جمال العربية

جمال العربية

(وَا طُولَ شَوْقي)
شعر: محمود سامي البارودي

من مكرور القول ومعاده أن يذكر الشاعر محمود سامي البارودي باعتباره رأس مدرسة الإحياء في الشعر العربي الحديث، وباعث نهضته ومعلي رايته، وأن ينظر إلى البارودي، رب السيف والقلم- كما اعتاد مؤرخو الأدب أن يصفوه- بوصفه معارضا عظيما لكبار شعراء التراث العربي في نماذجهم العالية وقصائدهم المشهورة، يرقى إلى سمائهم أحيانا، وقد يجاوزهم حينا، وقد يقصر في اللحاق بهم حينا آخر. لكنه- في كل الأحوال صورة منفردة، وذكرة حافظة، تلتمع على صفحاتها آثار أبى فراس والمتنبي وأبي تمام والبحتري والشريف الرضي والمعري ومهيار. وستبقى هذه الذاكرة الحافظة مطلة من بين قصائد البارودي تلفتنا دائما إلى يناييعه الأولى، وتطلعاته الشعرية المصاحبة، وافتتانه بقصائد دائمة الحضور في وعيه الشعري.

هذا كله معاد ومكرور. وهو كلام يصنف البارودي في خانة كبار المقلدين. وفي هذا ظلم كبير لشاعرية البارودي التي لم تكن بهذه البساطة ولا على هذه الصورة الميسورة الفهم والتحليل. إن دارسيه وقراءه - على السواء - يرون في شعره - مع هذه القدرة الباذخة على المحاكاة والتقليد والارتفاع إلى مستوى القمم السابقة - جديدا لا يخطئه الحس المتنذوق. وهو الجديد الذي استوقف الدكتور محمد حسين هيكل في تقديمه لديوان البارودي عندما قال: (ونحن نحاول اليوم أن نتلمس الجديد في شعر البارودي، ونقصد بالجديد ما أبدع من أغراض لم تكن مطروقة في عهد الأولين ممن بعث لغتهم وشعرهم، وما كانت فاتيته قوية واضحة فيه، وما يتصل بالحاضر مما جعله الشعر الأولي أغراضه، فيأخذ بألبابنا ما في ديوانه من الشعر السياسي ومن وصف الطبيعة المصرية والآثار المصرية والحياة المصرية. أما ما خلا ذلك فلم يعد البارودي فيه مقاصد المقدمين من شعراء العرب، ولم يعد أوزانهم وقوافيهم وأغراضهم".

ثم يقول: "وهو في الحق لم يتجه بالشعر العربي غير وجهة الأقدمين الذين عارضهم وراض القول على مثالهم، وإن كان من الحق كذلك أنه لم يفن فيهم، ولم يقصر همه على النقل عنهم، بل بدت شخصيته بارزة في شعره، وبدا شعره مرآة بيئته وزمانه". ثم نصل إلى جوهر فكرة الدكتورهيكل عن البارودي في قوله:" لكننا يجب أن نعدل هذا الرأي إذا أردنا أن نبلغ النصفة حين البحث عن الجديد في شعر البارودي، وأن نقول إن هذا الشعر كان في عصره جديدا كله. كانت محاكاته الأقدمين جديدة، وكانت معارضته إياهم جديدة، وكانت رياضة القول على مثالهم جديدة... فإذا كان البارودي قد بعث الشعر العربي واللغة العربية من مرقدهما ورد إليهما حياة ذوت وذبلت قرونا متعاقبة، فعمله هذا خلق لا ريب فيه، وهو في عصره جديد كله، وهو جدير لهذا أن يتسنم ذروة المجد وأن يجلس بين الخالدين".

هذا الموقف نفسه، الذي يحاول أن يرى شعر البارودي على حقيقته، هو الذي جعل الدكتور جابر عصفور في مدخله إلى شعر البارودي - الذي يتصدر الطبعة الجديدة من ديوانه - يرى أن الوعي الشعري عند البارودي هو المدخل الذي يمكن بواسطته مقاربة عالم البارودي الشعري "من خلال ما أحدثه من تغير في وظيفة الشعر ومهمته، وتحويل في مفهومه ومعناه، وتعديل في مكانة الشاعر ووضعه داخل شبكة العلاقات الاجتماعية والمعرفية للمجتمع".

هذا الوعي الشعري عند البارودي نلمسه في قوله:

أيها الشاعر الكريم تدبر

واجعل القول منك ذا تحكيم

لا تذم اللئيم وامدح كريما

إن مدح الكريم ذم اللئيم

ولا يفوت الدكتور جابر عصفور أن يتوقف عند سطور يتخيرها من المقدمة التي كتبها البارودي لديوانه، فالشعرعنده:" لمعة خيالية يتألق وميضها في سماوة الفكر، فتنبعث أشعتها إلى صحيفة القلب، فيفيض بلألائها نورا يتصل خيطه بأسلة اللسان، فينفث بألوان من الحكمة يبلج بها الحالك ويهتدي بدليلها السالك".

لكن ثمة مدخلا ثالثا يمكن أن يضاف إلى المدخلين الناجحين اللذين يقدمهما الدكتور محمد حسين هيكل والدكتور جابر عصفور لشعر البارودي، هذا المدخل يتمثل في احتوائه على تلك الخاصية الكيميائية التي تلفحنا عندما نطالع شعر المتنبي، وسرعان ما ندرك أن سر عبقريته يكمن في احتوائه الفريد على مرصد كامل لاهتزازات النفس الإنسانية في كل حالاتها المختلفة. ومن هنا تمثلنا الدائم لكل ما نواجهه من مواقف الإقدام والإحجام والقوة والضعف والقنوط والتفاؤل والرغبة والعزوف بوثبات من شعر المتنبي، واستدعاؤنا الفوري لأبياته الحكيمة المتفردة نؤازربها حالة النفس وموقف المعاناة.

