مرفأ الذاكرة

مرفأ الذاكرة

بحثت عن المجهول.. في الحياة وفي التراث

"عين غزال" قرية تتسنم قمة جبل ينبسط عند قدميه سهل خصب يمتد ليعانق شاطئا جميلاً رحيماً من شواطىء فلسطين المتوسطية على الطريق الساحلية التي تصل حيفا في الشمال بيافا في الجنوب. في هذه القرية الساحرة خرجت إلى النور في أحد الأيام المتأخرة من عام 1940، في جلبة صراع كوني هائل لم يكن أهل القرية يعلمون من أمره بكل تأكيد إلا أصداء باهتة. أما أنا فلم أذكر من حياة هذه القرية إلا مشاهد غائضة الملامح من طفولة مشرقة راضية وخطوات أولى إلى مدرسة القرية. ثم ما لبثت هذه الطفولة أن اتشحت بأثواب قاتمة تجللها المرارة والأسى وحزن راح يتحول مع الأيام إلى غضب مكنون وإلى قلق دائم وإلى حالة عصية من فقدان الرضى. ذلك أن "القرية ـ الفردوس" ضاعت مع جملة ما ضاع من الوطن، لا بل إنها "درست"، إذ بددتها أيدي المحتل المغتصب عن بكرة أبيها وحولتها إلى غابة غير إنسية، غلاً وكراهية.. كان "الخروج" إلى دمشق، حيث قضيت فيها سنوات "اللجوء" الأولى برعاية أم تقدم بها العمر وناءت بزمن الكدح وبالعجز فلم تطل بها المرابطة بعد ذلك كثيراً.. فتشكلت معارفي وخبراتي الجديدة في حقبة مرت فيها "الشام" بأغنى أطوار حياتها المعاصرة وتفتحت عيناي وملكاتي، في مدرسة موسى بن نصير وفي "التجهيز السادسة" و"التجهيز الثانية" والتجهيز "الأرثوذكسية"، على ما ندر لأحد في الخمسينيات العربية من عصرنا أن يخبره ويتعرف عليه..الانقلابات السياسية.. والصراعات الحزبية.. و"المجد الناصري" والوحدة السورية ـ المصرية.. والثقافة الأدبية والفكرية والفنية التي كانت تأتي من ضفاف الوادي "وادي النيل"، وتنشر أنوارها في كل مكان.. وفي جامعة دمشق حيث التحقت بقسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية عام 1958 اغتنت معارفي وخبرتي بفضل ثلة من الأساتذة الذين أدين لهم بما لا يأذن الحال بالتوسع في بيانه.

كنت قد فقدت الرضى حين ارتقيت سلم المجهول فحملتني الأقدار بعد ذلك إلى باريس، في رحلة كئيبة على ظهر باخرة يونانية هرمة نقلتني من مرفأ بيروت إلى مرفأ مرسيليا لأستقل من هناك القطار إلى المدينة التي لم يكن أحد من أقراني وغير أقراني ليراها إلا في ما يرى النائمون أو الحالمون.. وكان وصولي إليها في صبيحة يوم جليدي من الأيام الأولى من شهر نوفمبر من العام 1962.. في باريس شرعت في دراساتي العليا لدكتوراه الدولة في الآداب على اثنين من أكبر أساتذة فلسفة العصور الوسطى والدراسات الإسلامية آنذاك: موريس دي جاندياك وروبير برنشفيك.. وفيها عرفت العالم الجديد وترددت في أنوار المدينة التي "لا وصف لها"، المدينة التي ستصبح مكوناً عميقاً من مكونات حياتي الروحية والثقافية والعلمية.

تخرجت من السوربون في شهر مارس من العام 1968 قبل شهرين من "الثورة الطلابية الكبرى"، وغير بعيد من هزيمة العرب النكراء في يونيو من العام 1967.

