باريس مرآة القرن الواحد والعشرين أنور الياسين تصوير: أنور الياسين

باريس مرآة القرن الواحد والعشرين

عندما تسأل باريس عن الشيخوخة تقول لك إنها الأعراض التي تشعر بها المدن الأخرى. فهي لا تعاني من هذه الكلمة، وهي لا تتقادم لأن الزمن يتحول إلى أكسير سحري يزيد في شبابها. وهي برغم ذلك قادرة على التغير والتكيف. فباريس مدينة حساسة، ويمكن أن نعدها بمنزلة "الترمومتر" الذي يمكن أن نقيس به التغيرات التي ستحدث في أوربا والعالم، أي أنها مرآة لكل ما يحدث، خاصة لما سيحدث في القرن الواحد والعشرين.

كان السؤال الذي طرأ على خاطري مع اللحظات الأولى في مطار "شارل ديجول" بباريس : كيف يمكن اكتشاف مدينة بهذا الاتساع في المكان، والتداخل في الزمن في أيام قلائل؟! كيف يمكن الاستدلال على روحها وهي المدينة التي جمعت في صفاتها كل المتناقضات ؟! فهي مدينة "الجن والملائكة" - على رأي عميدنا طيب الذكر طه حسين وهي مدينة العقل والفجور. والحكمة والجنون. والظلمة والنور. هي باختصار مرآة النفس البشرية. ترى فيها ما تود أن ترى فيه نفسك.

إن هناك نقاطا أساسية تجعل من باريس مكانا مميزا. ومن لم يرها لم ير باريس. قوس النصر ميدان الكونكورد، برج إيفل، حدائق لافايت، كنيسة نوتردام، متحف اللوفر، كل هذه من معالم الماضي التي لا تزال حية، ولكن باريس أيضا تحمل أهم صفات المستقبل. تلك القدرة على الحلم والتصور والتخيل والنظر إلى ما وراء الأفق. ولكن قبل أن نغوص بحثا عن ملامح هذا المستقبل علينا أن نبحث عن جذور هذه المدينة التي ولدت في يوم ما من أيام القرن الأول قبل الميلاد أي أن عمرها قد تجاوز الألفي عام ومع ذلك لن تشعر معها بوطأة هذا العمر.

يقال إن الذي بناها هو يوليوس قيصر، لقد جاء غازيا إلى بلاد الغال وقال قولته الشهيرة "حضرت ورأيت. وانتصرت" لقد بدأ رحلته بلا شك كما بدأنا نحن رحلتنا من خلال النهر الذي يشق قلب المدينة "نهر السين". فلا يوجد في العالم نهر بهذا الصغر، ومع ذلك ترقد على ضفتيه كل هذه التواريخ. لقد ولدت المدينة فوق جزيرتين في هذا النهر هما "سانت لويس" و"السيتيه". نشأت عليهما قريتان صغيرتان يسكنهما الصيادون والمحاربون وصانعو العملات التي كانت تسمى "باريزي" الذي منها اشتقت المدينة اسمها.

وعندما جاء قيصر الرومان حول القرية إلى حصن. وأقام أول حامية عسكرية، ثم سرعان ما شقت الشوارع وإقيمت المعابد والمسرح الدائري. لقد تقلصت هذه الآثار الرومانية أمام الزحف العمراني، والتعديل الذي أصاب باريس أكثر من مرة، ولكن بقايا هذه الآثار مازالت موجودة في مقابر "نوتردام"، ومع الفتح العربي للأندلس بدأ ازدهار باريس حين تدفق عليها المئات من الفرنجة الهاربين وشهدت عملية تعمير واسعة.

في عهد الملك فيليب أوغست عام 1223 بدأت باريس تكتسب وجهها الذي مازالت بعض ملامحه باقية حتى الآن. بنى حولها سورا ضخما. ووضع الأساس للقلعة التي سوف تتحكم في هذا السور وكان اسمها "حصن اللوفر". إنه نفس القصر الذي تحول إلى أشهر متحف في العالم. وتم إنشاء مدرسة "السوربون" التي كان الهدف منها تعليم اللاهوت ثم تحولت هي أيضا إلى واحدة من أشهر جامعات العالم. وعندما تولى ابن عمه فيليب السادس العرش من بعده عاشت باريس فترة مضطربة حين دخلت في حرب المائة عام مع إنجلترا ولكن هذا لم يمنع فيليب السادس من أن يواصل إنشاءاته. ولا بد أن الخارجين على القانون في عهده كانوا كثيرين لأنه أنشأ أكبر السجون التي عرفتها المدينة، وهو سجن "الباستيل"، الذي تحول إلى كابوس جثم طويلا على صدرها..

كانت باريس على موعد مع أشهر ثورات التاريخ حين هاجت الجماهير الجائعة في الشوارع في 12 يوليو عام 1782 وهي تحمل البنادق والسيوف. كانت ثورة ضد الملكية وضد سجن الباستيل الذي يمثل قسوتها وسطوتها، وبعد يومين فقط من الهياج سقط الحصن الشهير وسرعان ما سقط أيضا الملك لويس السادس عشر في قصر فرساي وأخذ أسيرا هو وأسرته. وبالطبع كان هناك القول المأثور الذي نسب إلى الملكة ماري أنطوانيت حين أطلت على الجماهير الجائعة وهي تتساءل في براءة "لماذا لا يأكلون "الكيك" إذن؟. " وسواء أكان هذا القول صحيحا أم لا. فقد دفعت رأسها ثمنا له.