هذه الخاصية نفسها تملأ شعر البارودي بالحرارة والتوهج ونحن نطالع فيه رصيده الواعي لحالات النفس في شطري حياته العاصفة، وهو يعيش تراجيديا الصعود والانكسار، التألق والأفول، البطولة والهزيمة، انتهاء بالمنفى والغربة والفقد واستشراف النهاية.

وليس غريبا عندئذ أن نجد في شعره هذا التساؤل:

فكيف ينكر قومي فضل بادرتي

وقد سرت حكمي فيهم وأمثالي؟

والقصيدة التي نلتقي معها الآن من شعر البارودي إحدى قصائده التي قالها وهو منفي في سرنديب، بعيد عن الوطن يتشوق إليه ويحن إلى الصحبة والأهل والأحباب، وهو المنفى الذي قضى فيه البارودي هو وصحبه من زعماء الثورة العرابية قرابة سبعة عشر عاما، عكف خلالها على مراجعة حياته وتأمل مصيره والبكاء على الراحلين من عشرته وأحبائه وقد ذاق مرارة الفقد واكتوى بوقع الفجيعة. وفي القصيدة- كما في سائر شعره في المنفى- لغة شعرية بعيدة عن الصخب والخطابية وجلجلة المفردات والتراكيب، وهي سمات نراها في شعره الذي يتغنى فيه بذاته وبطولاته في القتال وتميزه عن الآخرين نشأة وتكوينا وطموحا.. لغة آسرة الهمس قوية الإيحاء تعبر عن مدى حزنه وانكساره ووحدته وشعوره العميق بالاغراب، وافتقاده صديقه الحميم الشيخ محمد عبده الذي يعد في طليعة رواد التنوير في العصر الحديث، وهو شعر يذكرنا بأبيات جميلة- نادرة المثال- هي من بدائع أبي تمام، وكأن البارودي كان ينظر إليها من قريب معنى ومبنى.

يقول أبوتمام وهو يعبر عن افتقاده الصديق المؤنس:

يشتاقه من جمال غده

ويكثر الوجد نحوه الأمس

أيامنا في ظلاله أبدا

فصل ربيع ودهرنا عرس

لا كأناس قد أصبحوا صدأ ال

عيش كأن الدنيا بهم حبس

القرب منهم بعد من الروح وال

وحشة من قربهم هي الأنس

ويكاد بيت أبي تمام الأخير يتحلل إلى عناصره الأولية في بيت البارودي الذي يقول فيه:

أرى بهم وحشة إذا حضروا

وطيب أنسي إذا همو ظعنوا

والطريف أن القصيدتين تتطابقان وزنا وموسيقى فهما من بحر المنسرح وهو بحر قليل الورود في شعرنا العربي قديمه وحديثه على ما فيه من إيقاع متميز وانسياب موسيقي.

ولن يطول عجبنا أو دهشتنا من هذا التطابق- الذي هو بعض تجليات الذاكرة الشعرية الحافظة عند البارودي- إذا عرفنا أن أبا تمام في طليعة الشعراء الذين استوقفوا البارودي إعجابا وعكوفا ومراجعة، واختيارا للعديد من قصائده في مختارات البارودي التي جمعها من شعر بني أمية وبني العباس.

والآن إلى قصيدة البارودي:

وا طول شوقي إليك ياوطن

وإن عرتني بحبك المحن

أنت المنى والحديث إن أقبل الص

بح، وهمي إن رنق الوسن

فكيف أنساك بالمغيب ولي

فيك فؤاد بالود مرتهن؟

لست أبالي وقد سلمت على الد

دهر إذا ما أصابني الحزن

ليت بريد الحمام يخبرني

عن أهل ودي، فلي بهم شجن

أهم على الود، أم أطاف بهم

واشن أراهم خلاف ما يقنوا؟

فإن نسوني فذكرتي لهم

لا وكيف ينسى حياته البدن؟

أصبحت من بعدهم بمضيعة

تكثر فيها الهموم والإحن

بين أناس إذا وزنتهم

بالذر عند البلاء ما وزنوا

لا في موداتهم إذا صدقوا

ربح، ولا في فراقهم غبن

من كل فظ يلوك في فمه

مضغة سوء مزاجها عفن

ينضح شدقاه بالرؤال كما

عل ينضح العتيرة الوثن

شعث، عراة، كأنهم خرجوا

من نفق الأرض بعد ما دفنوا

لا يحسنون المقال إن نطقوا

جهلا، ولا يفقهون إن أذنوا

أرى بهم وحشة إذا حضروا

وطيب أنس إذا هم ظعنوا

وكيف( لي) بالمقام في بلد

ما لي بها صاحب، ولا سكن

كل خليل لخله وزر

وكل دار لأهلها أمن

فهل إلى عودة ألم بها

شملى، و ألقى" محمدا" سنن؟

ذاك الصديق الذي وثقت به

فهو بشكري ومدحتي قمن

عاشرته حقبة، فأنجدني

منه الحجا، والبيان، واللسن

وهو إلى اليوم بعد ما علقت

بي الرزايا مخيل هتن

ينصرني حيث لا يكاد حم

يمنحني وده، ولا ختن

قد كان ظني يسيء بالناس لو

لاه، وفرد يحيا به الزمن

فهو لدى المعضلات مستند

وعند فقد الرجاء مؤتمن

نمت على فضله شمائله

ونفحة الورد سرها علن

لو كان يعلو السماء ذو شرف

لكان بالنيرات يقترن

فليحيى حرا ممتعا بجمي

ل الذكر، فالذكر مفخر حسن

 

فاروق شوشة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات