مكتبة الإسكندرية أحرقت أكثر من مرة

مكتبة الإسكندرية أحرقت أكثر من مرة
        

          نشرت مجلة (العربي) الغرّاء في عددها 556 (مارس 2006) وعلى صفحتها رقم 60 مقالاً موسومًا بـ(مكتبة الإسكندرية القديمة.. ما المصير?), للدكتور قاسم عبده قاسم, طرح فيها بعض الآراء التي تسلط الأضواء على تهمة إحراق المكتبة. وقد آنست من الموضوع أهمية, فأحببت أن أتناوله من زوايا أخرى تفيد الموضوع وتضيف إليه بعض الحقائق.

          ساق الإسكندر المقدوني جحافل جيشه نحو آسيا, وأطلق أيدي فرسانه في أقطارها ليمعنوا فيها فتحًا فثلّوا سلطانها ودكّوا عروشها, حتى قيض لهم نصرهم الاستيلاء على إرث ملوك الفراعنة والبابليين والآشوريين, فأوعز لخاصته القيام بنقل ما في خزائن تلك الأمم المغلوبة على أمرها إلى اللسان اليوناني وأرسله إلى مصر.

          ولكن موت الإسكندر (عام 323) كان إيذانًابصاعقة بددت شمل تلك الإمبراطورية التي أقام بنيانها وأسس دعائمها, بسرعة استجلبت معها الفوضى, فاختلّ النظام وترجرج حبل الأمور, وفي سبيل الاحتفاظ بأجزاء منها, مارس قواده ظلمًا بشعًا, فرحل معظم علماء اليونان ميممين وجوههم, ناحية الإسكندرية, حاملين في مؤن رحلتهم, نتاج قرائحهم, وخصب عقولهم.

          كانت الإسكندرية, يومذاك, تحت حكم البطالمة, وكان سوتر مَفْزع الهاربين, محبًا للعلم, عادلاً في مقسطة, منصفا لأقدار العلماء والأدباء, فتوافدت على الإسكندرية أفواجهم, حتى غصت بهم مدارسها, وناءت من اكتظاظها بهم, دورها وأنديتها, فتجمعت للإسكندرية فرصة ذهبية, في توفر مذاخرهم التي حملوها معهم, وفي ملك قربهم إليه, وأدناهم من بلاطه وأغدق عليهم منحه وعطاياه.

          وللتأسيس روايتان, أولاهما أن خطيبًا أثينيًا هو ديمتروس فاليروس قد أشار على سوتر بفكرة جمع الكتب من شتى أصقاع الأرض في مكتبة, فقبل مشورته, وعهد إليه بذلك, فأخذ فاليروس يبتاع الكتب من ورّاقيها بغالي الأثمان, حتى تيسّر له جمع (54 ألف كتاب) في مدة وجيزة, ارتصفت على رفوف مكتبة الإسكندرية الشهيرة.

          وثانيهما, ما ذكره ابن النديم في (الفهرست ص239) وأرجع فيها فكرة إنشائها لرجل يدعى إسحق الراهب, بتكليف من بطليموس. كما تزيّد ابن النديم في رقم ذخيرتها فأضاف عليه مائة وعشرين كتابًا. لكن المؤرخين يردون رواية ابن النديم إلى اختلاط, ما بين سوتو وخلفه: بطليموس فيلاذلفوس, الذي تولى عرش البطالمة بعد سلفه, في عام 285 ق.م, وكان هذا مؤسسًا ثانيًا للمكتبة, إذ دفعه حبه للعلم إلى توسيعها, وإضافة بعض من الكتب, مما لم يكن موجودًا فيها, ويذكر جورجي زيدان - تاريخ التمدن الإسلامي بعضًا من تلك الإضافات.

تحترق أكثر من مرة

          والحق, أن هذه المكتبة قد دُمرت وأُحرقت أكثر من مرة. ففي عام 47 ق.م. حوصر (يوليوس) قيصر الروم بالإسكندرية فانتهب الجنود بعضًا من كتبها وأحرقوا قسمًا آخر. ولما تولّى الإمبراطور تودوروس, أسرع إلى إصدار أمر يُحرّض فيه جماعة من المتعصبين للمسيحية بالقضاء على جميع المعابد الوثنية وجعل عاليها سافلها - كما يذكر العلامة محمد كرد علي في كتابه: الإسلام والحضارة العربية.