في 21 يناير في العالم الثالث أي بعد عدة شهور من عذابات الملك تم إعدامه في ساحة الثورة. وبدأت باريس تعيش فترة دامية من القلق والتوتر والاغتيالات والوشاية. إنه عصر الإرهاب كما أطلق عليه الأديب الشهير "الكسندر ديماس" فترة تحلل النظم القديمة والبحث عن شكل جديد. في هذه الفترة أطلق شعار الحرية والإخاء والمساواة. وارتفع العلم المثلث الألوان. وقضي على الأرستقراطية. وبزغ نجم الطبقة المتوسطة البرجوازية، ولم تلتقط باريس أنفاسها إلا بعد أن صعد نابليون بونابرت على العرش.

باريس تلتقط أنفاسها

لقد قاد نابليون باريس إلى غزو أوربا كلها، حتى أصبحت سيدة المدن. وهي تدين لنابليون بونابرت بالكثير من معالم العمران أو بالأحرى بالشكل المعاصر الذي نراه حتى اليوم. في عام 1804 عاشت باريس ذروة مجدها وهي تحتفل بتتويج هذا الإمبراطور. وعاشت معه 15 عاما من الانتصارات والمجد. وعندما بني "قوس النصر" في شارع الشانزليزيه الشهير، كان يحلم بأن يسير من تحته وهو عائد منتصرا من روسيا. ولكنه بدلا من ذلك هزم على يد الثلوج الروسية الشهيرة، ولم يمر من تحت هذا القوس إلا وهو جثة هامدة بعد أن سمح الإنجليز بالإفراج عن هذه الجثة وعودتها من جزيرة سانت هيلانة حتى تدفن في باريس.

لم تتوقف باريس عن التطور. إنها مدينة حية قادرة على أن تغير نفسها مع كل مرحلة من مراحل التاريخ وتأخذ طابعا جديدا وفتيا. وميزة باريس هي أنها مدينة مفتوحة، يعشق أهلها الشمس والطرقات والحياة في الشوارع، وقد أعطاها هذا طابعا مختلفا عن بقية المدن الأوربية.

لقد لاحظ شيخنا الجليل رفاعة الطهطاوي مدى اعتزاز الفرنسيين بمدينتهم، ومدى درجات الغضب التي يعانون منها أيضا حين سجل الثورة الثانية المعروفة بكميونة باريس عام 1848 ، وشهد ذلك التحول في المزاج الباريسي من حب القتال إلى الرغبة في الحياة.

لقد قرر أهل باريس أنهم في حاجة إلى فترة يلتقطون فيها أنفاسهم. ومع نهاية القرن التاسع عشر انتابتهم حمى الإبداع والتغيير وهبط الناس إلى الشوارع بمناسبة وبلا مناسبة للاحتفال. ولم يهبط الناس العاديون فقط، ولكن هبط الفنانون والأدباء. ونقلوا الفن معهم من القصور إلى الشوارع، فازدهر الشعر والمسرح والرسم، وظهرت موجات فنية متتابعة مثل التأثيرية والانطباعية والسيريالية. تألقت اسماء أمثال فيرلين ورامبووبوفاليري وأبولونير. وازهرت ريشة مونيه وسيزان ولوتريك ورينوار، وعاش أهل باريس حياتهم بالطول والعرض في سنوات عرفت باسم العصر الذهبي. وهي نفس السنوات التي شاهد نهايتها طه حسين وتوفيق الحكيم والتي لم تنته إلا مع دوي مدافع الحرب العالمية الأولى.

عاشت باريس حربين دفعت ثمنهما غاليا، ووقعت فريسة للاحتلال الألماني عام 1942 أثناء الحرب العالمية الثانية، وكان هم أهلها ليس محاربة جنود الاحتلال فقط، ولكن الحفاظ على الثروة الفنية والثقافية لهذه المدينة، وكانت هذه هي مشكلة الحلفاء أيضا. كيف يمكن تحرير المدينة دون أن تدمر؟، ويمكن القول إن باريس كانت محظوظة وإنها نجت بأعجوبة من أتون هذه الحرب الضارية.

نظرة طائر

كان موعدي على العشاء في أعلى نقطة في باريس. أعني برج إيفل. وإذا كان النهر يمثل امتداد المدينة في التاريخ، فإن البرج يمكن أن يعطينا نظرة طائر على الحاضر الذي تعيش فيه باريس الآن. كان البرج يخضع للصيانة والترميم وهي عملية تحدث مرة واحدة كل سبع سنوات. وبرغم أنها عملية شاملة فإنها لا تعوق الأنشطة التي تقام في البرج ولا توقف حركة الزوار.

كان موعدي في مطعم "جول فيرن" الدائري في الطابق الثاني. وقالت لي مرافقتي اليزابيث سيمون من مكتب السياحة الفرنسي "إن هذا المطعم قد أخذ اسمه من المؤلف الفرنسي الشهير الذي كان أول من كتب روايات الخيال العلمي في أواخر القرن الماضي، كان رجلا حالما، لذلك فقد رحل إلى العوالم المختلفة، القمر، وباطن الأرض، وأعماق البحار واخترع بخياله أيضا الصواريخ والمركبات والغواصات. ولقد كان هذا البرج وقت إنشائه أشبه بأحلام جول فيرن.