ثم التحقت بالعمل الجامعي وشغلت به في عدة جامعات بمدن عربية وأجنبية عدة: عمان، باريس، الكويت. وشهدت المرحلة المتأخرة من هذه "السيرة" احتلال الكويت وأنا أستاذ بجامعتها فترك ذلك في نفسي ثورة ومرارة ونكداً لا حدود لها، وحول طريقتي في النظر إلى أشياء كثيرة. ومن المؤكد أن كتابي "الطريق إلى المستقبل" الذي ظهر في نهاية عام 1996 قد حمل آثارا قوية من هذه "المحنة" التي أعقبت واقعة أغسطس 1990 الكارثية، والتي يتوجب ألا يعود إلى مثلها أحد في أي يوم من أيام العرب القابلة.

المنظومة الفكرية

حين أرجع البصر في أعمالي أتبين على الفور أنني لن أخلف ورائي "مشروعا" بالمعنى الذي يتداوله المثقفون الذين نعرفهم في أيامنا، أعني منظومة فكرية ـ عملية جاهزة تريد، بادعاء وكبر لا حدود لهما، تغيير العالم وقلب نظام الأشياء، وفقاً لهذا المذهب المصمم تصميماً رياضياً أو فيزيائياً. وأنا سعيد بذلك. فالحقيقة هي أنني أجد نفسي أمام عالم روحي مشخص وجهتني إلى حجراته جملة الشروط الموضوعية التي خضعت لها منذ أن علقت بنفسي شواغل العلم والبحث والفكر. والذي يبين لي هو أن هذه الأعمال ليست في نهاية التحليل إلا جهودا مكثفة قد بُذلت في أكثر من قطاع وأنها تنشد بالدرجة الأولى كشف الغطاء عن أمور كانت مجهولة أي تسهم في تقدم المعرفة، وبالدرجة الثانية تنشد توجيه أفعالنا في عالم صعب عسير معقد، وبالدرجة الثالثة الأخيرة تطلب "التنوير" وفق "شبكة من الأفكار ـ القوى" الدافعة في الطريق إلى عالم أصلح.

في ضوء هذه الاعتبارات أستطيع أن أقدر أن جملة أعمالي تتردد بين حدين كبيرين: الأول التراث بما هو جملة معطيات لم يتم كشف الغطاء عنها وتحليلها تحليلاً كافيا والسؤال عن جدوى عناصره في زماننا وفي المستقبل، والثاني التقدم بالحاضر بتوجيه أفكارنا وأفعالنا وفق ما يلوح أنه يمثل مصلحة أعظم لنا ولأبنائنا ولأجيالنا القادمة في حدود المخاطر المحلية والكونية التي تهجم علينا من كل الجهات.

التراث الحي من وجه أول، بما هو قاعدة من قواعد الانطلاق.. والتقدم من وجه ثان بما هو استخدام للوجوه الحية من التراث ودمج لهذه الوجوه بالوجوه المستجدة على الدوام من حياتنا ومن حياة الكون بأسره.. هذان هما الهاجسان اللذان يؤسسان أعمالي.

ولأن التحول من التراث ـ أي من الماضي ـ إلى التقدم الذي يمثله طموح الحاضر وأمل المستقبل.. متبدل متغير لا ثبات فيه فإنني بشكل غير شعوري عملت وفق منهج يستبعد النظم الجامدة الراسخة التي لا تقبل مبدأأ التغير وتستقر في قلب مذهب شامل نهائي يعلو على الزمان ويعانق المطلق. وفي رأيي اليوم أن الحظ قد حالفني في هذا المنهج إذ جنبني الوقوع في شراك المذاهب الأيديولوجية الشمولية التي أضعفتها قوة التيار الكوني العام وأبانت تجاربها الذاتية نفسها عن وجوه القصور والخلل فيها، وإن كنت قد احتفظت من بعضها بثلة من المفاهيم والمقاصد التي أمكن تجريدها وتوظيفها خارج المنظومة الأيديولوجية الأصيلة الآفلة. وبذلك بدا لي أن حصاد عملي يقدم قبل كل شيء وبعد كل شيء ما يمكن أن أسميه جملة "كشوف ـ وظيفية" ذات مرجع قوي في عملية التقدم العام في وجودنا الحي المعاصر الذي يمد جذوره في الماضي لكنه يتجاوز هذا الماضي تجاوزاً ملموساً.