          ثم استغل الأساقفة ضعف الإمبراطور تيودوس لما تولّى, فمنع أحدهم - تيوفيل - التعاطي مع الفلسفة اليونانية وآدابها, ثم تمادى حتى أمر بتدمير السيرابيوم عام 391م, ليشيد على أنقاضه, جملة من كنائس, فلم يبق للمكتبة والدار إلا أنقاض جدر آيلة للسقوط. وإنك لتجد في كتاب حسن إبراهيم عن تاريخ ابن العاص أن كتبًا ذات صبغة وثنية قد ترامت في مواقد النيران, وكتبًا علمية قد أرست بها سفائن عند القسطنطينية, ثم في غفلة من المعنيين أم بدسيسة المغرضين, تطاولت الأيدي إلى هيكل (سرابيس) فدمرته وأحرقته في الحال وجميع محتوياته والكتب التي كانت رفوفه تغص بها.

          ومهما يكن الأمر, فقد تلاشت مكتبة الإسكندرية قبل الفتح الإسلامي بمدة طويلة, يصعد بها مؤرخون إلى قرنين من الزمان, ويرون لم يكن في الإسكندرية حين الفتح العربي ما يُحرق من كتب.

رواية القفطي

          في دار الكتب المصرية, نسخة خطية من كتاب تراجم الحكماء لوزير حلب المعروف بالقفطي, ولهذا الرجل مثالب كثيرة, إذ نزعت أقواله عن جادة الصواب إلى هوّة التغرّض, والتشيّع, وندّت عن قلمه فواحش الخطل وعماهة الاقتباس, فلقد قال ذات مرة, إن سقراط كان شاميًا - وهو من أهل أثينا, وقال عنه أنه مات وهو في الثمانين, في حين أن المعلم الكبير قد توفي عن إحدى وسبعين سنة.

          ومن المؤسف أن يطلق مؤرخون مغمورون روايات هدامة تعلّق بها البعض لحجب الشمس بغربال كذوب, ومن نكبة أهل الحقائق أن تنزلق فئة من المؤرخين الموتورين فتعلن عداءها للعرب, وتسوّغ لنفوسها المريضة ركوب موجة العداوة لتشوّه وجه تاريخهم المشرق بدسائس ملفّقة وحوادث مزوّرة ووقائع مختلفة, مغموسة بركاكة التفسير ومُدانة بعماء التأويل, حتى نفثت فيه من سمومها كل ما ينتقص جليل قدرهم ويلوك جميل سمعتهم بقوارص الأقاويل, لتحوز شفاء لغلّ قلوبها وتنال غيظ نفوسها وتتوهم إطفاء حزازات صدورها, متناسية أن الأرواح إذا اتصلت بطلت الأشباح!

          وقد قال جوستاف ليبون, نقلاً عن (لودفيك لالان) الذي ناقش, باستفاضة, مشكلة إحراق مكتبة الإسكندرية: (إن أول مؤلف ذكر حريق (العرب) لهذه المكتبة هو عبداللطيف الطبيب العربي البغدادي الذي توفي سنة 1231 أي بعد 591 سنة من وقوع تلك الحادثة).

          وإذا نحن راجعنا (الإفادة والاعتبار) فسنرى أن البغدادي قد زار مصر في أواخر القرن السادس لهجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم, وذكر إحراق العرب لهذه المكتبة, فيقول: (وإنه - أي رواق المكتبة - دار العلم التي بناها الإسكندر حين بنى مدينته وفيها كانت خزانة الكتب التي أحرقها عمرو بن العاص بإذن عمر رضي الله عنه)!

          وهذه الرواية مشكوك في أصلها, منزوع عنها أقسسها, إذ لم يذكرها أحد من قبله, والأنكى ألا يذكرها الطبري والمسعودي وابن خلدون والبقولي وابن الأبكر وغيرهم.

موسى زناد سهلي
بغداد - العراق