باريس تمتد تحت أقدامنا في مشهد لا يتصوره خيال. فالبرج يتوسط المنطقة السابعة التي تعد أرقى أحياء المدينة. أمامنا تتوهج قبة "الأنفاليد" الذهبية التي تضم تحتها قبر "نابليون بونابرت" ويحيط به متحف حربي يحتوي على المراحل المهمة في التاريخ العسكري الفرنسي، وفي الجانب الآخر متحف "أورسيه" الذي يعد واحدا من أغرب المتاحف في العالم. فقد كان محطة للسكك الحديدية يعود تاريخها لأوائل القرن. ولكنه منذ عام 1984 وقد تحول إلى متحف للفن ومسرح دائم. وأهمية المتحف أنه يكمل الحلقة الناقصة في تاريخ الفن بعد اللوفر، فهو يحتوي على المرحلة الرومانسية وبعض موجات الفن التي ازدهرت في باريس قبيل الحرب العالمية الأولى.

عادت مرافقتي تحدثني عن البرج: هل تصدق أن هذا البرج الذي أصبح رمزا لباريس قد أثار موجة من الاعتراضات كما لم يثره مشروع من قبل؟! وكان أبسط الاتهامات التي وجهت إليه أنه ليس أكثر من وحش معدني سوف يلتهم جمال باريس".

أجل لقد انقسم الناس حوله دون أن يدرك أحد - سواء كان من المؤيدين أو المعارضين - أن مولده هو إيذان بعصر جديد هو عصر التكنولوجيا. فقد صمم المهندس جوستاف إيفل هذا البرج بمناسبة إقامة معرض باريس العالمي 1889 ، وكان هذا المعرض في حد ذاته هو إعلانا عن دخول فرنسا للأزمنة الحديثة، كأنه افتتاح للقرن العشرين برمته. وجاء هذا البرج ليدعم هذا الإحساس بارتفاعه الذي تجاوز ال 300 متر وكمية الحديد التي بلغت 800 طن ليؤكد أنه فعلا وحش معدني وليد عصر جديد لم تعرفه البشرية من قبل.

الذوبان في التاريخ

وأهبط البرج كي تحتويني معالم باريس التاريخية. أمشي كأنني أتنفس ذكريات هذه الأيام، من قوس النصر الذي يطل على جادة الشانزليزيه أطول وأضخم جادة في العالم. تطل علينا من فوق تل مونتمارتر قبة كنيسة القلب المقدس، حيث يثوي أبطال فرنسا وعظماؤها.. وأسير من ساحة الكونكورد التي تتوسطه المسلة المصرية العتيقة، إلى نهر السين بجسوره العديدة.

أسير في جادة سان ميشيل وأعبر جسرا إلى جزيرة وسط السين تنتصب فوقها كنيسة نوتردام العتيقة حيث ترتفع الأبراج القوطية ولا تكف الأجراس عن الرنين. أتذكر أحدب نوتردام، تلك الرواية التي كتبها أديب فرنسا العظيم فيكتور هوجو لقد كان هذا الأحدب يعيش معزولا داخل هذه الكاتدرائية الضخمة، ولكنه أحب إحدى فتيات الغجر اللواتي كن يرقصن أمام ساحة الكنيسة وأراد أن يستولى عليها وكان في ذلك نهايته. جو الكاتدرائية المعتم يذكرني بهذه المأساة. كأن كل الأيقونات التي فيها تحدثني عن عذاب العشاق الذين عانوا من القبح دون أن يظفروا بلمسة من الحب.

أعاود السير من جديد في شارع ريفولي الطويل، تقودني قدماي إلى ميدان الباستيل. عمود تذكاري طويل فوقه نسر مجنح. ذكرى سقوط هذه القلعة الشامخة، تحول المكان إلى أحدث دار للأوبرا تشهدها باريس. الزمان يتغير وباريس تمزج بين تاريخها وحاضرها، تأخذ كل معالمها الثابتة معها إلى أطراف القرن الحادي والعشرين.

ولكن التاريخ يقف معي مبهور الأنفاس عند بوابات متحف اللوفر، فهذا الحصن الذي أعده الملك فرانسوا الأول قد تحول بفضل الثورة الفرنسية إلى متحف متاح بكل ما فيه من كنوز لكل الناس.

كان هذا الملك هو أول من وضع في المتحف أول مجموعة من اللوحات الفنية، وهو أيضا أول من امتلك لوحة "الجيوكندا" الشهيرة. وقد افتتح المتحف للمرة الأولى في 10 أغسطس عام 1793 وسط أتون الثورة التي عصفت بكل شيء ولكنها وقفت احتراما وإجلالا أمام كل الآثار الفنية. لقد جمعت من قصور النبلاء وظلت هي نفس المجموعة حتى وقت قريب.

وفي عام 1820 شهد هذا المتحف طفرة جديدة بفضل جان فرانسوا شامبيليون الذي حل رموز اللغة الهيروغليفية القديمة وبدأ الهوس الفرنسي بجمع آثار مصر الفرعونية إما عن طريق الهبات أو الشراء أو الحصول عليها من أي مصدر. إن اللوفر يمتلك ثالث أكبر مجموعة من هذه الآثار بعد المتحف البريطاني والمتحف المصري. وهو يعد الآن لافتتاح هذا القسم بعد أن يتوسع على حساب مبنى وزارة المالية التي سوف تضم إلى المتحف.