ما هي الآفاق والقطاعات التي وجهتني إليها الأقدار والوقائع ـ لأن هذه هي الحقيقة، إذ إنني مع إيماني بالحرية الإنسانية وبالقصدية الإرادية في الأفعال لكنني أعتقد اعتقاداً راسخاً أن الهامش الذي يتعلق بنا في هذه الأمور هو هامش ضيق جداً وأن "شروطنا الخاصة" المتصلة بحياتنا وبيئتنا وأصولنا والأزمنة التي نخرج فيها إلى الوجود والوقائع التي نتقلب فيها وحركة العالم من حولنا وإمكاناتنا الذاتية الروحية والمادية.. وقدراتنا المعرفية والفعلية.. كل ذلك يؤدي دوراً حاسماً في "مشروع حياتنا" ويجعل من دورنا الذاتي المستقل الحر في هذا المشروع دورا غير حاسم في معظم الأحوال.

لقد فرض علي طلبي للعلم في باريس في الحقل الذي حملتني الأقدار إليه بجامعة دمشق ـ وهو العلوم الإنسانية والفلسفة ـ أن أخضع لجملة الظروف والشروط الموضوعية التي يخضع لها أي طالب يلتحق بأعرق جامعة في العالم، يرجع تاريخها إلى مطلع القرن الثالث عشر، أعني جامعة السوربون، حيث تتاح فرصة غير عادية للدارسين لأن ينجزوا دراساتهم العليا على أكبر أساتذة القرن في جو من الصرامة الأكاديمية والعلم الدقيق والتقاليد العلمية والأخلاقية الراسخة. ولقد أخترت أن يكون موضوع بحوثي لدكتوراه الدولة في هذه الجامعة المنطقة التي جمعت بين الأصول التي ينتمي إليها العالم الحديث، أعني العالمين الإغريقي والإسلامي. فهذان هما في الحقيقة مبدأ الحضارة الحديثة وأصلها ومنبعها. وبهذا الاختيار الذي اكتشفت قيمته بشكل أفضل في وقت لاحق، تحددت طبيعة أعمالي ووجهتها وبدت هذه الأعمال ثمرة لتلاقح هذه العوالم الثلاثة: عالم الإسلام وعالم الإغريق والعالم الحديث، عالم الحداثة.

اتجاهات ثلاثة

وهكذا أرى أن بحوثي قد اتجهت في جملة الأحوال في اتجاهات ثلاثة متمايزة لكنها متواصلة.

الاتجاه الأول: البحوث العربية والإسلامية.

الاتجاه الثاني: البحوث العربية ـ الإغريقية.

الاتجاه الثالث: البحوث العربية الحديثة والمعاصرة.

