلة والمجردة والمحوّرة التي ابتدعها لها. وهو في هذه الطريقة قد اتبع أصول فن الزخرفة الإسلامية التي عرفها كل بلد وكل عهد وتميز بها وانفرد. فبعض العهود الإسلامية أتقنت الزخرفة الهندسية وأخرى تجلت فيها الزخرفة النباتية. وقد يبرع عصر أو منطقة أو بتطويع الاثنين معًا.

وبرأينا أن الفنان ماضي استطاع أن يكون قاموسه الزخرفي المتفرّد في المعنى (الرموز أو الموتيفات أو المفردات الفنية) والمبنى أي الأشكال التي استنبطها لهذه المفردات. بحيث إنك فور أن ترى لوحته، تعرف أن هذه مفردات حسين ماضي

الزخرفية وأدواته التعبيرية عن رؤيته في الفن والتشكيل والتأليف.

وهو يستعمل الشكل الهندسي الاختزالي في تصوير كائناته البشرية والحيوانية والنباتية بخيال لا حدود له.

علاقته بالمرأة

إن علاقة حسين ماضي الإنسان بالمرأة انعكست بصدق تام وواضح وصارم في فنه. فهو لا يهادن مع نفسه وفنه على الإطلاق خاصة في ما يتعلق بحضور المرأة القوي والمتنوع في حياته الشخصية. فنه مرآة لشخصه وأفكاره ومواقفه ومبادئه من المرأة والحياة والجمال. لذلك حضرت المرأة بمختلف تجليات وجودها الإنساني والأنثوي في نتاج حسين ماضي منذ الستينيات حتى اليوم. أي منذ تبلور وعيه الذكوري بالمرأة وتجويد مهاراته الفنية.

وقد شكّل بدن المرأة مساحة شاسعة لمختلف تجارب الرؤية الفنية لحسين ماضي. ما يعكس حرية واتساع أفق الفنان في نظرته للمرأة واختلاف مظاهر حضورها في حياته وفي فضاءات لوحاته ورسومه.

نساء حسين ماضي قويات الحضور، لهن شخصيتهن الوجودية والتأملية، غريبات، دائمًا يوحين بالوحدة والعزلة أو الفرادة، حتى لو كن في مشهدية ثنائية أو جماعية، ملامح وجوههن اصطلاحية لا تتعدى خطين مستقيمين للعين، يتجاوران أو يتقاطعان مع خطين للأنف وخطين متعرجين لإبراز الفم المكتنز الشفاه. هذا الوجه المختزل والمحور يندرج تقريبًا على مجمل وجوه نساء حسين ماضي، المتشابهات في ملامح الوجه المختصرة والأرداف العريضة والصدور العارمة، والسيقان الملتفة، والأحذية ذات الكعب العالي (أحيانًا كثيرة تزيّنها أربطة أو جزمة عالية حتى الركبة).

إنهن ساهمات النظرة، غارقات في التفكير أو التأمل أو الوحشة بالرغم من زخرفتهن الطافحة في كل مساحة اللوحة (الثوب الجدار، السجاد، الصندوق الخشبي الموشى بالصدف. الصندوق ذو الطراز الشامي في الحفر والتنزيل للصدف).

مع تقدم العمر والتجربة بالفن والعلاقة بالمرأة، كون حسين ماضي صورة أيقونية (ستريوتيب) للمرأة في لوحاته، تكاد تكون متطابقة الملامح في الوجوه وتضاريس الجسد، لكنها مختلفة الدور والوظيفة والإطار.

وبما أنه لا يطلق تسميات على لوحاته، فإن نساءه يبقين غامضات، استثنائيات وعصيات على الفهم والقبول من المجتمع. إنهن المتحررات من كل الموروث الشرقي في أدوارهن ووظائفهن (العارضات والعاريات والسابحات والعازفات والمدخنات للنرجيلة والفارسات (اللواتي يمتطين الخيل، وراكبات الدراجات)، لكن حسين ماضي أعاد هذه الصورة الأيقونية الجديدة أو المودرن للمرأة، إلى إطارها الشرقي الوثير بزخارفه النباتية والهندسية، التي تملأ الأرض والمقاعد والستائر والوسادات التي يتكئن عليها، تحيط بهن كل أدوات الزينة الشرقية من زهريات وطنافس وطاولات وآلات موسيقية كالعود بشكل أساسي وعصافيره الأسطورية السوداء المنتشرة في أرجاء الغرفة، وغالبًا ما يضع نساء لوحاته في إطار محترفه ومحتوياته.

أما النساء المستوحدات والمستوحشات فهن كثيرات في لوحات الحقبة المتأخرة من حياة الفنان ماضي. إنهن نساء متأملات، واجمات، وحيدات بالرغم من المظهر الزخرفي المترف الذي يحيط بصورتهن في هذه اللوحات.