لم يشأ الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران أن يمضي عهده دون أن يضيف لمسته على هذا المتحف العتيق. فقد أراد في عام 1981 أن يحوله إلى أضخم متحف في العالم، وكانت طبيعة التحدي أن يحول هذا المبنى الذي يغلب عليه طابع القرن التاسع عشر إلى أبواب القرن الواحد والعشرين. وهكذا لم يقرر فقط إضافة قاعات جديدة تستوعب المزيد من المقتنيات والزوار. ولكن طرح مشروعا دوليا لتطوير شكل المتحف. وقد تقدم إلى هذا المشروع مهندس أمريكي من أصل صيني هو "مينج بي" في إطار المسابقة وفاز تصميمه في مارس عام 1983.

كان هذا التصميم هو عبارة عن هرم زجاجي. ارتفاعه 81 قدما تدعمه القوائم المعدنية، أي أنه أقل من منتصف الأفريز الذي بناه نابليون الثالث، والذي يبلغ ارتفاعه 150 قدما، ويخفي هذا الهرم تحته مدخل المتحف وتتناثر حوله ثلاث من النافورات. وميزة هذا التصميم أنه لا يخفي أي شيء من التفاصيل التقليدية للمبنى القديم.

وكالعادة أثار هذا التصميم موجة من الاعتراضات وأطلق عليه اسم الهرم المثير للسخرية، واتهم النقاد الرئيس الفرنسي الواقع في عشق الآثار الفرعونية بأن المهندس قد خدعه حين باعه الهرم مرة أخرى ولكن الهدف الرئيسي منه كان هو ربط المتحف القديم بالقرن الواحد والعشرين.

وحتى يتم الافتتاح الجديد فإن اللوفر مكون من 240 غرفة تمتد مساحتها حوالي 100 ألف قدم وسوف تصل بعد التوسعات إلى 165 ألف قدم، وهو بذلك يحقق حلم الراحل ميتران في أن يكون اللوفر هو المتحف الأضخم.

إن المرء لا يملك إلا أن يقف مدهوشا أمام تلك الابتسامة الغامضة على وجه "الجيوكندا" والتي أثارت مزيدا من الحيرة والغضب أيضا، فمنذ أن رسمت في عام 1792 وقد فتن الملايين بهذه الابتسامة التي هي مزيج من الحزن والسعادة، وقد افتتن بها ليوناردو دافنشي، فظل يحملها لمدة ثلاث سنوات في كل مكان يذهب إليه. وقد أثارت هذه الابتسامة غضب الكثيرين الذين حاولوا الاعتداء على هذه اللوحة وتمزيقها. ولعل هذه اللوحة التي تعتبر واحدة من أهم المقتنيات. ويليها في الأهمية تمثال "فينوس دي ميلو". الفتاة الجميلة دون ذراعين، لقد اكتشفت في اليونان، وتم نقلها بعد ذلك إلى باريس واحتلت المدخل بحيث يمر أمامها كل الزوار.

ويبقي اللوفر علامة من التراث الثقافي الفني الضخم الذي تحفل به باريس والذي يمكن أن يحتوي بتفاصيل كنوزه على استطلاع متفرد.

نظرة على المستقبل

ولكن باريس لا تعيش على ذكريات التاريخ فقط. إنها تستخدم هذا التاريخ كي تدخل إلى العصر الحديث. ويقولون دائما إن باريس تسبق دائما أوربا بسنة كاملة، وهي تحرص على هذا السبق. ولعل هذا الانفتاح على أحلام القرن الواحد والعشرين يتجلى في أكثر صوره في حدائق لافاييت.

في عام 1862 عندما قام البارون هاوسمان بتنظيم باريس جمع مكان ذبح الأغنام والأبقار في مكان واحد ولمدة 100 عام ظل هذا هو النشاط الوحيد الذي يمارس في حدائق لافاييت. وفي عام 1974 أغلق هذا المذبح بصفة دائمة وتحولت مساحته بالإضافة إلى مساحات أخرى كانت تحتلها بعض المشروعات الصناعية. لقد تحولت هذه المساحة إلى ما يمكن أن نطلق عليه حدائق المستقبل. فقد حفلت بالأنشطة والمعارض وأندية السينما وأماكن التريض والنزهة بالقوارب، والأهم من ذلك كله أنها احتوت على مدينة التكنولوجيا والصناعة. عندما كنت اقترب من المدينة الراقدة فوق مرتفعات شامون وحدائق لافاييت الخلابة تمتد من حولنا قال لي مرافقي بير لابورت المتحدث الصحفي في المدينة: "إنها عبارة عن سلسلة من المعارض. ولكنها معارض من نوع مختلف. فهي تسمح بالتفاعل بين المتفرج والمادة المعروضة. وهي تتيح له التعلم من خلال اللعب والمرح. من أجل ذلك كان اهتمامنا بالأطفال. فهم الأكثر خيالا والأكثر قابلية على التعلم".

كانت القبة المعدنية الضخمة التي تتقدم المدينة تأخذ ببصري، تنعكس عليها صورة السماء الرحبة. وخضرة الحدائق الممتدة، كأنها تخرج بين خيالات الفضاء وأرض الواقع. ومرة أخرى عاد مرافقي يقول: "سوف نبقي هذه القبة المعدنية حتى نهاية جولتنا لأنها جديرة بأن تكون الختام المدهش لجولتك في عالم تكنولوجيا الغد".