ولقد بدأت بواكير هذه البحوث في فرنسا فجاءت باللغة الفرنسية لتقدم لمستخدمي هذه اللغة جملة وجوه أصيلة من الفكر العربي والإسلامي لم تكن معروفة، إذ كانت جميعاً بحوثاً مبتكرة وفق ما تقتضيه طبيعة وشروط النشر العلمي في أجواء الغرب. فالرواقية في الفكر الإسلامي، والوحي والإلهام في الإسلام "مقارنين بما هما عليه في الفكر المسيحي"، وفلسفة أبي سليمان المنطقي السجستاني، والملائكة في الإلهيات الكونية الإسلامية، والشروط الاجتماعية الثقافية للفلسفة الإسلامية، ومفاهيم الأمة والمجتمع في الفكر الإسلامي.. هذه الموضوعات قد تم تقديمها للمثقف الغربي لتسهم في توسيع الساحة المعرفية الغربية بآفاق الفكر العربي والإسلامي الرفيعة. وقد تابعت بعد ذلك هذا النمط من البحوث ـ باللغة العربية ـ جمعتها اليوم مع بحوث الآفاق الأخرى في هذا الكتاب الذي صدر هذه الأيام عن المؤسسة العربية.. ويحمل عنوان: "الماضي في الحاضر ـ دراسات في تشكلات ومسالك التجربة الفكرية العربية"، وفي القسم الأول من هذا الكتاب الذي يحمل عنوان: "مراكب لكل العصور" وضعت مجموعة البحوث التي تعالج وجوه الفكر العربي التي تستند إلى ما أسميته بـ "مركب الوحي" حيث يمثل النص ـ أو الوحي الأساس الأول للتجربة الفكرية العربية الإسلامية في بعدها المحوري الأول الذي هو النص الديني الإسلامي. وبذلك استقر "الوحي" أصلاً معرفيا أو ابسيتمولوجيا جوهرياً في جملة التجربة الفكرية التي شغلتني خلال فترة طويلة ومازالت تحتل مكانة أساسية في هذه التجربة.

أما الاتجاه الثاني الذي عبرت عنه البحوث التي تتردد بين عالم العرب والإسلام وعالم الإغريق فقد كان "مركب العقل" محركه وباعثه ومحوره. ولقد أبانت هذه البحوث عن حقيقة أصيلة وثمينة في مضمار النظر الحضاري المقارن وفي أصول عالمنا الحديث، وهي أن العقل الذي كان آلة الإغريق الأولى في حقل النظر الفلسفي والعلمي استمر ليكون كذلك عند العرب والمسلمين الذين اشتغلوا في العلوم العقلية ـ أي في الفلسفة وعلم الكلام والعلوم الطبيعية والوضعية. وقد كشفت جملة البحوث هنا ـ ويعضدها ما أنجزه باحثون آخرون ـ عن أن "العقل" الفلسفي والعلمي العربي ـ الإغريقي قد كان في مبدأ انطلاقة ما نسميه بالحداثة العقلية الأوربية. إن مقولة "الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا" هي بكل تأكيد مقولة زائفة. لأن الذي حدث فعلاً هو أن هذين العالمين قد التقيا: التقيا فعلاً في منطقتين: الأولى منطقة الفلسفة والعلم والثانية منطقة الدين الموحى، أو السماوي. وذلك برغم التقابل التاريخي الدامي الذي ولدته صراعات المصالح والغايات الدنيوية. فأنا لا أعتقد، في ضوء التجربة العقلية والعلمية العربية في عصور التدوين والتشكل والاكتمال العربية أي في الفترة من القرن الثاني حتى القرن السادس الهجري، أن جملة المنجزات العقلية والعلمية بآفاقها الروحية ومستنداتها المنطقية والمشخصة تفارق أو تناقض المنجزات التي أمكن للغرب أن يحققها منذ التيار الرشدي اللاتيني ـ سيجر دي برابان ـ مروراً بديكارت وانتهاء بعصر التنوير وبالعقلانية الموضوعية الحديثة التي أفضت إلى ذرائعية الحداثة. إن روح "تيار الرأي" في الإسلام وتيار العقل الاعتزالي ـ الرشدي مكافئ تماما للروح اللاتينية المتأخرة ولروح الحضارة الغربية الصاعدة. والفروق ليست مما يباعد بين العالمين على وجه التناقض الذي لا يرحم. ومن وجه آخر لا أحد منا أو من الغربيين يستطيع أن ينكر الأساس التراثي المشترك الذي يمد جذوره في "الوحي السماوي" ولا التراث الدنيوي الذي أسهم في تقدم الغرب. فبرغم الجدل والخلاف حول بعض المسائل اللاهوتية التي تعزى إلى مشكلة الوثائق ومشكلة التفسير والفهم، يظل الأساس واحداً وتظل الأغراض متقاربة جداً. وقد لا يباعد بين الطرفين ـ في هذا السياق ـ إلا ما فرضته الدولة المدنية الحديثة على الكنيسة من اجتزاء بالحياة الروحية للبشر واستقلال بالذات عن المسائل السياسية، وهو أمر لم تعهده الكنيسة القديمة ولم ترض به الكنيسة بعد ذلك إلا رغماً عنها. وخالص ذلك عندي أن المراكب الإغريقية التي ركبها العرب والمسلمون مقودين بالعقل قد أصبحت أصلاً ثانياً لمسيرة الفكر العربي وفق تجربتي معه، أصلاً ينضم إلى الأصل الأول، الوحي، على نحو يسوغ القرابة بين الحضارة العربية الإسلامـيـة والحضارة الغربية ولا يضع بينهما فروقاً جوهرية تجعل الحوار اليوم وغداً بينهما ممتنعاً أو اللقاء عسيراً وهو ما انتهيت إليه في كتاباتي المتأخرة.. وذلك بطبيعة الحال عند المستوى المعرفي والروحي. ويكفي أن نتذكر هنا أحوال أفلاطون وأرسطو وابكتياتوس وأفلوطين ـ وهم اليوم أسلاف الغرب ـ في التراث العربي الإسلامي لنكون واثقين مطمئنين إلى هذه الحقيقة. لاشك أن مرحلة ما بعد الحداثة التي تنتشر في أجواء الغرب تند عن هذا التقدير لكن الغرب لا يتمثل بأجمعه كامل وجوه هذه المرحلة.