ولابد في هذا السياق من التوكيد على خصوصية أسلوبية ومفاهيمية تبدّت في نتاج حسين ماضي نهاية الثمانينيات حتى اليوم. تتمثل في رخامة منطقه التزييني والتعبيري الشرقي الزخرفة. وأعتقد بأن عودته إلى الشرق للعيش نهائيًا في وطنه لبنان، جارًا للجبل والبحر والشمس، أثرت تأثيرًا واضحًا وجليًا في نظام رؤيته للفن والحياة والطبيعة. وكأنه قد عاد لجذور وعيه الحضاري الشرقي القديم، إنما بمنظور معرفي حداثي عميق وشمولي. فهو قد استغرق في أعمال هذه الحقبة، خاصة في التسعينيات في تطويع صور الحياة والبيئة الشرقية لبنيوية تكوينية مودرن تخطت استشراق هنري ماتيس وتكعيبية بيكاسو، لتوالف بين زخرفة الأول وتحوير واختزال أشكال الثاني، وكأن الفنان بعد أن استقر في وطنه، قد هدأت لديه جمرة البحث عن الذات التي كوته في غربته طوال عشرين عامًا. إن حسين ماضي تصالح مع شرقه الزخرفي، بعد مصالحته مع ذاته وجذوره الضاربة في القدم في الجبل المقدس حرمون. لعله الإيمان والصلاة وقراءة القرآن الكريم، نورت رؤيته الفنية بعد أن نضجت أبحاثه ومعارفه ومهاراته، لذلك طفحت أعماله في التسعينيات بنظام بنيوي زخرفي رفيع الأصول التقنية. إن ما اختزنه من ثقافة شرقية وزخرفية إسلامية في الستينيات والسبعينيات توهجت مفاعيله في التسعينيات في موتيفات الطبيعة الصامتة وصور الحياة والبيئة والآلات الموسيقية خاصة آلة العود وفن السماع الطربي الشرقي الأصيل، حيث إن صداقته وصلته العائلية بالفنان نبيه الخطيب (من أبرز فناني الموسيقى الشرقية والعزف على العود في المعهد العالي للموسيقى في لبنان).

حضور آلة العود

إن آلة العود حاضرة بشكل طاغ وجذاب في حقبة التسعينيات في العديد من أعمال حسين ماضي وهو جزئية أو مفردة تزيينية - تعبيرية تؤكد حضورها في حياة الفنان السمعية ومنظوره البصري في محترفه. إنه الآلة الموسيقية التي دخلت في نسيج الإطار التزييني العام لعالم الفنان ماضي في محترفه، حيث كل ليلة يجتمع بصفوة أصدقائه لتصدح أنغام العود، وتضيء روح الفنان ولهب مزاجه بدفئها الشرقي.

من هنا نرى العود في لوحات متقاربة في الأسلوب والحقبة الزمنية. وأبرزها لوحة الرجل بالطربوش يدخن النرجيلة وقربه العود وأمامه إبريق الشاي وقدح الشاي الزجاجي المزخرف وخلفه الصندوق المصدف وعلى ظهره آنية الزهور الحمراء ومنحوتة الثور الأسود للفنان. (إكريليك 108 × 108 سم ، 1998م).

وهي مفردات تزين محترف الفنان نفسه. أما اللوحة الثانية فهي تجمع ما بين المنظر الطبيعي (مبنى الجامعة الأمريكية بسقفه القرميدي خلفه البحر وعلى جانبه أشجار السرو, وهو منظر يطل عليه الفنان من شرفة محترفه - منزله) داخل محترف الفنان، حيث تتقاسم المقاعد والطاولات مساحة الغرفة، وتتصدر آلة العود وسط الغرفة، وهي ملقاة على طاولة يغطيها شرشف أزرق.

تبرز هذه اللوحة مدى احتفالية الفنان ماضي بآلة العود التي جعل منها، مركز جذب الانتباه (نقطة الجذب والوصل في فضاء الغرفة وفضاء اللوحة في آن معًا).

إن طابع الأسلوب التزييني - التعبيري الذي طغى على أعمال المرحلة الرفيعة والمتأخرة من إبداع الفنان حسين ماضي، يبرز تفاعله مع الموروث الفني الشرقي والإسلامي بشكل خاص. وقد كسب الشرق الإسلامي سطوع فن حداثي عصري مبتكر، رفده الفنان حسين ماضي بمهارة أصولية في التقنية، وخيال واسع في الابتكار والفرادة. ونحته لا يقل أهمية عن ابتكاراته التشكيلية في اللوحة، بل هو نظام تأليفي متمم لمفاهيمية الفنان البصرية وحسه «الرياضي» والهندسي الدقيق والباهر.

 

 

زينات بيطار 





ايقاع زخرفي نباتي، اكريليك، 150 × 135 سم ، 2002





طبيعة صامته، اكريليك، 70 × 80 سم ،2003





منظر طبيعي، اكريليك، 130 × 150 سم ، 1995





الجامعة الامريكية في بيروت، اكريليك، 100 × 100 سم ، 1999





العود والنرجيلة، اكريليك، 90 × 70 سم ، 2002





طبيعة صامتة (محترف الفنان)، اكريليك، 80 × 100 سم ، 2003





آلة عود (محترف الفنان)، اكريليك، 108 × 108 سم ، 2000





داخل المحترف، اكريليك، 108 × 108 سم ، 2000





من أعمال الفنان حسين ماضي، بألوان الاكريليك، الطائر الأسود (1983)





من أعمال الفنان حسين ماضي، بألوان الاكريليك، أوربا (1996)





من أعمال الفنان حسين ماضي، بألوان الاكريليك، مشهد داخلي (1998)





من أعمال الفنان حسين ماضي، بألوان الاكريليك، مثقفة (2001)