كنا نتجول وسط سلسلة من المعارض المتتابعة التي توضح الحقول الأساسية التي تطورت فيها التكنولوجيا، الفضاء والمحيطات والمحركات والناقلات والطائرات وكل أشكال الطاقة التي استخدمتها البشرية، بدءا من نيران الإنسان البدائي حتى الطاقة الكامنة في أصغر نيوترون. كان هناك أيضا ملخص للوسائل التي نتعرف بها ونكتشف عالمنا. كيف نعرف تركيب الصخور. ولماذا تنفجر البراكين ؟، وكيف تسير النجوم عبر المجرات البعيدة؟ ، وكيف تسير بيولوجيا جسم الإنسان؟، كل هذه الأسئلة تتم الإجابة عنها بمختلف الوسائل من الصور إلى المجسمات إلى برامج الكمبيوتر.

ثم تقودنا المدينة إلى ما يمكن أن نطلق عليه المعارض المتفاعلة، وهي تلك التي لا تكتمل الفرجة فيها إلا من خلال المشاركة، والمشاركة هنا تتم من خلال اللعب والمرح لذلك يجتذب هذا القسم العدد الأكبر من الشباب والأطفال، لأنه يشبع حبهم للمغامرة والاكتشاف. فهذا القسم يأخذك في رحلة بين النجوم. ويغوص بك تحت أعماق المحيط ويجري لك تجارب في الضوء ثم يقودك بعد ذلك إلى مختبر المخترعات حيث يمكنك أن تتعامل بنفسك مع هذه الآلات التي تمت إعادة صياغتها بدقة ولكن بصورة مبسطة.

ولعل أكثر زبائن المدينة مرحا وصخبا هم الأطفال. لقد وجدتهم حولي في كل مكان كانوا يمارسون علاقتهم مع هذه التكنولوجيا كأنها امتداد للألعاب المنزلية. إن هناك تجارب تناسب كل الأعمار وتغني كل الحواس.

ونعود مرة أخرى للقبة المعدنية العملاقة. إن قطرها عبارة عن 36 مترا وهي مغطاة بطريقة هندسية دقيقة بحوالي 6442 مثلثا من المعدن. وفي داخلها توجد دار عرض سينمائية زاوية شاشتها 180 درجة مئوية ومساحتها حوالي مائة متر مربع أي أن الشاشة تستدير حولك وتأخذك في أعماقها، حيث تجد نفسك في حالة من الرؤية والاندماج. والأفلام تتضمن رحلات إلى المجرات البعيدة وأعماق المحيطات وتغوص أيضا وسط لهيب البراكين. وأنت لا تجلس ثابتا لتشاهد ما يحدث ولكن المقعد الذي تجلس عليه يتحرك ويأخذك في زوايا متعددة بحيث يجعلك بشكل أو بآخر مشاركا في العرض.

إن مدينة التكنولوجيا والصناعة تقدم لنا إشارة بسيطة لعالم الغد بكل ما فيه من اختراعات وأحلام.

بحثا عن المرح

في طريقي إلى مدينة ديزني كان هناك العديد من الخواطر تدور في ذهني حول الفرنسيين ومدى حبهم للمرح. وخلافا للرأي الشائع فإن التمتع بروح الفكاهة لم يكن في يوم من الأيام من خصائص أبناء "الغال" ففي القرن السادس عشر قال الفيلسوف "مونتجيو": "إن الإحساس بالسعادة هو أكبر حافز على قلة الإجادة" وعندما سأل أحد الصحفيين الجنرال ديجول إذا كان سعيدا رد عليه الجنرال في استنكار "ماذا.. هل تعتقد إنني أبله ؟".

هذا الرأي تغير إلى حد كبير في الآونة الأخيرة.. هناك مزاج فرنسي يميل للمرح والاستمتاع بالحياة، وبرغم القنابل التي هزت العاصمة في الآونة الأخيرة قبل زيارتي مباشرة، وبرغم الإضرابات التي شلت الحياة تماما فقد نشرت مجلة الإكسبرس الأسبوعية - والواسعة الانتشار - تحقيقا تحت عنوان "سعيد على الرغم من كل شيء". وقد أكدت المجلة في استطلاع قامت به أن 95% من الفرنسيين يشعرون بالسعادة بالرغم من القنابل والبطالة والأقليات والمهاجرين ومشاكل الجنس والضرائب، حتى ليبدوالأمر وكأنهم جميعا غير فرنسيين.

الفرنسيون يحاولون أن يحذوا حذو الموجة العالمية في الانفتاح والمرح وحب الحياة. وهم يطلقون على ذلك - من باب التشنيع - "النمط الأمريكي للحياة"، ولكنهم قد بدأوا في ذلك بالفعل، والدليل على ذلك هو قبولهم لوجود "ديزني لاند" بجانب عاصمتهم التي ترفع لواء حماية الثقافة اللاتينية.