التراث وعوامل الإحياء

لقد كان أحد هواجسي ومقاصدي أيضا الحقيقية ـ في كتاباتي العربية على وجه الخصوص ـ لا الإسهام في توسيع دائرة معرفتنا العلمية الصارمة بالتراث المجهول فحسب وإنما أيضاً ربط ما يمكن ربطه منه بشروط الإحياء الحديثة والمعاصرة وباستراتيجية التنوير الأصيلة. ولذا كانت فكرة إبداع التراث مركزية في نظري. إذ إنها لم تكن تعني ربط الماضي بالحاضر، وإنما ربط الحاضر بالمستقبل أيضاً، هذا المستقبل الذي يلوح في الأفق وينذرنا بمخاطر عظيمة إن نحن لم نهيئ أنفسنا له على نحو مكافئ.

والحاضر الذاهب إلى المستقبل هو الذي حملتني إليه أو ربطتني به هواجس التراث والحداثة وقضايا العصر المباشرة وما أسميته أكثر من مرة بأزمة الآفاق المسدودة، فأفرغت الوسع في التأمل والتفكر في المسألة لأضع "الطريق إلى المستقبل" وأعالج معالجة تنويرية القضايا الجوهرية الثائرة التي اعتبرت أن إنارتها وتوضيحها وتحليلها هي جزء من عملية الإعداد للمستقبل، لا في سياق وضع منظومة شاملة هي مشروع مذهبي، وإنما في سياق إعمال الفكر والنظر والتأمل بقصد التنوير وتوجيه الأفعال وفق شبكة من الأفكار ـ القوى. وقد كان من بين جميع المواقف التي لزمتها في هذا العمل الأخير تمسكي بالاعتقاد بأن المشكلة ليست مشكلة معرفة ومنهج وأيديولوجية بقدر ما هي مشكلة "فعل" سديد يكافئ الظروف الموضوعية، ولا يقفز فوق الواقع ومتطلباته النقدية العملية. وقد حرصت حرصاَ شديداً على دفع شبهة التشكيك في كفاية "العقل العربي" على أداء "الوظيفة العقلانية" وذهبت إلى أن الخلل لا يكمن في العقل وفي قدرته أو عجزه عن التفكير العقلاني بقدر ما يكمن في "الفعل العربي" وفي أحوال العطب والفساد التي تعبث فيه وتفسد على صاحبه وأهله وجودهم ومستقبلهم. ههنا، وبسبب هيمنة العقلانية الذرائعية أو الأداتية على العالم الحديث أدخلت أصلاً وجدانياً في مركب التقدم هو العلائق الوجدانية التواصلية التي من شأنها تعديل طغيان الذرائعية والتقنية والاجتزاء بالخير الخاص. كما أنني، لأغراض توجيه الفعل،قمت بالتنبيه على خطورة وحتمية الأخذ بجملة من القيم الفاعلة في الآفاق العربية والكونية: التنمية، العدالة، الديمقراطية، النزاهة، العقلانية المشخصة، الواقعية المقيدة الفاعلة، التواصل.. إلخ. وقد نبهت في هذا الصدد تنبيهاً شديداً لم يلتفت إليه أحد من قبل على قيمة "التواصل"، وكذلك على أهمية اختيار طريق "الصراع