ومثل كل شيء فقد أثار مشروع إنشاء "ديزني لاند" عاصفة هو جاء لم تهدأ.. فلا يكفي الاستثمارات الضخمة التي تطلبها مثل هذا المشروع ولكن كل الأقلام انبرت للتحذير من الغزوالأمريكي. وتساءلت ألا يكفي أن مطاعم الوجبات السريعة قضت على المطبخ الفرنسي الشهير؟! ها هو "ميكي ماوس" يأتي شخصيا إلى بلاد روسو وفولتير.

لقد كان الشيء المفيد لي في هذه المرحلة أن المتاعب المالية قد انعكست على "والت ديزني" الأوربية واضطرتها لتخفيض تذاكر الدخول بمقدار الثلث في محاولة منها لجذب المزيد من الزبائن. ديزني لاند هي أشبه بحلم واقعي تجسد من خلال أفلام "والت ديزني" وشخصياته الكارتونية. تستقبلك البوابات الشبيهة بقصر سندريللا، فيخيل إليك أنها تركت حذاءها في مكان ما. ثم تدخل مباشرة إلى شوارع المدن الأمريكية فكأنك أفقت على واقع آخر وعلى مدى 56 هيكتارا - هي المساحة التي أقيمت عليها المدينة - تأخذك أقسامها الستة إلى واقع من صنع الخيال. في قسمها الأول تحس بطعم المدن الأمريكية الصغيرة ببيوتها الخشبية وحاناتها وصالاتها وملاهيها الليلية. مواقف الخيل، ورعاة البقر يتجولون في الشوارع بمسدساتهم وتحدياتهم العشوائية. أما القسم الثاني فترحل معه إلى مدن الحدود، حيث عمال المناجم وسط الجبال العالية، وعليك أن تركب القارب الضخم ذا المروحة الخلفية وتطوف في البحيرة لتشاهد عند أطرافها الرعاة والصيادين والمنجمين.

أما القسم الثالث فيقودك إلى عالم المغامرات المثيرة التي صنعها خيال الروائيين وكتاب الأطفال. جزيرة الكنز. و"روبنسن كروزو" و"انديانا جونز"، سكان الأدغال في إفريقيا والبحر الكاريبي، وللأساطير العربية مكانتها أيضا.. فعلاء الدين ومصباحه السحري له مكانة خاصة في هذا القسم.

ويحتوي قسم أرض الخيال على نماذج من كل حكايات الإخوان جريم والتي وجد فيها "والت ديزني" معينا لا ينضب من الأفلام. إنك تدخل إلى متاهة "أليس في بلاد العجائب" وتخرج منه إلى القصر الذي وجدت فيه الأميرة الوحش الطيب القلب. وتشاهد الكوخ الذي وجدت فيه "سنوهو ايت" أقزامها السبعة. يقابلك "بينوكيو" بمنخاره الخشبي الطويل وينفث التنين بعيدا عن وجهك.

ويخصص القسم الأخير من المدينة نفسه لعالم المستقبل. أحلام الخيال العلمي كما تجسدت في خيال جول فيرن وآرثر كلارك وإيزاك سيمون.. إنها تجسد لك مركبات الفضاء والطائرات ومسارات النجوم وتأخذك عبر القبة السماوية إلى رحلة خلف النجوم.

يوم من المتعة والمرح.. فكيف يحس به الفرنسيون يا ترى؟.

شوارع الغضب

إن باريس برغم كل ما فيها من انطلاق تعرف جيدا كيف تكون غاضبة. لقد شهدت ملامح هذا الغضب في الشهو ر الماضية، بينما أنا أتجول في شوارعها، ولست أدعي أنني تنبأت بما حدث، ولكني أحسست بهذا الجوالمشحون بالقلق، وأنه برغم مظاهر الرفاهية والراحة فإن الأيام الصعبة تدق على الأبواب.

لقد بدا الأمر وكأن هناك عاصفة قد هبت من لا مكان. فالإصلاحات التي تم إقرارها وهي رفع سن المعاش وتخصيص جزء من شبكة السكك الحديدية كانت أمرا صغيرا قياسا إلى كمية الغضب التي تولدت عنها. فمثل هذه الإصلاحات تمر بها الولايات المتحدة - وربما بدرجة أقسى - ولكنها لم تحدث هذه الدرجة من رد الفعل. لقد شلت الإضرابات مظاهر الحياة والحركة وعطلت الحالة الاقتصادية وقضت على موسم السياحة، وامتدت آثارها إلى كل الدول الأوربية المحيطة بفرنسا مثل : إنجلترا وبلجيكا وألمانيا، بل وجعلت حكومة جوبيه التي لم تتشكل إلا منذ أشهر قلائل تضع ظهرها للحائط. لماذا؟

قال لي أكثر من واحد من الذين قابلتهم. إنه الخوف من المستقبل. هذه الإصلاحات ما هي إلا مقدمة لسلب كل شيء. فعندما حدثت أشهر ثورة للشباب في عام 1968 والتي استقال على أثرها الجنرال ديجول أصبح هناك عقد شبه مكتوب بين العمال والحكومة.. على الأخيرة فيه أن تكفل للطبقة العاملة مكاسب سخية من الرعاية الاجتماعية. ولقد كان الأمر أشبه بنوع من المزايدة في مواجهة الحرب الباردة التي كان يقودها المعسكر الشيوعي. والآن وبعد انتهاء هذا التحدي فإن الحكومات الرأسمالية الآن - وعلى رأسها فرنسا - تحاول أن تفسخ هذا العقد وتتراجع عن دعمها المالي للرعاية الاجتماعية.

لقد تزايد الإضراب من أكتوبر الماضي أسبوعا إثر آخر، بدأ الأمر بالنقابات العمالية ثم انضم إليهم الأطباء، ثم طلبة الجامعة. كأن كل القوى الشعبية التي سبق أن تحركت في الستينيات تعاود التحرك من جديد، ولكن هذه المرة ليس هناك مطلب موحد. كل فئة لا تطالب إلا بالقضايا التي تخصها، وكلها تدور بشكل أو بآخر حول التخفيض الذي توشك أن تجريه الحكومة على ميزانية الرعاية الاجتماعية. ولكن السبب الحقيقي هو الخوف من انتهاء أسطورة الرفاهية التي تعيشها فرنسا مع نهاية هذا القرن. وهي ليست وحدها في هذا الأمر. إن هناك نفس المشاكل في ألمانيا وإيطاليا والنمسا، ولكن باريس هي المقياس الحقيقي لكل هذه المدن. وهي التي جرأت على إظهار مشاعر الغضب والخوف الرابض في أعماق المدن الأخرى.

فمنذ نهاية الحرب العالمية الأولى وقد كسبت الطبقتان العمالية والوسطى حقوقا اجتماعية كبيرة، معدل أجور متزايدا. ساعات عمل أقل، إجازات طويلة وسخية، معاشات تكاد تصل إلى مستوى الأجر العادي. إنها "الحياة المتحضرة " على حد التعبير الأوربي، وقد وجدت الشركات والمؤسسات نفسها تدفع في مقابل كل 100 فرنك من الأجور حوالي 80 فرنكا ثمنا لهذه المزايا الاجتماعية الأخرى، وبذلك أصبحت كلفة الاستثمار في أوربا هي من أعلى المعدلات في العالم، ومع ظهور دول آسيا على الساحة بدأت الاستثمارات تهرب من أوربا وتتدفق على آسيا.

وطبقا لاتفاقية "ماستريخت" التي عقدت عام 1991 فإن أوربا سوف تصل إلى اتحاد اقتصادي مع 1999 وسوف تكون هناك عملة موحدة تجعل الصراعات الأوربية في أي مجال من المجالات ضربا من الماضي. ولكن هذه الاتفاقية تشترط على كل الدول الأعضاء أولا أن تقضي علي العجز في ميزانياتها. وأن تخفض الإنفاق العام بما لا يقل عن 3% من إنتاجها القومي. ولكن فرنسا وإيطاليا تعانيان عجزا يبلغ ضعف المعدل المطلوب التراجع عنه. بل إن معدل الاستثمارات في السنوات الأربع الماضية هو "صفر" كما تؤكد التقارير الحكومية. والإصلاحات المطلوبة منها هي كالدواء المر عليها أن تتجرعه بلا تذمر.

فعليها أن تبدأ من العام الحالي بتخفيض نسبة الإنفاق 5% وهذا التخفيض الذي قد يبدوضئيلا هو الذي أثار كل مشاعر الغضب. ليس لقيمته على وجه التحديد لأنهم يعرفون أن هذا فقط مجرد مقدمة. وعلى حد قول المعترضين فإن الحكومة تأخذ من معاهدة "ماستريخت" ستارا لتخفي فشلها.

مدينة حساسة

باريس حساسة لكل التغيرات. لقد تغير النمط الفرنسي في الحياة. والذين زاروها مثلي على فترات متفاوتة يدركون أن هذا التغيير قد شمل أنماط العمل والتعليم، وحتى أسلوب العواطف الفرنسي الشهير، باختصار تغيرت قواعد اللعبة القديمة. وصلت بدلا منها قواعد غير مفهو مة أو على الأقل لا تخضع لقواعد المنطق الذي ألفه الفرنسيون حتى الآن.

كل الذين تحدثت معهم في الحدائق ومعظمهم من المسنين الذين عملوا في دوائر الحكومة لسنوات طويلة يشعرون بأنهم قد أدوا ما لديهم تجاه المجتمع دون أن يتلقوا المكافأة، وما حدث في الشوارع هو صدى انهيار هذه التخيلات، تخيلات الفرنسيين عن أنفسهم، وتخيلاتنا نحن أنفسنا عن الفرنسيين، فالحياة لم تتغير عن العام الماضي فقط، ولكنها تغيرت عن الأمس. قال لي أحد هؤلاء المسنين: "لقد فقدت فرنسا متعتها. انظر كيف يعمل الناس، كيف يأكلون ويلبسون، إن عليك أن تتعلم، وأن تتأقلم وإلا تمت تنحيتك جانبا".

وفي زيارتي لجريدة "اللوموند" قال لي جان فرانسيس معللا أسباب خيبة الأمل التي يشعر بها الفرنسيون في هذه المرحلة: إنهم جميعا يضعون اللوم على طبقة التكنوقراط. ويقصد بها تلك الطبقة التي تخرجت في الكلية الوطنية للإدارة وهي الكلية التي تستقطب أهم عناصر خريجيها للعمل في دوائر الدولة منذ عام 1981 حتى الآن سواء في مجال الأعمال أو في مجال السياسة. وهذه المدرسة هي آخر الإنجازات التي قام بها الرئيس الراحل "شارل ديجول"، حتى يستطيع أن يخرج طبقة تتولى هذه المناصب بناء على الكفاءة والموضوعية. ولكن هذه الطبقة تجمدت. تحولت إلى مركز وأقطاب سالبة تدور حولها الحياة الاجتماعية والسياسية.