الآمن" والحوار لا طريق "التقابل الجذري" الذي يمكن أن يوقع في شراك أصحاب "صراع الحضارات". وههنا في هذه المرحلة المتأخرة من عملي عدت مراراً إلى مسألة "العقل العربي" وقلت إن العقلانية المسرفة الجافة لا تفي بمتطلباتنا الإنسانية، إذ إن المركبات الأنتروبولوجية للإنسان ـ لا تستقل بفعل الإنسان ووجوده وإنما ينبغي أن نتوجه إلى ما أسميته بالعقلانية المشخصة ـ أي العقلانية التي تضع العقل في جملة شروطه المشخصة وتحد من غلوائه ـ وإلى القوة الوجدانية في الإنسان، لنواجه العالم لا بالنص وحده ولا بالعقل وحده وإنما بهما وبالوجدان أيضاً وبمعانقة وقائع التنمية والتقنية والحداثة ومتطلباتها على وجه إيجابي.

فلو سألني سائل عن جملة المبادئ ـ الأصول التي توجه مركب النظر والفعل عندي لقلت إنها تلك التي وجهت مراكب جملة التجربة الفكرية العربية، وفق معادلتي الذاتية: النص، والعقل المشخص، والعلائق التواصلية والوجدانية، وقيم الحداثة الموافقة لتلك الأصول.

البحث عن الحقيقة

أعود وأكرر القول إنني لم أدع في يوم من الأيام، ولن أزعم اليوم، أنني قدمت منظومة فكرية نهائية ـ أعني منظومة أيديولوجية جاهزة ـ وأنني لا أرغب في ذلك على الإطلاق، وعن سابق عمد وإصرار. إذ إنني أرى أن قصارى هم الباحث الذي يجنح إلى التفكير في المسائل الراهنة الحية على شاكلتي ـ وهو في حقيقة الأمر هاجس العالم المفكر أو المثقف بالمعنى التقني للكلمة ـ أن يحقق مزيداً من الكشف عن الحقائق في عالم يكتنفه الجهل والظلام والهوى والعطب، وأن ينفذ الحامل "النقدي" إلى أقصى مداه، وأن يسهم في إشاعة قيم التنوير والتقدم والفعل السديد كي تتشكل في نهاية الأمر وعلى مدى قريب أو بعيد شبكة قوية من وجوه الرأي والنظر والتصور والفعل الاجتماعي والسياسي والأخلاقي ـ أي شبكة من "الأفكار القوى" تؤذن بفرض تغيير للأحوال باتجاه التقدم حين لا يكون ذلك ممكناً بالطرق الأخرى. إن القيم التي تسود حياتنا وتوجه سلوكنا ـ قيم المنفعة والفردية والنفاق ونشدان الخير الخاص، ونبذ الخير العام والفوضى والهوى.. وغير ذلك ـ هي قيم قاصرة، وهي لا تصلح أبداً لمضاهاة التمدن المعاصر ولمجابهة مخاطر الحاضر والمستقبل، وبفضلها أو بسبب منها يمكن لها إن استمرت على الشاكلة نفسها أن تؤذن بانقراضنا وخروجنا من ساحة التاريخ في القرن القادم الذي تحاصرنا إرهاصاته وقواه الصاعدة المحلية والكونية على نحو شديد وقاس وغير رحيم.

شبكة من الأفكار ـ القوى الدافعة إلى الفعل المجدي السديد والمستندة إلى استراتيجة في العمل صارمة تتولاها دولة رحيمة ومؤسسات سياسية واجتماعية نزيهة.. وقوى فردية وجماعية إنسانية.. ذلك هو الذي نحتاج إليه اليوم. إن الكلمات التي اشتمل عليها هذا المعجم تختزل على وجه كاريكاتوري في المفردات التالية التي ينتمي بعضها إلى طريقة في النظر والتفكير والفعل، بينما ينتمي بعضها الآخر إلى الممارسة العملية والفعل: العقلانية المشخصة، الواقعية المقيدة، المناسبة والمصلحة والجدوى، النزعة الإنسانية، النظر النقدي، نشدان الخير العام، النزاهة، العدالة، الحرية وحق الاختلاف، الإرادة التمثيلية للأمة، التنمية، إصلاح الفعل، التواصل، حسن توزيع الأدوار، حسن توزيع السلطة.. الفاعلية والاتقان والكفاية.. إن دولة العدالة والديمقراطية والخيرالعام والنزاهة تستطيع بمؤسساتها النزيهة النقية وبقوى رعيتها الفاعلة أن تسهم إسهاماً حقيقياً في إنقاذ هذه القيم.

كما أن إشاعة أجواء القانون والمسئولية والمشاركة العامة الحقيقية في بناء الدولة والمجتمع وتسييرهما تؤذن بتسيير وتجذير هذه الأفكار والقيم.. إن هـذا المعجم ثقيل جداً.. وقد يبدو بالنسبة إلينا من تحميل "ما لا يطاق".. ويزيد من وطأته أن الأوضاع السائدة في عالمنا العربي تسير في الاتجاه المعاكس تماماً لمفردات هذا المعجم.

ويضاعف من محنة هذه الأوضاع الإخفاقات الوطنية والقومية والاقتصادية والسير في طريق الاستنزاف العام لقوى الأمة ومقدراتها والسياسات الكارثية لبعض الأنظمة السياسية العربية والوقوع في براثن المديونية والتبعية.. ومثل هذه المخاطر يفضي إلى أحوال من اليأس مشهودة.. لكن وعي الخطر وإرادة البقاء وتغليبهما على خطر الفناء يمكن أن يمثلا حوافز إيجابية لاستئناف النظر والفعل من أجل إنفاذ شبكة التقدم التي نوهت بها.. بصبر وإصـرار وعناد ومن دون كلل على كل وجوه المدى: القريب والأبعد والبعيد.

إذا كان هذا القول يختزل أعمال الماضي والحاضر على نحو من الأنحاء، ويستحضر على سبيل الإشارة بعض ما جرى في مرافئ عين غزال ودمشق وباريس، وعمان، والكويت.. وأماكن أخرى، مما قد لا يستوعبه، بعد إعادة إنتاجه وتركيبه وإبداعه على نحو شخصي، إلا عمل روائي من الطراز الرفيع.. فإن الذي يلي ذلك هو تطلع النفس إلى الارتحال من جديد.. إلى مرافئ المستقبل.. بعض شخوص هذه المرافئ يتراءى لي بنور جلي، وبعضها لا يبدي لي من نفسه شيئاً.. وأنا قبل كل شيء وبعد كل شيء، أرجو أن تحمل إليّ هذه المرافئ مع ما خلص لي من حصاد، الأمل والنشاط والفاعلية والعمل والإبداع وفرح الوجود واسترداد الرضى.

 

فهمي جدعان

 
  




د. فهمي جدعان