لقد صدر في فرنسا أكثر من كتاب. كلها تلوم هذه الطبقة وتتهمها بأنها قد أصبحت معادية لكل ما هو جديد، ولم يعد لها هم غير حماية النتائج التي أنجزتها في السابق. لم تعد تقوم بعمليات الرقابة كما ينبغي، لم تعد قادرة على المنافسة. لم تعد لها القابلية على إعادة هندسة نفسها كما يقول المصطلح الإداري. كانت النتيجة هي ذلك السبق الكبير الذي قفزت به الشركات والمؤسسات اليابانية والألمانية وحتى الأمريكية.

ولكن رجل الشارع العادي يلقي اللوم على أول كبش فداء يقابله في الطريق وأعني بهم المهاجرين، إنه يتهمهم بأنهم السبب وراء البطالة وبالتالي وراء الأزمة الاقتصادية، ووراء حالة عدم الإحساس بالأمان التي يشعر بها المواطن الفرنسي المرفه. ولكن الواقع يقول إن المهاجرين لا يزالون يحتلون أسفل القائمة في سلم الأعمال، ولا يقومون في الأغلب الأعم إلا بالأعمال التي يأنف منها العامل الفرنسي ويتلقى الأجر الضئيل الذي يفضل عنه العامل الفرنسي إعانة البطالة، والمجتمعات التي يعيشون فيها - برغم أنها في باريس - فإنها تنتمي للعالم الثالث أكثر من انتمائها إلى "عاصمة الجن والملائكة".

الغضب يتصاعد أيضا تجاه نظام التعليم الذي أصبح يغلب عليه الطابع النفعي، فبدلا من دراسة الأدب والفلسفة والتاريخ أصبح الطابع الغالب على الدراسة هو الموضوعات العملية التي تهيئ الطالب للوظيفة لا التي ترفع من مستواه الروحي والفكري، وحتى دراسة اللغة الإنجليزية التي أصبحت أكثر انتشارا، لم تدرس من حيث هي آداب للغة، ولكن من حيث إنها مصطلحات علمية وإدارية.

باريس تفقد رومانسيتها - كما يؤكد الكثيرون - المهاجرون الذين كانت تنظر إليهم بعين العطف تحولوا إلى عبء على كاهلها، نسبة انتشار الإيدز في ارتفاع في مجتمع عرف عنه الحرية في العلاقات الجنسية، نسبة الطلاق تواصل ارتفاعها، وصلت الآن إلى 30% وتركت العديد من المشاكل الاجتماعية والناس الوحيدين. تؤكد الإحصائيات أن كل واحد من ثلاثة من أهل باريس يعيش وحيدا. وكما يقول الفيلسوف الفرنسي الآن فينكل: في الخمسينيات والستينيات كانت فرنسا هي بلد الحب. ولكننا نعيش الآن فترة من الخوف والانكماش والتباعد عن الآخرين.

وبرغم كل هذا فإن فرنسا هي بلد الأعمال الجميلة إذا عمل الفرنسيون معا. وهي قادرة على التحدي الذي تواجهه الآن. والمشاكل التي تعاني منها باريس الآن هي مشاكل القرن القادم، لأنها الأسرع من الجميع على الإحساس بالتغير، والأقدر من الجميع على التكيف. وأودع باريس وقد رأيت فيها الكثير، رأيت فيها مرآة النفس ومرآة العصر برغم أنني لم أشاهد الجن والملائكة، الذين تحدث عنهم طه حسين.

 

أنور الياسين

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




صورة الغلاف





باريس مرآة القرن الواحد والعشرين.





مدينة الأناقة والجمال لا تهدأ عروض الأزياء فيها وهذه مجموعة من تصميم كريستيان لاكروا.





مدينة الأناقة والجمال لا تهدأ عروض الأزياء فيها وهذه مجموعة من تصميم كريستيان لاكروا.





محلات باريس تعرض دائما أزياء العام القادم





المرح وحب الحياة





صناعة الحقائب اليدوية من تصميم لوي فيتون ورحلة نهرية تطوف.





احتفالات يومية تقام في مدينة ديزني لاند الأوربية على أطراف باريس.





برج إيفل ..رمز باريس





المظاهرات الغاضبة تجتاح شوارع باريس.





المديرة العامة لجريدة اللومند الفرنسية





أوبرا باريس.. كتبت عنها أعمال أدبية كثيرة أشهرها شبح الأوبرا.





نهر السين.. على جزيرتين منه كان الميلاد الأول لمدينة باريس.





متحف اللوفر من الداخل وكنوز من الفن الجميل.





برج إيفل.. الوحش المعدني الذي تحول الى رمز لباريس.





مدينة التكنولوجيا والصناعة.. مدخل باريس للقرن الواحد والعشرين.





مدينة الأناقة والجمال لا تهدأ عروض الأزياء فيها وهذه مجموعة من تصميم كريستيان لاكروا.





الهرم الزجاجي الذي أقيم أمام اللوفر وتسبب في ضجة كبيرة.





جلسة عائلية للرسام لومييه. احد مقتنيات متحف اللوفر.





كنيسة نوتردام بابراجها القوطية الطراز.. ترى أين يوجد أحدب نوتردام الآن؟